الفكر العربي الإسلامي والأزمة السودانية (3)

واجهت المجتمعات السودانية موقف شديد الصعوبة منذ بداية احتكاكها بالفكر العربي الإسلامي، فقبل ذلك الفكر كان الأفراد والمجتمعات العربية التي تأتي إلى السودان تذوب داخل المجتمعات السودانية باختيارها نتيجة للمراحل الطويلة التي قطعتها المجتمعات السودانية في تحولاتها، واستوعبت من خلالها كيفية احتواء الآخر دون الضغط عليه من اجل التغير أو التكيف وذلك من خلال الكثير من القيم التي تجدها المجتمعات الأخرى انها تحقق الإنسانية دون الحاجة إلى شيطنتها أو تحولها إلى آخر ضد أو متخلف اجتماعيا وثقافيا. فكان تاريخ المجتمعات السودانية هو تاريخ تذويب للمجتمعات الأخرى داخله مما جعلها تنتج الكثير من القيم التي تحقق إنسانية ذلك الكل، وكانت كل أحداثها الاجتماعية عبارة عن طقس متكامل من القيم يشارك به الجميع، فلكل دوره الأساسي في ذلك الطقس من اجل أن يحقق الكل إنسانيته، وكانت القيم والطقوس تتابع وتتكامل لتحقيق إنسانية الكل المجتمعي. ولكن ما كان ينقصها هو وجود فكر يعبر عن تلك التحولات وعن المجتمع السوداني ونظرته للحياة، فتقازمت النخب جيلا بعد جيل بينما ظل المجتمع السوداني شامخا يشهد على ذلك الكثير من المجتمعات الأخرى رغم محاولات الفكري العربي الإسلامي المستمرة من اجل هدم الثقافة والحضارة السودانية لسيادة رؤيته تلك مما يحول الإنسان السوداني والحضارة السودانية إلى مسخ مشوه.
ماهية الهوية:
الهوية حسب تعريفنا المبسط لها هي حدود معني الإنسانية، ودون الخوض في جدل فلسفي طويل نقول: ان داخل كل فرد ذات كلية طبيعية تبدا من الجيني إلى المجتمعي إلى الثقافي ثم بعد ذلك يبدأ التعرف على الآخر الإنساني، فمن خلال تلك الذات الكلية يدرك الفرد معني إنسانيته داخل الكل المجتمعي والثقافي ومحاولة إدراك الاختلاف الإنساني في الآخر الثقافي. وبالإضافة إلى المجتمع توجد القيم والبيئة، فمن خلال تلك الثلاثية يحقق الفرد ذاته. وتلك رؤية المجتمع والثقافة السودانية التي استطعنا ان نستنبطها من خلاله، فخلاف المجتمع السوداني لا يوجد مجتمع أو حضارة تؤمن بالآخر الإنساني، فالثقافة الغربية تقول بالآخر المتخلف عنها فهي في الأمام تتبعها بقية المجتمعات، اما الثقافة العربية فتقول بالفسطاطين اما هي اما الشياطين والكفرة. فلا توجد حضارة مارست الحق في الوجود والاختلاف بخلاف الحضارة السودانية. (لمزيد من الإضاءة للمفاهيم السابقة راجع كتاب فلسفة التحولات الاجتماعية بمدونة الثقافة السودانية وأزمة التدوين).
فالهوية إذا ارتباط جيني مجتمعي ثقافي يحقق الفرد ذاته من خلالها ودون أن يحاول شيطنة الآخر. ويمكن للفرد أن يحاول الهروب ومحاولة إيجاد إنسانية خارج إطار هويته الذاتية، ويمكن ذلك من خلال المرونة التي خلق على أساسها الإنسان، ولكن ستظهر الأزمة نتيجة لمحدودية القيم التي يحاول أن يحقق من خلالها إنسانيته، وستظهر بصورة جلية في الجيل الذي يخلفه والأجيال التي تأتي بعده. فنافذة الهروب تلك تصبح غير كافية لتحقيق إنسانيتها وستحتاج إلى مظلة ثقافية لها ارتباط بها حتى تدرك من خلالها إنسانيتها وتقيم من خلالها الآخر.
ويستمر الجدل بين الحاجة إلى إيجاد هوية فكرية والحاجة إلى ممارسة الإنسانية في ظل هوية قيمية ومجتمعية، ويتأثر كل منهما بالأخر ويرتد على الفرد الذي يحتاج إلى كليهما، إلى مظلة فكرية ثقافية مهما كان نوعها والى قيم ومجتمع مباشر لتحقيق الإنسانية.
من مفهوم الهوية ذلك ندرك ان لكل مجتمع هويته الخاصة التي ينتمي إليها كل أفراده وترتبط بتحولاته الاجتماعية وقيمه الذاتية التي يحقق من خلالها أفراده إنسانيتهم، فلا وجود للقيم المعيارية أو الإنسانية المعيارية، فالإنسانية واحدة ولكنها تتحقق بصور مختلفة باختلاف تحولات تلك المجتمعات، وتتشكل إنسانيتهم من خلال الجدل بين التحولات وبين البيئة والاحتكاك مع الآخر المختلف وينتج من خلال ذلك قيم تضاف إلى القيم المتراكمة تاريخيا أو القيم المزاحة من اجل قيم أخرى.
إذا كان ذلك مفهوم الهوية، فماذا فعل الفكر العربي الإسلامي؟
أولا في هوية الإسلام لغي الفكر العربي الإسلامي مفهوم الاختلاف الإنساني وقسم المجتمعات إلى مجتمعين متضادين مسلم وكافر، وحمل الإنسان المسلم الكثير من القيم التاريخية للإنسان العربي. فهي هوية ضد الطبيعة الإنسانية واختلافاتها وتشوه ليس المجتمع الواحد بل الأسرة الواحدة فيمكنها ان تخلق من تلك الأسرة أو تلك المجتمعات أعداء لبعضهم البعض، فيفصل مفهوم الفرد المسلم الإنسان من هويته الجينية الأساسية قبل هويته الاجتماعية والثقافية.
فإذا يلغي الفكر العربي الإسلامي في مفهومه عن الهوية الإسلامية أولا الاختلاف الإنساني بين المجتمعات والذي هو طبيعة ظاهرة لا تحتاج إلى فكر لأنارتها، وكذلك يلغي مفهوم التحولات والاختلاف القيمي بين المجتمعات والذي هو أيضا طبيعة ظاهرة، وكذلك يلغي ظاهرة الاختلاف اللغوي ويدعو إلى سيادة اللغة العربية في دعوى ظاهرها الإسلام وباطنها العنصرية لذاته العربية والقول ان اللغة العربية هي لغة أهل الجنة في استعلاء ليس في الدنيا ولكن في الآخرة أيضا، وهي من أوهام الفكر العربي الإسلامي الكثيرة.
فيشوه الفكر العربي الإسلامي المجتمعات الأخرى بأفكاره تلك ويجعل منها مسخ مشوه لا تنتمي إلى الإنسانية وليس إلى ذاتها باعتبارها قد فارق مفهوم الذات عندما انتمت إلى ذلك الفكر، وهي هوية جامدة داخل اطر ضيقة وكذلك هي هوية لا علاقة لها بالزمان والمكان، فذلك الفكر أقصى نفسه من الحياة والجدل معها ولذلك لا مكانة لأفكار أخرى بخلاف ما قاله الأولون، رغم محاولة تلطيفها من قبل البعض إلا انها مغلقة داخل حقل فكرى دائري. فمفهوم الإسلام ليس مجرد ولكنه حلقة من القيم والأفكار التي تجاوزتها اغلب المجتمعات في تحولاتها وتؤدي كل منها إلى الأخرى دون إمكانية لإدخال أفكار أو قيم جديدة، فيحاول مفهوم الإسلام إرجاع المجتمعات إلى مراحل تحولات تاريخية لمجتمع محدد، وتم إغلاق تلك الدائرة بما يسمي بقفل باب الاجتهاد عند الفكر العربي الإسلامي وحتمية إرجاع المستجدات إلى الأصول الأربعة حسب تسميته لها فيتم قياس الحاضر على الماضي بافتراض وجود النموذج الإنساني الإلهي المتمثل في ما يقاس عليه.
اما في الهوية الثانية أو المظلة الفكرية الثانية، هي الهوية العربية وكانت تمثل الحد الإنساني بين العرب الممثل للجنس الإنساني الخالص وبين مجتمعات الملونين والعبيد وغيرها من المجتمعات التي لا يمكنها ان تصل إلى الميزة العربية التي اختصها الله بها حسب ذلك الفكر كما وجدنا في المقال السابق. ويهمنا في هذا المقال مفهوم العبيد الذي ارتبط بالمجتمعات السودانية في الذهن العربي، فما هو ازرق أو اسود أو اخضر حسب اختلاف التسمية ينتمي إلى كل ما هو سيء في الذهن العربي من الشيطنة والسحر الأسود وغيره، فالعبيد هم والحيوانات سواء في ذلك الفكر، فهم ليسوا بشر كاملين ويرتد ذلك على القيم أي لا يجب معاملتهم كآدميين. وهي كما سابقتها هوية اقصائية تعمل على الفصل بين المجتمعات. فوجود تلك الهوية اثر بصورة سلبية على التكامل الذي كان بين المجتمعات السودانية وكذلك أثرت نوعا ما على نظرة الاختلاف الإنساني وعدم شيطنة الآخر أو نزع الإنسانية عنه التي كانت سائدة لدي المجتمعات السودانية قبل قدوم الفكر العربي الإسلامي إلى السودان.
اما الهوية الثالثة فهي الهوية القبلية فهي الأساس وهي المظلة التي يدرك من خلالها الفرد العربي معني الإنسانية ويتعامل على أساسها إلى الآن في مناطق الجزيرة العربية، فكل تلك الهويات في نظره هي اسمية فقط لا قيمة حقيقة لها، اما القبلية فهي الوحيدة التي يحدد الإنسانية على أساسها، والهوية القبلية ضد الهوية الثقافية نتيجة لتعريفها للإنسانية داخل أفراد مجتمع محدد وليس داخل القيم، ولا يمكن اكتساب تلك الإنسانية الا من خلال الانتماء الجيني، فيقف حائل بين المجتمعات وبين التحول في اتجاه الثقافة. وهي أيضا هوية اقصائية وفق النظرة العربية والفكر العربي الإسلامي الذي يعتبر الآخر آخر ضد وليس آخر إنساني.
وتتلازم تلك الهويات في حركتها تحديدا خارج إطار الحدود العربية، فحتى يصل الفرد العربي إلى هويته الأساسية وهي القبلية يحتاج إلى المظلة الإسلامية والعربية التي تمهد له المكانة الإنسانية التي يريدها له ولقبيلته في مقابل الآخر، فمن خلال ذلك الفكر لا يحتاج إلى فرض ذاته على الآخرين ولكن يدعهم يعتنقون ذلك الفكر الذي يحيلهم إليه والى قبيلته باعتبارها الأعلى إنسانية في الحياة بالنسبة لله كما يتقولون عليه. فمفهوم الإسلام هو وسيلة لمفهومي العروبة والقبلية العربية وليس هوية حقيقية عند الفرد القادم من الجزيرة العربية، وتتم زراعة تلك الهويات المتلازمة في الأراضي الأخرى حسب كثافة الهجرة إلى تلك الأراضي وكذلك حسب المجتمع المهاجر إليه ومرحلة تحولاته، فهنالك مجتمعات انتفي بها مفهوم القبلية وأصبحت لا تستوعبه داخل إنسانيتها ولذلك تتوقف الهويات عند الإسلام والعروبة بالنسبة للفرد العربي، اما المجتمعات التي كانت في طور التحول من القبلية إلى الثقافة كما المجتمع السوداني فقد أعادت الهجرات العربية إليه مفهوم القبلية الذي كان في طور تجاوزه في اتجاه القومية أو الثقافة الكلية للمجتمع، وبالتالي اوجد ذلك الفكر العربي الإسلامي الثلاثية الاقصائية الإسلام والعروبة والقبلية داخل الواقع السوداني.
ورغم امتزاج الأفراد أو المجتمعات العربية مع المجتمعات التي هاجرت إليها إلا انها تمسكت بهوياتها تلك في محاولة لمواصلة انتماء ماضوي بعيد عن واقع علاقتها مع مجتمعاتها الجديدة، فأصبح هنالك هوية متخيلة مدركة باعتبارها تمتلك الفضاء الفكري وتحديدا داخل الواقع السوداني وهوية حقيقية نتيجة لذوبان الأفراد والمجتمعات العربية داخل الواقع السوداني غير مدركة وتتواجد فقط من خلال القيم المجتمعية الممارسة، فعندما نتحدث عن الواقع السوداني فنسبة الدم العربي إلى الدم السوداني عند الفرد هي اقل بكثير لهوية تقوم على أساس جيني، ورغم ذلك ظلت متلازمة ثلاثية الهوية تمثل أزمة حقيقية للواقع السوداني نتيجة لعدم وجود نخب تبحث عن الهوية من داخل الواقع وليس الواقع المتخيل، فقد اكتفاء الجميع بالهوية المتخيلة تحديدا داخل الوسط السوداني متمسكين بمظلة فكرية تسمي الإسلام والعروبة بعيدة عن الرسالة الإرشادية وتبعدها أكثر عن مجتمعاتها الحقيقية وتحولها إلى تابع لمجتمعات لا علاقة له بها من حيث القيم والتحولات الاجتماعية.
ونحن هنا لا نتحدث عن حق الفرد العادي للانتماء إلى مظلة فكرية أو جينية، فعدم توفر ما يقنعه بما حوله يجعله ينتخب ما يشاء من اجل الانتماء اليه. فالحديث السابق اذا عن القصور النخبوي في إدراك الأبعاد المجتمعية لأثر هويات الفكر العربي الإسلامي الاقصائية على الأزمة السودانية.
شكرا الأخ خالد على هذا الاستعراض الشفيف ونرجو منك مواصلة البحث وبصورة أعمق في المحاور التي استعرضتها لتتكامل مع أفكار الدكتور النور حمد (العقل الرعوى) والدكتور الباقر العفيف (متاهة قوم سود في ثقافة بيضاء).
هذه الكتابات مهمة لإزالة الغشاوة التي عتمت إبصار السودانيين كما إنها مهمة لإعادة الوعى بهويتنا الراسخة التي تلاعب بها العنصريون والمدلسون.
الفكر السودانى و الازمة العربية
أظنها القراءة الافضل لوقائع الامور ، فما يجرى فى السودان أتخذ مناحى لم يأتى بها العرب ولا يكون لنا أن ناخذهم بما جناه السودانيون على أنفسهم بثقافتهم و أسلوب حياتهم و تنطعهم ، ولم يصل درك الدول العربية الى ماوصل به الحال فى الجغرافيا السودانية من حيث عدد المجاعات و الازمات على طول تاريخهم.
و تدخل المجتمع الدولى بما فيه العرب لانقاذ ما يمكن انقاذه من السودان فى كل مرة
و لعل المقاربة الافضل للواقع السودانى هم المماليك بأضطرابهم و أزماتهم و ثقافتهم و اسلوب حياتهم و كافورهم ، و كيف لا وهم أحفادهم .
شكرا الأخ خالد على هذا الاستعراض الشفيف ونرجو منك مواصلة البحث وبصورة أعمق في المحاور التي استعرضتها لتتكامل مع أفكار الدكتور النور حمد (العقل الرعوى) والدكتور الباقر العفيف (متاهة قوم سود في ثقافة بيضاء).
هذه الكتابات مهمة لإزالة الغشاوة التي عتمت إبصار السودانيين كما إنها مهمة لإعادة الوعى بهويتنا الراسخة التي تلاعب بها العنصريون والمدلسون.
الفكر السودانى و الازمة العربية
أظنها القراءة الافضل لوقائع الامور ، فما يجرى فى السودان أتخذ مناحى لم يأتى بها العرب ولا يكون لنا أن ناخذهم بما جناه السودانيون على أنفسهم بثقافتهم و أسلوب حياتهم و تنطعهم ، ولم يصل درك الدول العربية الى ماوصل به الحال فى الجغرافيا السودانية من حيث عدد المجاعات و الازمات على طول تاريخهم.
و تدخل المجتمع الدولى بما فيه العرب لانقاذ ما يمكن انقاذه من السودان فى كل مرة
و لعل المقاربة الافضل للواقع السودانى هم المماليك بأضطرابهم و أزماتهم و ثقافتهم و اسلوب حياتهم و كافورهم ، و كيف لا وهم أحفادهم .