سـودان الطيـب صالح

الأستاذ الدكتور عبد الملك مرتاض جامعة وهران:

على الرغم من أنّي تلقّيت عدّة دعوات لزيارة السودان الشقيق الجميل الذي هو أجمل بلد عربيّ بالطبيعة والماء، بنيله الأزرق العظيم، ولكنّه مهمَلٌ وغيرُ مستثمَرٍ في الزراعة والسياحة معاً، فالذي يمتلك الماء يمتلك القوّة والثروة، والجَاهَ والْقَاهَ، فلم تتفوّق علينا أوروبا إلاّ بأنهارها الجارية تشقّ مُدنها وحقولَها، والنيل يشقّ الخرطوم كدجلة والفرات… (وأنا لا أعترف إلاّ بالسودان دون وصْف ولا تجزيءٍ، ولْيقُلِ الآخرون كيف يشاءون). لقد امتدّت آفة التقسيم إلى الوطن الواحد، بل أحياناً إلى المدينة الواحدة، فوقع الكلَفُ، عند العرب، باستعمال ألفاظ جغرافيّة بئيسة تدلّ على ضعْف وعْيهم بالتاريخ، بل تكاد تكون حاملة لِمعنَيَيِ الخيانة والإجرام، فإذا القدسُ الشرقيّة والغربيّة، وإذا فلسطين منقسمة إلى كيانيْن اثنين: الضّفّة الغربيّة، وقطاع غزّة؛ وإذا العراق بعد أن غزته »الديمقراطيّة الأمريكيّة« يصبح أوطاناً شتّى، وأهواءً شتّى، أو يوشك أن يصبح كذلكما؛ وإذا ليبيا، بعد أن غزتْها الديمقراطيّة على أكتاف الطائرات العسكريّة الغربيّة المجرمة التي دمّرت بلداً عظيماً فتركتْه خراباً يباباً: فقد دمّرت المنشآت العامة والخاصة في هذا الوطن العربيّ الكبير- توشك أن تصبح شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وما لا يوجَد في مصطلحات الجغرافيا من مناكب وأرجاء؛ وإذا سوريةُ بعد أن مزّقتْها الحرب الأهليّة التي أشعل نارَها الغربُ المجرم خدمة للكيان الدّخيل توشك أن تنقسم طوائفَ متعدّدة، فقد سمعنا رئيس دولة مجاورة يقول ذلك علانيةً؛ وإذا لبنانُ مهدّد بالتقسيم في أيّ مناسبة شقيّة تمزّق كيانه، وتفجع شعبه، على صغر رقعته الجغرافيّة؛ وإذا اليمن بعد الوحدة، يوشك أن يعود إلى التمزّق فيصبح تارة أخرى شمالاً وجنوباً، لا سمح اللّه! وإذا ما خفِيَ من كلّ ما لم نذكر، من أمر العرب، أعظم، بل أفظع وأبشع!… فليس أيّ قطر عربيّ، بناء على ما يجري، وما يمكن أن يجريَ، محصّنٌ من التمزّق والتفتُّت!…
أقول، إذن: السُّودان، ولا شيءَ يضاف إلى اسم السودان! ومن وصفه بوصْف تقسيميّ فقد أثِمَ في حقّ هذه الأمّة المنكوبة -في كيانها العروبيّ- التي أصابها التمزّق والتفرّقُ والتقطُّع والتبدُّد والتشتُّت والتشذُّرُ والتمذُّر… ولو كان الأصمعيّ حيّاً لاسْتفتَيْتُه في أن يأتيَني بكلّ الألفاظ العربيّة المُحيلة على هذا المعنى الدّالّ على التشرذُم لِيُصبحَ العربُ شِرذِمةً قليلينَ، يوزّعون التّجزئة والشَّرْذَمة على الأمم الأخرى في الكون، فيوشك أن يقرأ عليهم المقرئُ في جنائزهم وهم ينقرضون، مختارين لا مُجْبَرين: ?إنَّ هؤلاءِ لَشِرْذِمةٌ قليلُون?!
فلْيفعلْ هؤلاء الذين يُشعلون الحروب على الأنظمة السياسيّة العربيّة ?اليوم- ما يشاءون، وليذهب الحاكمون الذين يحكمونهم بالاستبداد إلى غياهب الجحيم، ولكنْ فقط لا يمَسّون الوحَداتِ الوطنيّةَ فيُغْرُون بين أبناء الوطن الواحد بالقتال والعدوان، ويؤجّجون النيران، ويمزّقون الأوطان، ويخرّبون البلدان!
تلقّيت، إذن، عدّة دعوات لأزور السودان، ولكنّي لم أُجِبْها، بكل حزن، ففي كلّ مرّة كنت أهيّئ نفسي إلى السفر كانت تطرأ عليّ طوارئُ من الدهر فتحول بيني وبين ذلك، والزيارة الوحيدة التي قمت بها إلى الخرطوم كانت في مطالع الأعوام الثمانين من القرن الماضي، وذلك في وفدٍ جزائريّ من وزارة التعليم العالي، ذهب إلى الشرق ليتعاقد مع الأساتذة العرب ليأتوا إلى التدريس في الجامعات الجزائريّة. ولقد مكثْنا زهاء أربعة أيّام بالعاصمة السودانيّة استقبلَنا فيها مدير جامعة الخرطوم مع عمداء الكلّيّات وتحادثْنا طويلاً في شأن العلم والتعليم الجامعيّ في الجزائر والسودان، كما استضافنا السيد مدير الجامعة في مأدُبة فاخرة، بفندق السودان، كانتْ جفَلَى!…
وقد جاءتني دعوة من معالي وزير الثقافة السوداني منذ زهاء ثلاثِ سنوات لألقيَ محاضرةً في المعرض الدوليّ للكتاب بالخرطوم، فاعتذرت للإخوة السودانيّين في آخر لحظة، بعد أن كنت زممت حقائبي، وهيّأت ركائبي، وأزمعت الرحيل إلى جَهةِ نهرِ النيل. كما تلقّيت دعوةً منذ أقلَّ من شهرٍ من الخرطوم لشهود ندوة ستنعقد عن الصديق المرحوم الروائيّ الكبير الطيب صالح، وأرجو أن تتيح لي الظروف شُهودَ تلك الندوة التي ستنعقد بعد شهور…
وممّن عرفت من الشعراء السودانيّين وكان لي معهم علاقة صداقة طيّبة جدّاً جيلي عبد الرحمن، وهو أستاذ جامعيّ كان يدرّس الأدب العربيّ بجامعة الجزائر، فكان يحضر معنا في فعاليّات اتّحاد الكتّاب الجزائريّين، فكان يتميّز بإنشاد شعر كالفستق المقشّر الذي لا يُشبَعُ منه، كما يقول حمّاد الراوية عن شعر عمر بن أبي ربيعة. غير أنّ الموت لم يلبث أن اخترمه اختراماً بعيداً عن وطنه السودان ففجعَنا به، فحزِنّا عليه لأمرين اِثنين كلاهما يُدْمي المدامع، ويهيّج اللّوائع: لأنّه شاعر كبير وأستاذ قدير أوّلاً، ثمّ لأنّه لم يُتَوفَّ بين أهله، آخراً، فرحمه الله…
وقد ترك جيلي عبد الرحمن طائفة من الأعمال الشعريّة والبحوث العلميّة منها: »قصائد من السودان«، وهو أوّل ديوان له، وصدر له ديوانٌ ثانٍ عنوانه: »الجواد والسيف المكسور«.1 كما صدرت له أعمال أخرى.
وعرفت الشاعر الكبير محمد الفيتوري في بغداد، وقد نال جائزة العراق التي كانت توزَّع كلّ سنةٍ على هامش مهرجان المربد. وقد رأيته وقد علّق في صدره ميدالية ذهبيّة ثقيلة، وهو يختال بين السِّماطَين في فندق فلسطين ببغداد، والأدباء العرب يهنئونه، واحداً واحداً، بما نال؛ فتقدّمت أنا إليه أيضاً مع المتقدّمين لأداء واجب التهنئة، ولم أكن رأيت الشاعرَ قبل ذلك المهرجان، كما لم أره من بعدُ.
وعرفْت طائفة من الشعراء السودانيّين الآخرين، بمناسبة تقلُّدي منصبَ حكَمٍ في مسابقة »أمير الشعراء« بهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث بعاصمة الإمارات العربيّة المتحدة طَوالَ أربعةِ مَواسمَ: أبو ظبي، لعلّ أعلاهم كعْباً، وأرقّهم شعريّةً، وأغزرَهم غَرْباً، وأقدرَهم على تدبيج أجمل الأشعار، خنساء النيل روضة الحاج… ويكفي فيها، هذا قولاً.
وأمّا الصديق الذي صادقته ورافقته وجالسته وآنسني وآنسته فهو الروائي الكبير الطّيّب صالح الذي عرفته أوّل مرّة في زهاء سنة 1988 ببغداد، إذ التقيت معه في بهو فندق فلسطين هناك وسلّمت عليه، وأنا أقول: أأنا حقّاً، أمام صاحب »موسم الهجرة إلى الشمال«؟ فقال لي وهو يبتسم محبوراً، ما معناه:
-إنّك لَأَمَامَه!
وقد كنت كتبت عنه مقالة ونشرتها بإحدى الجرائد العربيّة في الخليخ، بُعيْد وفاته، فليس لي إلاّ أن أعيد إثباتَها هنا، وأظنّ أنّ عامّة الذين سيقرءون كتابي هذا لم يطّلعوا عليها من قبل.
وهذا هو نصّها، بعد التنقيح والإضافة:
حِدَاد الرواية العربيّة
الطّيّب صالح أحَدُ أكبرِ الروائيّين العرب، إن لم يكن أكبرَهم على وجه الإطلاق، وإن لم ينل جائزة »نوبل« المشبوهة التي لا تُعطَى إلاّ لِمن يمجّد القيم الغربيّة الشّرّيرة، وأنا مسؤول عمّا أقول! وإذا كان الواحد من هؤلاء الروائيين كتب، من حيث الكميّة، أكثرَ منه فإنّ العِبرة قد لا تكون بذلك، وإنما تكون بالنوعيّة، وقوّة التّأثير، وابتكار التجربة، وسَعَة الانتشار، وكثرة المعجَبين. وذلك هو ما يقال عن الصديق الطيب صالح رحمه اللّه.
إنّ الرواية العربيّة في حِداد، وحُقّ لها أن تَحُدَّ على الطّيب صالح حِداداً، وأن تقيم له مأتماً وعويلاً، وأن تَبكيَه بكرة وأصيلاً، تَبْكِيَه حتّى تَنْفَدَ دموعُها. فلقد ذهب صاحب »موسم الهجرة إلى الشمال«، ولقد مضى إلى الأبد، ولكنّه كأنّه لم يمضِ، لأنّ مَن يترك وراءه مثل هذا العمل الإنسانيّ العظيم الذي تُرجم إلى أكثرَ من ثلاثين لغةً لا يجوز لأحدٍ أن يَعُدَّه في الأموات.
عرفت الطيب صالح لأوّل مرة في أحدِ مرابدِ بغداد، وقد غمرتْني سعادة عارمة بلقائه فقلت له: أأنا أمامَ صاحب »موسم الهجرة إلى الشمال«، حقّاً، وفِعلاً؟ فقال مبتسماً بصوته الجهوريّ الفصيحِ النبراتِ: نعم! ومنذ تلك المناسبة كنّا نلتقي في الندوات والمهرجانات العربيّة، هنا وهناك، فكان الحديث يمضي بيننا في شؤون من السياسة والفكر والأدب والحياة. وقد التقَينا أكثرَ من مرّة في الرياض، في الجنادريّات التي كنّا نشهدها، وقد ذهبْنا يوماً معاً، لحضور مجلس الأستاذ التويجري، فملأ الطيب صالح قاعة المجلس حديثاً فصيحاً جميلاً بصوته الجهوريّ المتميّز.
ولا أقول جديداً إذا ذكّرت القرّاء الكرام بأنّ رواية »موسم الهجرة إلى الشمال« هي التي صنعت مكانة الطيب صالح في عالم الأدب، من بين أعماله الروائيّة الأخرى، وكأنّها غمرتْ كلّ ما كتبه بعدها فطغَتْ عليه، فهي التي بوّأتْه المكانة العالميّة، وهي التي مكّنت له في السِّمْعِ الأدبيّ، عربيّاً وعالميّاً، ومن ثَم فهي التي يجب أن تجعل الأدب العربيّ المعاصر يزدهي، ويختال، ويرْتَئدُ، ويتَرَهْيَأُ أمام أيّ أدبٍ إنسانيّ رفيع!… فليس الطيب صالح أقلّ من ألبير كامي، ولا مِن هيمنقواي، ولا من غيرهما، ممّن يتشدّق بهم الأدب الغربيّ…
ونحن نعجب، أشدّ العجب، من نصٍّ روائيّ تُرجم إلى معظم اللّغات الإنسانيّة ثمّ لا ينال به صاحبه جائزة نوبل التي كأنّها مخصَّصة للكتّاب »الخَواجة« وحدَهم! وكأنّ الأدب العربيّ كُتب عليه أن لا يُتوَّجَ تارة أخرى، بعد تتويج نجيب محفوظ… وكأنّ القائمين على تلك الجائزة لا يلتفتون إلى الكتابات العربيّة، شعريِّها وسرْدِيِّها، إلاّ مرّة واحدةً في القرن أو أكثر منه زمناً، وكأنّ الخواجة الذين يُتوَّجون بالتسامح والسخاء، يكتبون الوحْي المنزَّلَ، ونحن العرب إنّما نكتب الهراء والهذيان!
وإنّنا نرى أنّ رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) قد تكون أسبقَ كلِّ النصوص الروائيّةِ العربيّة إلى الانتشار خارج العالم العربيّ، كما أنّنا لا نعرف، أو لا نكاد نعرف، نصّاً روائيّاً عربيّاً لقيَ من الرواج والعناية من الباحثين في الجامعات العربيّة، والمؤسسات الأكاديميّة، مشرقاً ومغرباً، ما لقِيَ هذا النص المذهل الذي قُدِّمَت عنه عشراتُ البحوث والأُطروحات، إن لا نقُلِ الْمِئات… فظلّ السهلَ الممتنعَ من الكتابات الروائيّة تنقطع دونه أعناق الروائيّين! فكيف، إذن، يموت الطيب صالح قبل أن يتوَّج بتاجٍ هو حقُّه الطبيعيّ المستوجَب، وهو نيلُ جائزة نوبل؟ أم ما ذا يراد من كاتبٍ لكي يتوَّجَ بهذا اللقب أكثر مما قدّمه الطيب صالح إلى الأدب الإنسانيّ؟ أم كان عليه أن يتّخذَ موقفاً سياسيّاً مهيناً لكي ينال ذلك؟!… ذلك هو الذي كان ينقصه، فلو كتب مقالة واحدةً باع فيها ضميره العربيّ، وشرَفه الإنسانيّ، لكان أهل الغرب هرولوا إليه، وعدّوا أدبَه من الروعة بمكان، وإذن، لكانوا توّجوه بتاج الذّلّ وبيع الذمام، ولم يكن له من البِرّ أن يأتيَ ذلك، وهو العربيّ الشهم، الشريف العفيف.
وقد كنت أودّ أن أقترح على الإخوة السودانيّين، أن ينشئوا جائزة أدبيّة كبيرة باسْم الطيب صالح، إن كانت وسائلهم الماليّة تسمح لهم بذلك.
وبعد، فلا مات مَن ترك »موسم الهجرة إلى الشمال«!

الصحافة

تعليق واحد

  1. رحم الله الطيب صالح رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته .. لقد اسعدتناو ٍرفعت رأس السودان عالياأنت حياوانت ميتا لا والله أنت لم تمت.. ستظل حيا بيننا ما دمنا.. .منذ ربع قرن لم يدخل الفرح دارنا لولاك يا الطيب صالح… رفعك الله فى أعلى درجات الجنان مثلما رفعت إسم السودان عاليا.

  2. رحم الله الطيب صالح …

    الكيزان كانوا طاردينوا من البلد لمن مات عملوا جائزة بإسمو

    قاتل الله الكيزان … واسكن المعلم الطيب صالح فسيح جناتة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..