من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (11)

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا في المقالات السابقة ان العلوم الجيولوجية والجغرافية والتاريخ، قديمه وحديثه، ثم العلوم الوراثية والاحياء الجزيئية تستطيع ان تغير المفاهيم المقلوبة والتزييف الذي تعرض له تاريخ العالم ، خاصة تاريخ السودان القديم والحديث الذي نعتبره صاحب اقدم وارقى حضارة بشرية قبل وبعد نوح وطوفانه.
ناقشنا في الحلقات السابقة الخطوط العريضة لجيولوجيا وتاريخ النيل ،ونحاول أن نربط ذلك (بتواجد الانسان) بتلك المنطقة في تلك الأزمان اثناء تطور النيل منذ ميلاده حتى نضجه (النيل الحديث). كل تلك الفترات كان (سكان وادي النيل) يقيمون بارض السودان الحالية، ولم يعرف (جغرافيا) حتى ذلك الوقت (ارض) تسمى مصر (هبة النيل)، أو( شعب يسمى بالمصريين !!!!). في الحلقة السابقة تحدثنا عن الأنيال (جمع نيل) الأولى في مصر (6-7 ملايين سنه)، و عن ما قبل النيل ويعرف علميا باسم (البرينيل)، في الحلقة الحالية نتحدث عن النيل الحديث (النيونيل).
أصبح إتصال النهر مع أفريقيا متقطعاً منذ ان توقف نهر (ما قبل النيل) عن الجريان منذ حوالي 400 الف سنة مضت. وقد حدثت تغيرات مناخية كبيرة منذ ذلك التاريخ مما أثر على منابع النيل، بل وكافة حوضه، ويمكن القول بصفة عامة إن إتصال النهر المصري بأفريقيا أصبح أمراً عابراً ومتقطعاً خلال الأربعمائة ألف سنة الأخيرة. وفي الفترات إلتى كان النهر يتصل فيها بمنابعه في أفريقيا كان يجئ بقوة في بعض الأحيان. وبوهن شديد في معظم الأحيان . حتى في الحالات التي كان النهر يأتي فيها بقوة فإنه لم يعد أبدأً بنفس القوة التي كان عليها في زمن نهر (ما قبل النيل). وقد حملت الأنهار التي كانت تجئ إلى مصر في هذه الفترة من أفريقيا رواسب تشبه تلك التي يحملها (النهر الحديث) الذي نعرفه الآن. وعلى الرغم من أن هذه الأنهار قد إختلفت في حجمها وخواصها إلا أن رواسبها كانت من التشابه لدرجة أنها صنفت في مجموعه واحدة سميت مجموعة أنيال النيل الحديث (النيونيل).
كان إتصال النهر مع منابعه في افريقيا متوقفاً على (كمية الأمطار) التي كانت تتساقط على (منابع النيل)، والتي تغيرت بين الفينة والأخرى ،وكذلك على (النشاط الزلزالي) لهضبة النوبة تلك القنطرة التي كان على النهر أن يعبرها لكي يصل إلى مصر. لم تكن هذه القنطرة في حالة إستقرار. فقد كانت وحتى (العصر الحديث) تهتز على طول فوالق عرضية كثيرة تمتد من (الشرق إلى الغرب)، وتقطعها في أماكن كثيرة. وقد سبق القول إن (فالق كلابشة) الذي يمتد إلى أكثر من 150 كم ، ويقطع النيل ، قد إهتز في عام 1981 وقبل ذلك أيضاً. كان (لإستقرار هضبة النوبة) أهمية كبرى في وصول المياه من أفريقيا إلى مصر.
ويمكن تمييز أربع فترات في (تاريخ النيونيل) :
? أقدم الفترات هي التي صاحب فترة (العصر الحجري القديم المبكر المطيرة)، والتي سميت بفترة العباسية المطيرة. وفيها (إنقطع وصول المياه من أفريقيا)، ولكن (الأمطار )غطت سطح مصر وملأت مجرى النيل بصورة (موسمية). وقد تخللت هذه الفترة فترة جفاف قصيرة وصل مصر فيها (نهر من أفريقيا) هو (النيونيل الأول) أو نهر (دندرة). وقد كان نظام (رجيم) هذا النهر هو النظام (الرجيم) الذي أصبح نمطاً لكل الأنهار التي جاءت من أفريقيا بعد ذلك التاريخ وحتى الآن.
? عاصرت الفترة التالية (فترة مطيرة أخرى)، سميت فترة بير صحاري المطيرة، وفي هذه الفترة كانت أمطار الشتاء على مصر تضيف إضافة طيبة لمياه (نهر أفريقي الأصول متقلب) كان يجئ ويروح بين الآن والآخر. وقد رأت هذه الفترة ظهور (إنسان العصر الحجري القديم المتوسط بمصر). أي قبل 70 الف سنة!!!!
تزامنت فترة ا(لعباسية وبير صحاري) المطيرتين مع عصري الجليد الأوربيين المعروفين بإسمي (الريس والمندل )الذين يبدو أنهما أثرا على توزيع الظواهر الجوية وتدرجيتها، وغيرا توزيع سقوط الأمطار على القارة بحيث إمتد نطاق أمطار البحر الأبيض المتوسط (جنوباً) لكي يشمل مصر. كما تراجع نطاق الأمطار عن منابع النيل.
? أما الحدث الثالث فقد بدأ منذ 70 الف سنة قبل الآن، وإمتد ليشمل العصر (الجليدي الأخير) عندما وصل إلى مصر (نهران موسميان) من الهضبة الأثيوبية. وقد حمل هذان النهران (رواسب ضخمة) تشبه الرواسب الحديثة للنيل، رسباها في (النوبة وجنوب مصر). وكان هذان النهران متشابهين في منابعهما ورجيمهما .وكانا نشطين خلال عصر الجليد الأخير عندما كانت الأمطار أقل في أقاليم منابع النيل وفي مصر ايضاً. عمق النيل مجراه .وكان رجيم النهرين مشابهاً لدرجة كبيرة لرجيم (نهر عطبرة الحديث) الذي ترتفع مياهه دفعة واحدة خلال الفيضان ويكاد يجف خلال موسم الجفاف.
? أما رابع الفترات التي بدأت منذ حوالي 10 الف سنة في أعقاب تراجع ثلوج جليد العصر الجليدي الأخير ،وفيها وصل غلى مصر نهر هو الذي نعرفه الآن والذي تعيش مصر الحالية في ظلاله ونعيمه. وقد حمل هذا النهر رواسب أسقطها على طول مجراه وفي الدلتا. وقد (نشأ) هذا النهر خلال فترة مطيرة سميت بفترة “النبطة المطرة” والتي صاحبت تراجع ثلوج العصر الجليدي الأخير. وقد تسببت أمطار هذه الفترة في زيادة كمية المياه لتي حملها هذا النهر عند نشأته مما جعله قادراً على الجريان على مدار العام. حقاً إن نهر النيل الحديث هو نتاج هذه الفترة.
بروفيسور نبيل حامد حسن بشير
جامعة الجزيرة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..