معراج سيدي الرئيس: الملهم ميلس تيكلي (1)

(حكاوي عن الديكتاتورية وفساد الطغمة)..
اطلقناعليهاايام الجنقو الاولي.. كنا عمال زراعيين نلتقط ارزاقنا كما يلتقط الطير رزقه هنا وهناك بخطى متسارعة.. لا نرسم لانفسنا مكانا محددا.. نبتغي الرزق في الحدود مع الحبشة حيث مشاريع وقرى وبلدات اقليم التقراي.. احيانا نذهب الى العمق الى مدينة الحمرة ثم نعود ثانية الى بلادنا.. نسافر الى الخزان واحيانا الى ارض التاكا.. نطوف تلك الامكنة والسعادة تغشانا.. نتفرق لنلتقي مرة اخرى في بلدة (الموية الخضرة).. الحقيقة التي لا تقبل الجدل ان بلدة (الموية الخضرة) هي عشنا الثابت ومقرنا الدائم..
ذات يوم جاءت صقور الافامبو وهبطت على البلدة على غير العادة.. قادمة من المرتفعات الحبشية.. ظللت البلدة وحجبت السحب الركامية والشمس.. شاهدناها لاول مرة في حياتنا.. كان منظرا مؤثرا حتى بنجامين اسيفا القس الشاب قال ربما هناك خطب ما قادم من السماء..
في ذلك اليوم حدث طاريء لن انساه ما حييت.. جاء شاب في العشرينات من العمر.. كانت له (جلحات) او مباديء صلعة.. شعرت للوهلة الاولى ان بداخله بركان يغلي.. ولان (الموية الخضرة) كانت بلدة صغيرة فقدوم أي غريب يكون مثار تساؤل فضولي واستفسار دائم وتخمين مستمر.. فهو لم يأت للعمل كجنقو مثلنا تماما.. وفي ذات الوقت لم يذهب الى عمق بلادنا ومنها الى (بلاد الصعيق) بغية كسب سبل عيش افضل.. كنت القي اليه التحية يوميا واذهب الى حال سبيلى.. اعتقدت ان هناك سر عميق وراء هذا (الشاب التقراوي).. بعض الناس قالوا انه فرد مخابرات لديكتاتور الحبشة (زعيم الديرغ).. بعضهم قال انه هارب من سجون جكجكة في اقليم اوغادين.. اخرون قالوا انه يبحث عن الزئبق الاحمر.. كثرت الاقاويل .. لكنه اشتهر بيننا نحن الجنقو باسم (الشاب التقراوي) لانه من قبيلة التقراي حيث ولد بقرية قرب مدينة اكسوم.. هذا كل ما عرفناه عنه في تلك الفترة..
قضى (التقراوي الشاب) بيننا ستة اشهر منكفئا على نفسه.. كان يظهر ويختفي.. واحيانا تطول غيبته.. تظهر وتختفي معه صقور الاوفامبو.. ادركت على الفور ان هذا (التقراوي الشاب) وراءه (سر مطبول) لا يجهر به.. وان ظهور صقور الافامبو تدل معجزة ما.. او اشارة ما.. او علامة من ارسلت من السماء كما قال القس بنجامين اسيفا.. وكنت مؤمنا ان الله يراقبنا ولكنه لا ينسانا مطلقا..
صبيحة احد الايام وكعادتي ذهبت لأشرب الشاي عند ست شاي يقال ازيب قيدادا هي زوجة المرحوم اديسّو كرانكيل ووالدة تقست اديسّو هذه التى تبيع لكم القات الان وتعد لكم عصير الاباكاتو.. وجدت (التقراوي الشاب) يشرب كوبا من القهوة.. تقدمت ناحيته عرفته بنفسي.. عرفني بنفسه بشكل مقتضب قائلا انه (والد تيكلي) ولم يزد.. لم اعرف ابنه تيكلي هذا ولم اشاهده مطلقا.. كان يتحاشى النطق باسمه.. هدوءه يجبربني على ترك الاسئلة الخاصة به وباسرته ..
ذات يوم رأيته جالسا تحت شجرة عرديب وريفة.. بعض الصبية حوله يلتقطون الثمار المر الحامض ويتذوقونه بتلذذ.. صقور الافامبو تجمعت من حيث ادري ولا ادري وتراكمت على الشجرة.. كان ممسكا برواية بين يديه.. كانت الرواية اسمها (حفلة التيس) تتحدث ديكتاتور قواتيملا تريخييو.. سبق لي قراءة الرواية.. فانا قاريء جيد وهي الحقيقة التي تعيها معشوقتى تقعست ابرام عندما اهدتني رواية (لن اخون السهول) التي تجسد شخصية البطل الهندي الاحمر (تاتانكا لوتاك)..
قلت له وكأنني وجدت ضالتي: (الداء الكبير.. يحتاج الى علاج كبير) وهي عبارة تكررت في الرواية..
قفل الكتاب ونظر الى مبهورا.. ايها السادة للتقراي والتيقرنجة نظرة ابنهار واحدة لا تخطئها العين.. هي ذات النظرة التى ترمقني بها معشوقتي تقسعتي ابرام عندما احدثها عن حياتي في ام خراييت وكنينة البير وباسنقا.. او عندما اجلب لها خنزيرا بريا اصطدته في احدى ايام الجمع.. او عندما اقدم لها حليب ضان مخلوط مع السمن والعسل..
توقف خليفة بعشوم عن السرد.. الصمت يخيم على قبر المك نمر حبس الجميع انفاسهم وهم يصغون لصديق محررهم (التقراوي العظيم).. اجال خليفة بعشوم بصره باحثاعن افراد قبيلة الماساي الذين قدموا من اجل صيد ابو شيكان.. راهم يقفون في مؤخرة الجماهير بزيهم المميز وحرابهم الطويلة.. رفع لهم يدهم بالتحية اجابوه فاجابوه جميعا برفع ايدهم.. صاح عليهم باللغة السواحيلية قائلا: vipi hali zenu
واردف بعدها قائلا: abari zenu ..
كان يسالهم عن اخبارهم واخبار العمل..
واصل (خليفة بعشوم) حديثه وهو ممسكا بالمايكرفون متوجها ناحية الامهرة القادمين من شلقة ذات المكان الذي اختطف فيه الشفتة ود عبيد المسيري :
لم يتوقع (التقراوي الشاب) والذي سيعرف فيما بعد ب(التقراوي العظيم).. ان في بلدة (الموية الخضرة) من يقرأ للراوي ماريو بارغاس يوسا.. قلت له وانا اتذكر العبارة التى قالتها اورانيا وهي تخاطب والدها السيناتور اوغسطين كابرال (لقد عشت على الدوام خائفا ان يتكرر معك سيناريو انسيلمو باولينو وقد تكرر يا ابي)..
قفل (التقراوي العظيم) الرواية بكى متأثرا كان نحيبه خافتا نوعا حتى رق قلبي.. قال لي لقد نكأت جرحا لم يبر بعد.. انسيلمو باولينو مثل الملهم (ميلّس تيكلي) الذي اغضب الديكتاتور.. لكن ميلّس تيكلي قدم روحه قربانا لنا جميعا.. حتى نحفر نحن الطريق بمعول الصبر ليسود العدل والحق.. كنت حاضرا لحظة اعدامه.. نظر اليّ ميلّس تيكلي كـأنه يسلمنى الراية نظرت اليه أنا كأنني استلمت الراية.. لذا اطمأن وابتسم وقال ان حبل المشنقة هذا سوف يصعد به الى ملكوت الرب حيث لا ظلم ولا طغاة أبدا أبدا..
كانت (صقور الاوفامبو) تحلق عاليا فوق غابة شجر الدوم المقابلة لنا كأنها تحثه على الحديث.. بان لي في هذه اللحظة ان السر (المطبول) قد انكشف وان (التقراوي العظيم) جاء الى الحدود من اجل اكمال تعبيد طريق ميلس تيكلي الذي رسمه لحظة الاعدام..
قال لي حزينا منكودا: كنت حاضرا عندما ذهب ميلس تيكلي الى المشنقة.. لم يهب الديكتاتور (زعيم الديرغ).. ارتقى سلم المشنقة سلما سلما.. واجه الموت بشجاعة كما واجهه السير توماس مور.. صلى ميلس تيكلي ورسم الصليب ثم اُسدل الستار على حياته.. حُرٍق جسده ونثر رماده بعيدا تحت شجرة (الاودا) الضخمة والمعمرة والمقدسة لدي شعب الاورومو.. ميلس تيكلي مات مثل الاشجار واقفا شامخا مشرئبا.. ترك لنا الراية لنحملها..
نُثر رماده ليغذي شجرة حاكم الاورمو العظيم (بيفولى).. لم يعرف الديكتاتور (زعيم الديرغ) ان نثر رماد ميلس تيكلي تحت شجرة (بيفولي) هو اكبر تكريم له.. لان الحاكم بيفولي هو من اسر رئيس الفرقة البرتغالية ايروس دوس في القرن السادس عشر وحافظ على هوية واستقلال شعب الاورومو..
صمت خليفة بعشوم نظر خلال الجموع المكتظة.. لاحظ رجال (قبيلة سلتي) وهم يجوبون بين الغبش يسألون عن اعراب المضاف والمضاف اليه لكن لا احد يجيب بل كانوا جميعا منهمكين حبشا وغبشا مع ذات الكلام الذي يتكرر كل سنة في يوم (خليفة سبسبة) .. يعيشون الاحداث من جديد مع كل رنين حرف وجلجلة كلمة.. اخذ خليفة بعشوم نفسا عميقا.. رمق عبد الكريم نيانق الذي جلس في الصف الرابع في ذات المكان الذي اتخذه مجلسا في كل سنة.. علم انه ادى واجب العزاء في وفاة والد ود السليكان بقرية عطرب.. ثم قفل راجعا الى تجمعه السنوي الذي لم يغب عنه يوما واحدا.. حاول البحث عن محبوبة عبد الكريم نيانق المومس زيني هبتو لكنه لم يلحظها.. ربما تكون الان في احضان احد الاعراب الذي يقتحمون حي (جنقرة) تزامنا مع محفله الكبير هذا.. لكن حتما ستقع عينه على المومس المحتشمة مسرات اقيزي وسط الجموع بزيها الاسود المميزة وكبرياؤها الذي يشبه كبرياء تمثال (الوطن الام ينادي).. فهو يعرف انها سلفا لا تعمل يوم (خليفة سبسبة) وتواظب دوما على الحضور السنوي.. وانها تحب سماع سيرة الملهم (التقراوي العظيم) الذي حررهم من كبت ديكتاتور (نظام الديرغ) وبسط النظام الديمقراطي في عموم الحبشة..
طلب خليفة بعشوم من قدست اديسو كوبا من الماء ناوله له زوجها درجي مركوس.. ثم قال:
ايها السادة هذه هي بداية تعارفي ب(التقراوي العظيم) او ما كنا نطلق عليه حينها اسم (التقراوي الشاب) .. الذي كان معجبا بمعلمه (ملّيس تيكلي) وتشرب منه حب الوطن والمعرفة واطلق على ابنه اسم تيكلي كما ذكرت لكم.. كان يعرف لغة التيقيراي لغته الام ويعرف كذلك اللغة الامهرية والعربية وفيما بعد عرفت ان يجيد كلام الانجليز والطليان..
صمت خليفة بعشوم تناول حزمة من نبتة القات حشرها داخل فمه ثم جلس طلب من قدست اديسو ان تناوله كوبا من عصير الاباكادو.. انهمك بائعوا نبتة القات بتوزيعها على الحشود بمقابل نقدي كبير.. جال نظره بين الجموع المحتشدة التى جاءت من اقاليم وبقاع مختلفة من الجبشة ملتفين حول منصتة التى اقامها سائح اجنبي جاء من بلاد سيبيريا.
[email][email protected][/email]