مقالات سياسية

وقفة على طلل ..

اختار الأخ السفير جمال محمد إبراهيم أن يقف على اطلال سينما كلوزيوم باكيا مستعبرا فبكى وأبكى راثيا ذلك المعلم الثقافي الاجتماعي الباذخ الذي توهج حينا من الزمن في قلب العاصمة السودانية ثم أدركه ما يدرك كل الكائنات الجميلة في السودان فانمحى واندثر وتحول إلى طلل تسكنه جوارح الطير والخفافيش والحشرات الدقيقة من كل صنف وجنس. وظل على تلك الحال رمزا على خيبتنا وعجزنا وقعودنا عن الدفاع عن مفردات حياتنا القديمة من هجمة المتأسلمين إلى أن اتاح له الله بنكا من بنوكهم فاشتراه ارضا وأطلق معاول الهدم على ما بقي فيه من أبنية وتشييدات تمهيدا لإقامة مبني بديل متعدد الطوابق يليق بذ لك الموقع الثمين ولقد اختار أخونا جمال أن يعيدنا إلى التقاليد العريقة للشعر الجاهلي وإلى أيام “قفا نبك” والبكاء على أطلال الأحبة الراحلين الذين ذهبوا وتركوا لنا نثارات من الذكريات ما بين أثافي وأحواض ومواضع اوتاد نصبوا عليها الخيام بل وتركوا لنا “بعر الآرام في عرصاتها كأنه حب فلفل” ولكنهم لم يتركوا صروحا مثل الكلوزيوم سيد الاسم الذي لا زال إلى يومنا هذا يزين قلب العاصمة الإيطالية روما ولا حتى صروحا كحدائق بابل السومرية وهي أقدم وأعرق وقد يبدو لك أن ملة العرب لم تشتهر بالأبنية الفاخرة فقد قيض لي أن أقضي بالعراق عاما وبعض العام باحثا عن بركة قصر المتوكل وغيرها من آثار العباسيين مما قيل فيه:
(شاده مرمرا وجلله كلسا فللطير في ذراه وكون)
فلم اظفر بطائل وذلك أن بناءهم كان في غالب أمره من مادة التراب المدكوك فقضت عليه الأزمنة ورياح الصحراء ولم يتخلف عن ركب الفناء سوى مئذنة سامراء المعروفة باسم الملوية وهي بناء حلزوني من التراب المدكوك واسع من أسفل وضيق من أعلى تصعد فيه ماشيا حتى تبلغ القمة دون جهد جهيد.
ويبدو أن جمالا لم يأبه كثيرا للثورة التي أحدثها الحسن بن هانئ عند مقدمه على بغداد في أزمان هارون الرشيد وابنه الأمين الذي دفع عمره الوحيد ثمنا لمنافسته على الخلافة مع المأمون أخيه غير الشقيق. وكان أول ما استهدفت ثورته الشعرية تقاليد الوقوف على الاطلال التي وجدها تتردد في مطلع كل قصيدة عربية بصورة تدعو إلى السأم والضجر والملالة فقال قولاته الكبار:
? قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضر لو كان جلس
وهو القائل:
? عاج الشقي على رسم يسائله وعجت أسأل عن خمارة البلد
ولو أن النواسي أتي إلى عاصمتنا في هذا الزمان لما ظفر بخمارة (بفتح الخاء) ولا خمارة بضمها إذا صح ما يقال عن انعدام الأقوات والأزواد في عموم البلاد وكانت الخمارة إناء من خزف مستدير تجعل امهاتنا فيه العجين ليختمر قبل تفريقه على صاجات العواسة لصنع أجمل مفردات حضارتنا وهي الكسرة المباركة التي أطعمت شعبنا لمئات السنين قبل أن تصيبنا أدواء الحضارة التي ارهفت أمعائنا حتي غدا الواحد منا يمرض من اكل الكسرة الرهيفة وتصيبه بدعة الاسهالات المائية
وأنا لا أنكر على اخي جمال وقوفه على الأطلال فقد دار الزمان دورته حتى عاد غلى هيئته الاولى في أزمان الجاهلية وما هذا الذي يحدث إلا تلك الموجات الارتدادية الناشئة عن البركان الذي ضرب أرواحنا وبنياتنا الحضارية التي أنشأناها بالكد والاجتهاد واقتطعنا ثمنها من قفة الملاح ومن مصاريف العيال ليقوم على تبديدها جيل من الجهلة الفاسدين. وكيف أنكر عليك وأنا سبقتك إلى الوقوف على طلل السودان كله يوم انفصال الجنوب. وكنا قد تواعدنا على أكلة سمك بدعوة من السفراء بشير محمد الحسن وصلاح محمد علي وعبد الباقي محمد عبد الباقي وقبل أن يكتمل عقدنا حول مائدة السمك رحنا نستفسر كل قادم عن الموقف في المدينة التي جاء منها: بحري أو امدرمان وسان جوزيف وجبرة
وعاد للسمك في حلوقنا طعم الغسلين على النحو الذي تراه في هذه الابيات:

على طلل السودان
+++
? خليليَّ هذا َربْعُ عزِّةَ هـــــــــــــ ــذه رســومُ مغانيها وهذي ُطلولها
? هنا كانتِ الأنسامُ تسري رخِيّةً تقرِّبُ أغصـــانَ المُني إذْ تميلها
? وكانت عشيَّاتُ الحِمى ذاتُ بهجـــــةٍ يُدِلُّ بكاساتِ الســـرورِ مُديلها
? لقد نفذَ المقـــــــدورُ فيها فصوَّحـتْ بســـاتينُها وانفضَّ عنها قبِيلُـها
? فيا لكَ فيها من قبابٍ كواســــفٍ جرى بينها كالجدولِ الضحلٍ نيلُها
? ويا لكَ فيها من حــــــــــــبيبٍ دفنتُه برابيةٍ لا ُيســــتطَاعُ وصولُها
? فأصبحَ رسـماً دارســــــــــاً وأضـْــعتُهُ بيهماءَ قَفْرٍ لا يبينُ ســبيلُها
? خليلي هذا ربعُ عَزَّةَ أنزِلا نُخــــــــــــفِفُّ عن هذي القلوبِ حمولها
? دعاني أُسرِّي الهمَّ عني بعــــــــبرةٍ تبرِّدُ أضلاعي وتشفي غليلـها
? بلطمٍ ولثمٍ للترابِ وحثْوِهِ على الرأسِ والاعضـــــــــاءِ فُلُّتْ فلولها
? فكيف اصطباري إذ أراها صريعةً ولا قولَ لي في أرْشِها وُذحولها
? وكيف هلاكي دونَها حيثُ لم يكـن قتالٌ ولم ينهضْ لحربٍ فحـــولها
? لقد أسلموها هاربين وهرولوا وما همَّهم من عُـــــــلْوِها أو سُفولها
? سلامٌ عليها شدَّما كنتُ أرتجي لأدوائــــــــــها طِباً رؤومـــاً يزيلها
? فتصبحُ روضاً للإخـــــــــــــاءِ وبيعةَ يطيبُ لأيفاعِ اليمـــامِ نزولها
? لحى اللهُ قوماً مزقوها وباعــــــــــــــــدوا شقيقين كانا خُلُّةً وخليلها
? على طللِ السودانِ حِلًّ لك البكا وحِلّ لأنهارِ الدمــــــــــــوعِ مسيلها
? وما الدمعُ والحزنُ العقيمُ بنافعٍ إذا لم تُعبّى للطّـــــــــــــراد خيولها
+++
ومن بركات هذه القصيدة أنها عرفتني عن قرب بفضيلة مولانا دفع الله الحاج يوسف الذي رد عليها ولا اقول عارضها بقصيدة أكثر منها قوة وأسرا كما هو في قاموس عميد الأدب العربي ولا ينبغي لي أن اغمط أفضال صديقي الراحل حسن أبشر الطيب فهو الذي قادني إلى مأدبة مولانا المقامة كل جمعة بداره العامرة بامدرمان حيث تعرفت بطائفة من الادباء والكبراء كما تعرفت على نواح عديدة من فضله ولطفه وجمال روحه ورأيت جمالا وملكا كبيرا من فضلاء مجالسيه وأصدقائه والله أسأل ان يطيل في الاعمار ويشفي الاوضار ويجمعنا به وبرفقته في سماء صافية وارض معشوشبة ونيل جاري لا تحبسه عنا السدود ونعمًا برمضان جعلكم الله من عواده.
++++++

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..