برمتنا، برمتهم، وبرمة الشيخ ادريس

مهدي رابح
*و البرمة هي اناء كروي كبير نسبيا , يصنع من الفخار.
برمة الشيخ ادريس …
في الربع الأول من القرن السابع عشر، اشتهر الشيخ إدريس ود الأرباب بالصلاح و الكرامات،
و قد استغلت سيدة محنكة، و كانت تدير حانةٔ(أنداية) آنئذن اسم الشيخ لأغراض تجارية ، في تسويق بضاعتها و ابتدعت فكرة ما درج تسميته لاحقا ببرمة الشيخ إدريس .
فكانت ترفع رايةٔ فوق اندايتها و تجلس عندها و تنادي باعلي صوتها :
( يا شيخ إدريس يا راجل الفدّة و المدّة، تلحقني و تبيع لي مريستي …)
فيجتمع الناس عندها فتُخرج من المريسة ملء قدرٍ، تسقيهم اياه تصدقاُ ، عن روح الشيخ إدريس ، ثم تشرع في بيع الباقي بالثمن.
و في غالب الظن ان تلك السيدة ،و في ذاك الزمان الغض من تاريخنا ، حينما كانت الحياة اكثر بساطة و النفاق الديني و الاجتماعي لم يتسيّد المشهد العام بعد ، قامت بالترويج لبضاعتها بشكل عفوي ، و سعت صادقة لاستدعاء بركات الرجل الصالح حتي لا تبور مريستها ويضيق رزقها , او ربما لا … لا يهم .
برمتهم ..
ما يجدر التذكير به هو الشواهد العديدة الأخرى الأكثر وضوحا لاستغلال المعتقد و العاطفة الدينية لدي الجمهور او (الزبائن) للحصول على مزيد من السلطة او الثروة او كليهما , و الذي لم يكن بدعاً حينذاك … فهكذا سلوك و علي مستوي مقياسٍ اعلي ,ما فتئ يميّز كهنة المعابد و رجال الدين ممن احتكروا الصلة بين الناس العاديين و كل ما هو الهي مقدّس , و انفردوا بتفسير النصوص عبر التاريخ و حتي يومنا هذا , قبل استقرار بني البشر في مستوطنات مدينيّة , اي بُعيد ما سمي بالثورة الزراعية , في حوالي 12000 ق م ,و تشييدهم المعابد , تمجيدا و سعيا لإرضاء الالهة المختلفة منذ العهد الباليوليثي ,حيث وجدت منه تماثيل استخدمت في التقرّب لإلاهة انثي , اطلق عليها علماء التاريخ و الحفريات اسم الام الكبري , في مواقع اثرية متفرقة تقع غالبها في الشام و تركيا ثم ما تلاها بعد ذلك من الهة حضارات الرافدين القديمة , أكدية كانت, سومرية او كنعانية , و التي اتخذت اسماء متعددة ابرزها عشتار الاهة الخصب او عستارت و ابنها/زوجها بعل ثم ايل .. و قصة اخناتون و صراعه مع كهنة معبد الاله امون أو تاريخ الفاتيكان ابان ازدهار السلطة البابوية , و غيرها من الأمثلة التي لا تحصى , مصدر جيد لمن اراد الاستزادة او ربما حسبه البدء في البحث منذ تاريخ يونيو 1989م اذا لم يجد فسحة كافية من الزمن .
ما يهمنا هنا و ما اراه يسترعي الانتباه في قصة سيدة الحانة (الانداية) السالفة الذكر هو ربما التناقض الصارخ بين البضاعة الخبيثة المعروضة , أي الخمر او المريسة, و ما نجحت هي في ايصاله ,كما تفعل كبريات شركات الدعاية و التسويق العالمية في الزمن الحاضر, من رسالة ايجابية محفّزة تستهدف العقل الباطن للمستهلك في ما يخص الوعاء , أي البرمة التي تحتويها , و المتمثلة في الإشارة الواضحة لارتباطها الوثيق بالخير الكثير عبر استدعاء بركات الشيخ الذي عُرف عنه صلاحه حتي جمع اسم البرمة و اسم الشيخ رباط وثيق .
و هذا قد يذكّر بالطبع بالتناقض الصارخ ما بين الشعارات المرفوعة من قبل نظام الأنقاذ من ادّعاءٕ بان المنظومة الاسلاموية تعني في مجملها العمل لرفعة الدّين و قيم الفضيلة و الطهر الأخلاقي , أي البرمة او الوعاء الخارجي المحاط بالبركات و بين سلوكه غير القويم كمؤسسة و كأفراد, أي المحتوي الحقيقي الخبيث داخل ذاك الوعاء اللامع , و هذا باب لن نتوسع فيه كثيرا , فقد طُرق حتي ملّت و كلّت المتن و كاد صوت طرقه يصبح خلفية صوتيّة رتيبة دائمة , مستشهدين ببيت الشاعر اسماعيل صبري باشا المشهور :
طرقت الباب حتي كلّ متني … الخ
لكن ما يجب ان نضيفه هنا ايضا وبداعي الأمانة , و حتي تكتمل الصورة , هو الاعتراف بنجاح تسويق الخطاب الديني العاطفي الشبيه بنداء سيدة الحانة تلك ,و الذي تبناه الإسلامويون في زمانه علي استقطاب وضم عديد النخب السودانية بالإضافة لضمانه تعاطف قاعدة جماهيرية كبيرة نسبيا مقارنة بحجم التنظيم , وهو ما فشل فيه غالبية الكيانات السياسية حينها .
ومن وجهة النظر العلمية (Marketing Science ) والتقنية البحتة و ليست الأخلاقية بالطبع ,فانه لا يقدح من ذلك النجاح قيام النظام لاحقا و استجابة لتآكل شرعيته و شعبيته المتعاظم , بالإسراف في استخدام سلاح المال و الإرهاب الفكري و العنف الجسدي المفرط المميت.
برمتنا …
و المقصود ببرمتنا هنا هو ذلك الوعاء الذي يحمل مشروعا وطنيا يدعو لدولة مواطنة , مدنية ,ديموقراطية , حكم قانون ,حرية و تداول سلمي للسلطة , تبني حول عقد اجتماعي واضح المعالم تكون اركانه الحرية , السلام و العدالة…
أي ببساطة تحويل السودان الي دولة طبيعية قابلة للحياة , للنمو , للنجاح و التفوق.
و هو مشروع تحمله عديد الكيانات السياسية و منظمات المجتمع المدني و تجمعات الحراك الشعبي , التي لو تجاوزت عقد الفردانية و شخصنة القضايا و التوق للانفراد بالسبق المتخيّل و و قبلت بالالتزام بقواعد اللعبة الديموقراطية داخل كياناتها قبل محاولة فرضها علي الغير ثم وضعت بعد ذلك مصلحة الوطن الكبير فوق الصغائر و توحّدت بصدق لأصبحت ,ورغم انف ذوي النظرة الأنهزاميّة , التيار المسيطر و الموجه لغد مأمول …
و ذلك لن يحدث قبل الإجابة علي السؤال المفصلي :
كيف السبيل لأقناع القوي الوطنية بالارتقاء لمستوي مسؤوليتها التاريخية و الحاجة الملحّة العاجلة للالتفاف و التوحّد حول المشروع الوطني الواعي و الواعد و ابتداع اليات جديدة للمقاومة و خطاب ملهم للجماهير و مشروع دولة بديل واقعي و واضح المعالم , و من ثم تسويقه علي مستوي القواعد , دون اللجوء للنفاق و الكسب الرخيص باستغلال الشعارات الدينية او الشعبويّة او العنصرية …؟
اعلم ان هنالك كثير من الأسئلة و قليل من الإجابات هنا ,لكنها في نهاية الامر دعوة للتفكّر, و في عمقها تفاؤل كبير بان مستقبل البلاد سيكون مشرقا لا محالة , وان الفشل ليس قدره و ان الخير سينتصر و ان هنالك نور ساطع في نهاية النفق المظلم … و برمة هي برمتنا ملأي بالرحيق الطيب سننهل منه قريبا و يسكرنا فرحا , و نحن نرقص سويّا علي انغام البانمبو و الطنبور و الام كيكي و الطار و النقارة و الجنقر و العود و الوازا … كلها في ساحة واحدة مخضرّة , تسع الجميع اسمها السودان .