من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (13)

بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرنا في المقالات السابقة ان العلوم الجيولوجية والجغرافية والتاريخ، قديمه وحديثه، ثم العلوم الوراثية والاحياء الجزيئية تستطيع ان تغير المفاهيم المقلوبة والتزييف الذي تعرض له تاريخ العالم ، خاصة تاريخ السودان القديم والحديث الذي نعتبره صاحب اقدم وارقى حضارة بشرية قبل وبعد نوح وطوفانه.
ناقشنا في الحلقات السابقة الخطوط العريضة لجيولوجيا وتاريخ النيل ،ونحاول أن نربط ذلك (بتواجد الانسان) بتلك المنطقة في تلك الأزمان اثناء تطور النيل منذ ميلاده حتى نضجه (النيل الحديث). كل تلك الفترات كان (سكان وادي النيل) يقيمون بارض السودان الحالية، ولم يعرف (جغرافيا) حتى ذلك الوقت (ارض) تسمى مصر (هبة النيل)، أو( شعب يسمى بالمصريين !!!!). في الحلقة السابقة تحدثنا عن الأنيال (جمع نيل) الأولى في مصر (6-7 ملايين سنه)، و عن ما قبل النيل ويعرف علميا باسم (البرينيل) والنيل الحديث ونيل العصر الحجري القديم (المبكر)، في الحلقة الحالية نتحدث عن:
نيل العصر الحجري القديم المتوسط المتقلب:
تلت العصر الحجري القديم فترة طويلة امتدت لحوالي 200 الف سنة هي مدة معظم العصر الحجري القديم المتوسط, وتميزت (بنيل متقلب). كانت كمية مياهه الواصلة من أفريقيا تتأرجح، ترتفع مرة وتنخفض مرة أخرى. كما كانت تصله مياه وافره من أرض مصر التي عمتها أمطار موسمية في هذه الفترة المطيرة التي تلت فترة جفاف فصلتها فترة العباسية الثانية المطيرة. وتسمي هذه الفترة المطيرة التي (عاصرت إنسان العصر الحجري القديم المتوسط) بفترة صحاري المطيرة.
وعلى الرغم من وجود مصدرين لمياه نيل العصر الحجري المتوسط إلا أن النهر كان في عمومه ضعيفاً. فقد كانت معظم الأمطار المحلية تصله في وقت الشتاء في غير موسم الفيضان. وقد إختلف هذا النهر لذلك عن كل أنهار النيونيل ذات الأصل الأفريقي في أنه عاصر فترة مطيرة ساهمت في زيادة مياهه. و بإستثناء هذه الحالة فإننا نلاحظ أن النيل كان يصل إلى مصر من أفريقيا عندما كان الجفاف يسود أرضها. ويوجد إلى الجنوب من البلينا (إبيدوس) مقطع جيد لرواسب نيل العصر الحجري القديم المتوسط الآتية من أفريقيا متبادلة مع رواسب الوديان الناتجة عن الأمطار المحلية التي كانت تأتي في وقت الشتاء وفي غير موسم الفيضان.
وقد بدأ نيل العصر الحجري القديم المتوسط تاريخه بحفر مجراه وتعميقه في رواسب الأنهار التي سبقت فنرل مجراه من منسوب 30 م فوق منسوب النيل الحديث والذي كان عليه منسوب نهر دندرة الذي سبقه إلى منسوب 23-25 م ثم منسوب ثمانية أمتار. وأخيراً إلى منسوب ستة أمتار فوق منسوب النيل الحديث. وعند كل من هذه المناسيب كان النهر يثبت لفترة ليكون مسطحاً جانبياً على شكل المسطبة. ويوجد بجميع هذه المساطب حصى جرفة السيل من صخور جبال البحر الأحمر النارية وتحتوي المسطبة على إرتفاع 8 م على أدوات حجرية لإنسان العصر الحجري القديم المتوسط المبكر (المسمى بالعصر الموستيري). وتمتد هذه المسطبة على جانبي الوادي من أسوان وحتى أسيوط. ولا يوجد للمسطبة أثر إلى الشمال من أسيوط إذ يبدو لأنها زالت بواسطة عوامل التعرية. أما المسطبة على إرتفاع ستة أمتار فتمتد على جانبي الوادي فيما بين أسوان والأقصر، ثم تهبط تحت رواسب النيل الحديث إذ يبدو إن نيل العصر الحجري القديم المتوسط في زمان تكوينها قد إتخذ تدريجية أكثر إنحداراً من النيل الحديث.
كان نيل العصر الحجري القديم المتوسط لذلك نهراً قاطعاً ومعمقاً لمجراه في معظم وقت سريانه، وقد يرجع ذلك لأن هذا النهر قد صاحب فترة طويلة من هبوط منسوب البحر العالمي. فقد كان جو الأرض في الفترة بين 300 الف الى 128 الف سنة قبل الآن بارداً مما ساعد على تراكم الثلوج فوق العروض العليا من الأرض، و إمتناع المياه عن البحر ، وفي فترات هبوط منسوب البحر تحفر الأنهار مجاريها لكي تتجاوب وتتدرج مع منسوب البحر الجديد.
وقد عاصر هذا النهر ظهور (إنسان العصر الحجري القديم المتوسط) الذي إنتشر في (صحاري مصر وحول وادي النيل), وقد وجدت الأدوات الحجرية التي إستخدمها الإنسان بين الحصى الذي ينتشر فوق مصاطب هذا النهر وعلى سفوح الكثير من الجبال التي تحف وادي النيل. ومن أهم هذه السفوح بلدة المخادمه، إلى الشمال من قنا، الذي تمتلئ بهذه الأدوات. وتعود أهمية سفح المخادمه في أنه يعطي الدليل على أن شكل النيل الحديث بسفوحه التي تحفه كان قد تشكل في هذه الفترة. أما في الصحراء فهناك من الأدلة ما يقطع بأن هذه الفترة كانت محرجة وهامة أيضا في تشكيل تضاريس الصحراء التي نراها الآن.
وتشير دراسة رواسب العصر الحجري القديم المتوسط بالصحراء الغربية إلى أن كمية الأمطار التي عاصرته (أمطار فترة صحاري) تقلبت فإزدادت في أول الفترة وآخرها وقلت في وسطها. وكما عاصرت الفترة المبكرة منه الحضارة الموستيريه عاصرت الفترة الأخيرة منه الحضارة العاطريه. وقد إكتشف في صحاري مصر عدد محدود من موجودات هذه الحضارات. وقد يعود ذلك لأن الكثير من هذه الموجودات قد تعرضت لعوامل التعرية فإنجرفت بقاياها و إختفت من مكانها.
وتعتبر صحاري المطيرة التي عاصرت حضارة العصر الحجري القديم المتوسط هي آخر الفترات المطيرة الكبيرة في مصر. وكما سبق القول فقد تشكل فيها لاند سكيب مصر الحديثة ففيها تعرت أراضيها و إختفت كافة سطوحها القديمة وتكونت سطوحها وسفوحها التي نعرفها الآن. ونظراً لشدة التعرية خلال هذه الفترة فقد إختفت السطوح القديمة إختفاءا تاماً فلم يبق منها الآن شيء يذكر.
وعلى العكس ما تشير إليه دراسة الظواهر الجيومورفولوجية فإن البقايا القليلة للحيوانات والنباتات التي وجدت في رواسب هذا العصر تشير إلى أن الأمطار لم تكن غزيرة للدرجة التي تعطيها لنا صورة التطور الجيومورفولوجي للاندسكيب مصر. صحيح أن بعض هذه الحيوانات يحتاج إلى جو مطير للعيش مثل الخنزير البري الذي يوجد في أفريقيا الإستوائية، لكن معظمها لم يكن يحتاج إلى أمطار غزيرة للعيش. فقد كانت كلها من نوع الحيوانات القادرة على العيش في المناطق الجافة، ومن هذه (وحيد القرن الأبيض) وبعض أنواع الجاموس البري وبعض أنواع الغزال والجمال. وكل هذه تعيش اليوم في منطقة الساحل الأفريقي التي لا تزيد كمية الأمطار فيها على 400 مم في العام.
نبيل حامد حسن بشير
جامعة الجزيرة
[email][email protected][/email]