رحلتى في أرجاء الخدمة المدنية.. مصلحة المالية (5)

كادت عطلة صيف عام 1956ان تشهد توقف توظيف الطلاب الصيفى بسبب غياب الامير مامون بحيرى عن السودان فى رحلة خارجيه.. تجمع نفرمنا – نحن قدامى افندية العطلات الصيفيه والمستبشرين خيرا القادمين لأول مرة الآملين فى نوال شىء من مكافات العمل الصيفى ? ذات صباح اغرعلى غير سابق موعد- فى البهوالمطل على القصر الجمهورى شرقا والفاصل بين قسمى الاجازات والعلاوات و”الابوينتمنتس”اكمال اجراءات
تعيين موظفي الحكومه..توجهت الي الاخ ابراهيم عبد الغنى (رحمه الله فى الفردوس الاعلى( وهو من كان يمثل حلقة الوصل بين الطلاب ورؤساء الوحدات والاقسام ويقوم بتوزيع من يتم استيعابهم من جمعنا بين الاقسام والوحدات حسب رغبات رؤسائها..ابلغته بتجمعنا كما جرت العاده فى اول سبت من شهريونيومن كل عام درجنا فيه على الحضورالى وزارة الماليه.. ما ان رآنى الآ وارتسمت على وجهه الصبوح ابتسامة سرعان ما تلاشت.. نهض من على مكتبه وجاءنى خارج المكتب..واتجهنا سويا الى حيث كان الجماعه ينتظرون..حياهم تحية مقتضبه فى شىء من الحزم وبدا يحدثنا فى نبرات تحمل قدرا من التاسف من قبيل”والله يا جماعه.. ماعارف اقول ليكم شنو..الحقيقه..” اخيرا بعد محاولات للتعبير لملم اطرافه و اعلنها فى نبرات حزينة آسفه عن عجزالوزارة عن استيعابنا للعمل اثناء تلك العطلة شاكرا من سبقت لهم الحسنى عملا فى الماليه ولكنه استدرك متسائلا ان كان منّا من يوافق على العمل تطوعا الى حين عودة سيدمامون عسى ولعل الخير يكون على مقدمه.ران صمت لبضع دقائق..وبدأ البعض يتجه الى الخارج حالما ابدى ثلاثة من قدامى الطلاب موافقتهم على العمل تطوعا(كنت واحدا منهم ربما كنت اكثرهم تفاؤلا واقلهم انفاقاعلى المواصلات من والى وزارة الماليه لقرب موقع سكنى منها وسهولة الوصول اليها باستخدام “الترماى” فضلاعما كنت اتقاضاه من مشاركاتى فى تحكيم مباريات كرة القدم داخل دار الرياضة او خارجها خلال الاسبوع. ومن ثم توجه ثلاثتنا متفائلين الى سوابق مواقع عملنا ننتظرعودة الامير..وقد كان..”تفاءلنا بالخير فنلناه”.. ويرزق الله من يشاء بغيرحساب..وانه لايخلف الميعاد.حال عودته تساءل السيد مامون عن خبرموظفى العطلة الصيفيه.قام “المنسق العام”(وهواسم اطلقناه على ابراهيم عبد الغنى)بافادته عن الامرفجاء رد فعله فى نهاية الدوام بموافقته على اعتماد تعيين ثلاثتنا بعد ان تأكد من حاجة تلك الاقسام لخدماتنا..وبعد اسبوعين اصدرقرارا برفع مقدار مكافأة المتطوعين الثلاثة الى خمسة عشرجنيه بدلا من الحداشرجنيه السابقه ويتم صرفها من تاريخ بداية عملنا تطوعا.
اما فى صيف عام 1957 الذى كان الامير مامون قد غادرالمالية الى بنك السودان قبل حلوله فقد شهدت تلك العطلة – بتوصية مسبقة منه – رفع قدر مكافأة من كانوا من طلاب الجامعه الى ثمانية عشر جنيها..تقديراوتحفيزا واغراء لطلاب جامعة الخرطوم على وجه الخصوص. الجديربالذكرفأن نفرا ممن سبقونى تخرجا فى جامعة الخرطوم فى ابريل من اعوام 1955 و1956و1957 على التوالى كانوا قدالتحقوا بوزارة الماليه فورتخرجهم فيها.. منهم – حسب سنوات تخرجهم- كان الاخوة الكرام مدثرعبد الرحيم قبل اختياره معيدا بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعيه ومهدى مصطفى الهادى قبل انتقاله الى وزارة الخارجيه (خريجىْ 1955)ثم كان عبدالرحمن عبدالوهاب والشريف الخاتم( خريجىْ 1956) ومهدى الفكى قبل انتقاله الى بنك السودان وامين ميرغنى قبل انتقاله الى وزارةالتجاره وآخرين من الذين تخرجوا عام 1957 (رحم الله من انتقلوا الى اعلى الفراديس وحفظ الله من لا يزالون ينتظرون ومتعهم بالمزيد من الصحة والعافيه)..كما لا يفوتنى ان اذكران بعض الوزارات والوحدات الحكوميه فى سابق القرون كانت تحذو حذوالمالية(الزراعه..التجارة والتموين.. ومصلحة الاحصاء نموذجا)باتاحة الفرصة للطلاب للعمل الصيفى فى بعض اقسامها فضلا عن ان معظم تلك الوزارات وغيرها من الوحدات الحكوميه كانت تبعث بمندوبين عنها الى الجامعة فى الاشهرالاواخرمن كل عام دراسي(فبرايرومارس) يتحسسون رغبات موعودى التخرج ويجمعون المعلومات عن المتميزين منهم يمنونهم بالترقى الى اعالى الدرجات وبالمستقبل الواعد فى ظل ما يتوقع من التوسع المرتقب فى اقسامها فضلاعن اغرائهم بالابتعاث العاجل بعد انقضاء سنتى حاجزالكفاءه اللازمتين لبقاء الموظف فى نفس درجة التعيين الوظيفيه قبل تثبيته واكمال اجراءات دخوله النظام المعاشى.كما كانت بعض الصحف تستفيد ايضا من جهود نفرمن الطلاب اثناء تلك العطلات..
ولكن الغريب ان وزارة المعارف ? المفروض تكون اكثر الوزارات سعيا لاستقطاب خريجي الجامعة للالتحاق بها نسبة لارتفاع عددالمدارس الثانويه الحكومية المضطردعاما بعد آخر- لم يُعلَم او يُسمَع عنها انها تقوم بارسال مندوبامنها الى الجامعه لآغراء خريجيها للالتحاق بها علما بانها – وزارة المعارف كانت اخرموقع يتجه الخريجون للعمل فيه الاّوهم مضطرون بعد ان يكون قد تعذرعليهم الالتحاق باى موقع آخرلأى سبب من الاسباب وتبين لهم ان من الانتظارما قتل وقد طال عليهم الامد ينتظرون..بينما رفاقهم من نواب المآميرومساعدى ضباط الحكومة المحليه وغيرهم من خريجى كليات الاربع سنوات على وجه الخصوص تبدلت احوالهم مظهرا ومخبرا شانهم شان من عُرِفوا من قديم ب “الاكاديميكالى سيوبيرير”هم الدكاتره اولاد الهَنا والمهندسين الجو ورسمو البِنَا) والآخرين من زراعيين وبياطره الذين عادة يتم توظيفهم فورا فى وزارتى الزراعة والثروة الحيوانيه (التى كانت تسمى البطرى)مباشرة حال تخرجهم.ألأانه كان من غيرالمالوف ان حظىت وزارة المعارف من خريجى جامعة الخرطوم فى عام 1958 ثلاثة عشرمن كليتى الآداب والعلوم الى جانب من التحقوا بها من خريجى جامعتى القاهرة الام وفرع الخرطوم..ورغم هذا فانها – اى وزارة المعارف-ظلّت ّتواصل تعيين عدد غفيرمن”الاكسباتريتس” لحاجتها المتزايده لمعلمي مواداللغة الانجليزيه والرياضيات والعلوم الطبيعية من البريطانيين والمصريين ومن اهل الهند والسند وبلاد تركب الافيال.
*كان قسم الاجازات والعلاوات آخرمواقع عمل لى فى وزارة المالية على الاطلاق.على الرغم ان عطلة 1957 الصيفيه شهدت امرا لم يسبق له مثيل فى تاريخ وزارة الماليه..حينما استدعانى الى مكتبه ذات صباح(وشخصى الضعيف على وشك مغادرة القسم الاجازات بعد ايام قلائل عائدا الى الجامعه لبداية عامى الدراسى الاخيربها)استدعانى السيد حسن كامل-نائب مديرقسم شؤون الموظفين”الاستابليشمنت” بواسطة باشكاتب القسم .. تحدث الىّ طويلا مشيدا بادائى خلال العطلات الصيفية الخمس التى كنت اعمل خلالها منذ عام 1952فى وحدات شؤون الموظفين التى كانت اولاها وحدة تعويضات الاجانب تحت ادارة عارف (تلحوق)” كامل الاسدى” كما جاء ذِكره سابقا.. ومن فوق اطار نظارته الطبيه (للقراءة) ختم حديثه بكلمات آمرة “بعد ما تخلّص أخرامتحان تجينى هنا.. لأننا قررنا انك تشتغل معانا بعد تخرجك “مساعد مفتش بالدرجة “كيو”وبدون”انترفيو” وبدون منافسه مع اى من زملاءك التانيين.. انا حاكون فى انتظارك”!.كان عرضا يسيل له لعاب اى خريج جامعى..حكايه لاتُصدّق ولاتخطرعلى بال..شُغُل مضمون ميه الميه – اذا طالت الآجال وصدقت آمال العم حسن كامل (عليه الرحمة فى اعلى عليين)- عرض قدمه لى نائب مديرالاستابليشمنت وكمان بنفسو!ولكن لأنه كان مكتوبا فى الازل ان اكون معلّما كان ردى على حديثه الطيب واطرائه على شخصى الضعيف مفاجئا ..ونزل على اذنيه نزول الصاعقه.. لم يصدّق ما سمع فهو لم يتخيل انه كان هناك من يمشى على رجلين ممكن يسمّع “حسن كامل” اعتراض او رأى يخالف ما يقول! حسن كامل المهيب شخصا والمهاب مظهرا ومخبرا..الذى كان عندما يشيربامرما لا يملك كل من علم ان حسن كامل اشاربامر ما الآ ان يندفع بكل قواه العقلية او الجسمانية لأنزال تلك الاشارة الى ارض الواقع والعجب اذا حسن كامل قال او امر! حينها يظل كل من سمع وكان جالسا لابد ان يكون قد وقف على قدميه! الى ان يتم القيام بما امرحسن كامل به..كانت ردة فعله حالما جاءته كلماتى بعدم رغبتى فى العودة للعمل فى وزارة الماليه بعد اكمال آخرعام دراسى بالجامعه فى ابريل 1958..”انا ماشى المعارف وساعمل فى مجال التعليم وليس فى غيره”..احسست انه لم يصدق ماسمعته اذناه..ومن فوق عدسات نظارته الطبيه التى كانت لاتفارق ارنبة انفه حدجنى بنظرات حادة تتابعت من اعلى راسى الى اخمص قدمى..وفى عصبية تناول نضاره النظرورمى بها على التربيزه..وتناولها تانية واعادها الى موقعها على انفه.. متسائلا” بتقول ايه ..عاوزتشتغل فين؟ فى المعارف! ليه!. ناس المعارف طلبوك؟..وتعمل ايه فى المعارف..لو عاوزنّك يجو ياخدوك من عندنا.. روح واوّل ما تخلّص اخر امتحان تجينى هنا قبل ما تروح المعارف البتقول عليهأ دى”..غادرت مكتب خسن كامل عائدا الى مكنة الطباعه..ولكن الرجل جاء على اثرى وفى انفعال ظاهر نادى على العم حسن مصطفى (باشكاتب القسم) عدت اواصل طباعة خطاب تركته على المكنه حينما ذهبت لمقابلة نائب المدير. وكان قد التف حال عودتى عدد من موظفى المكتب حولى يستجلون الخبر.. خبرذلك الاستدعاء اللى كان من الممكن يكون نذير شؤم لآى من الموظفين الدائمين فى اى وحدة من قسم شؤون الموظفين مهما علت وظيفته! عاد البشكاتب بعد فترة من الزمان طالت بعض الشىء ولايزال يلتف حولى نفرمن الموظفين ..لا بد ان يكون الخطب جلل ولا محالة انى مرفوت فى التو والحين حتى قبل ان اكمل طباعة ما تبقى من الخطاب اللى خلّيتوعلى المكنه وذهبت لمقابلة نائب المدير!عاد العم حسن مصطفى وعلى وجهه ما طمأن الرفاق بان الامرخير باذن الله وطلب من الجميع العودة الى ترابيزهم ونادى علىّ .. خرجت على اثره لنقف فى البهوالمواجه للقصر الجمهورى والفاصل بين مكتب الاجازات وقسم التعيينات..تحدث الرجل (رحمه الله) الىّ حديث الاب الناصح الامين..لن انسى كلماته الطيبات ناقلا لىّ رأى نائب المدير ونواياه الحسنه عما كان ينتظرنى فى مستقبل الايام و لكن”رغم ردك كان صادم ووقع عليهو وقوع الصاقعه..اظنك ما كنت عارف عمك حس دا ما فى زول بيقدر يعارضو! لكن لسّ عندو امل انك تغيّر رايك” ونقل لى ما قاله له عن شخصى الضعيف”الولد دا ما يروح مننأ..لكن – موش عارف – يبدو انّو ما طبيعى..مجنون!..ولآّ ايه حكايتو..اقولّوحاعيّنك بعد أخر ورقة امتحان بدون انترفيو او منافسه يقول لى ماشى المعارف! شوف لى ابوهو فين..الولد دا ما يضيّع مستقبلو فى المعارف ساكت! ختم العم حسن مصطفى حديثه الطيب بقوله ” الطيب يا ابنى..المثل يقول البٍدورك احسن ليك من التّدورو. ودحين عمك حسن متوسّم فيك الخيروكلنا والله مشاركنّو الراى.. لى كل حال الامر فى ايدك ولك الخيار,, حبّيت تجى معانا.. دا المراد وان ربنا جعل ليك نصيب فى المعارف.. ربنا يوفقك ولا نملك الآ ان نسال الله لك الخير فى كل خطوة تخطوها سواء فى المعارف او معانا فى الماليه .لاكين عمك حسن كامل متمسك بيك شديد وعندو مسعى تانى معاك قال بعد ما يقابل المدير!”
احاديث الذكريات تتواصل اضطرارا لكتابة حلقة سادسه آمل ان تكون نهاية لتجربة فى وزارة المالية لا تزال تتجدد اصداؤها كل حين فابقوا معى.
الطيب السلاوى
[email][email protected][/email]