الفكر الديني عند الأستاذ فتحي الضو وعلاقته بإسقاط النظام

إن نقد زاوية محددة من الشخص لا يعني ذلك إغفال لبقية الزوايا التي يمكن أن تكون أوضح كثيرا ولكن هذه الزاوية الخافية تمثل جزء مهم يجب ان لا يهمل، فهو إذا ليس نقد للذات ككل أو دعوة لتجاهل ما يقوم به ذلك الفرد في الاتجاهات الأخرى، وكذلك نقد فكر محدد يمثل نقد لذلك الفكر عند كل من يحمله فذلك الفرد يكون مثال فقط لكل الآخرين. فقد عانيت سابقا في إيضاح هذه النقطة عندما انتقدت د. حيدر إبراهيم على في إحدى المقالات، ولذلك أحببت ان أوضح مسبقا ان هذا ليس هجوم شخصي ولكن نقد للأفكار حتى لا يتم افتراض أننا نتجنى على الأستاذ في شخصه أو نعمل على هدم أهرام نخبوية لها مريديها، وكذلك لا نغفل عن ما يقوم به من أعمال في الاتجاهات الأخرى من اجل الدولة التي نسعى إليها جميعا وهي الدولة التي تسع الجميع.
من مقاله الأخير على صحيفة الراكوبة بعنوان: لماذا نحب الله والوطن والديمقراطية، نبدأ بالقول ان النخب السابقة قد تجنبت طرح الأسئلة عن ماهية العقيدة والإيمان والكيفية التي يمكن ان ندرك من خلالها الله رغم انها من الأسئلة الضرورية لأي نخبوي حتى يقود مجتمعه على رؤية راسخة في داخله، وموضوع العقيدة ليس من المواضيع التي يمكن ان نتجنب مناقشتها لما لها من اثر ظاهر على المجتمع إلى الآن، ولم يتجنب طرح تلك الأسئلة سابقا فقط بل إلى الآن لم يستطيع ان يعبر عنها مباشرة وإنما يشير إليها من بعيد فقط عندما يقول (أطيل النظر لشجر تطاول أمام عيني كأنه يريد أن يبلغ عنان السماء، في حين تبدو السماء نفسها صافية رغم العتمة، أحدق فيها بين الفينة والأخرى، كمن يريد أن يثقبها ضربة لازب. وأتساءل في سري هل يا ترى يوجد عرش الله حيث تناهى نظري، يتلعثم لساني كمن يحدث نفسه، فينقلب إليَّ البصر خاسئاً وهو حسير. هنيهةً ويباغتني ما قاله الحلاج يوماً فأبعد خواطري عن الفكرة الحمقاء، وأهرب بِكرِ البصر مرتين محدقاً في المنازل الصامتة كصمت القبور، وحدسي يقول لي إن ساكنيها يغطون في نوم عميق، بدليل السكون الذي يلف المكان. ولكن هب أنهم أيقاظ هل يا ترى ثمة أحد يفكر في ما أفكر فيه في تلك اللحظة؟ يجيب صوت خافت ليقطع الشك باليقين ويقول: لا أحد يدور بخلده مثل الذي يدور بخلدك، سواء في اليقظة أو الأحلام. فالذي تفكر فيه تضرب له أكباد الطائرات، وتقطع فيه بحور ومحيطات، وتنفصل فيه الروح عن الجسد، لو يعلمون!). فإذا انفصل رأس النخبوي عن جسده وهو يجاهر بأفكاره وعن ما يعتقده في مقابل أفكار أخرى يراها لا تعبر عنه يكون قد أدي دوره الأساسي في الحياة وهو التفكير فيها ونشر أفكاره تلك لمن شاء دون إكراه. فكيف لنخبوي أن يهرب من دوره الحقيقي في مجتمعه؟! ولماذا كل محاولات التعتيم حول تلك الأسئلة.

فللأسف هروب تلك النخب من تلك الأسئلة جعلها لا تواجه تلك الأسئلة وكذلك لم تغادر دائرة تلك الأفكار وتتركها دون المحاولة الدخول فيما هو صحيح وخاطئ، ولكنها عملت على اخذ مقتطفات من تلك الأفكار، فكانت مضطربة فكريا في موضوع العقيدة مما جعل المجتمع مضطرا إلى الأخذ بالفكر العربي الإسلامي بكل عيوبه باعتباره اوضح. والأسئلة عند الأستاذ فتحي الضو ليست وليدة اللحظة والا لوجدنا له العذر ولكنها امتدت معه من أزمان سابقة، ولكنه للأسف لم يطرح تلك الأسئلة في وقتها حتى نستفيد منها في التراكم المعرفي ويستفيد منها المجتمع في عدم التقيد بفكر أحادي. فقد ذكر (من سنن الكون تراكم السنين، الواحدة تلو الأخرى. ولكن أدري آماد وقفتي تلك، فقد تكررت مراراً وإن اختلفت الأمكنة وتباينت الأزمنة. وتبعاً لذلك تكررت تساؤلاتها وإن تغيرت الوجوه وتبدلت الهموم).
واخذ تلك النخب لأجزاء من الفكر العربي الإسلامي دون بعضه الأخر جعلها تتمسك بأفكار فطرية (فإن كنت تحبنا يا الله مثلما نحبك فلماذا تدع هؤلاء الأبالسة يعبثون باسمك الكريم؟ يقولونك ما لم تقل، ويفعِلُونك ما لم تأمر به عبادك الصابرين؟ هم قتلوا وعذبوا ونكلوا واغتصبوا وسرقوا وأفسدوا وأنت تعلم، فحتام لا ترينا فيهم آياتك ووعدك الحق؟ هم يدَّعون أنك ابتعثتهم لإخراجنا من الظلمات إلى النور، ونحن لم نسفك دماً كما سفكوا، ولم نأكل سحتاً كما أكلوا، ولم نكذب زوراً كما فعلوا، فلماذا لا تُنزل عليهم سوط عذاب يُذكِّرهم بسوء ما عملوا وجرم ما ارتكبوا؟ فهل ما فعلوه أقل ذنباً مما اقترفه قوم نوح ولوط، وهل ما فعلوا أدنى كفراً من ما ادَّعي فرعون ذي الأوتاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد؟!).
فإذا كانت تلك النخب أشعلت شعلة تلك الأسئلة لأدركت انه مهما كان حبك لله فلن يتدخل في الحياة الإنسانية لصالح احد. ولو أشعلت تلك النخب تلك الشعلة لأدركت انها تمتلك قوتي الوعي والفعل التي هي الهبة الإلهية لمواجهة الحياة ولاستخدمتها بدل أن تواصل التواكل على الله.
والمشكلة الحقيقية ان ذلك كله قد خدم منظومة الفكر العربي الإسلامي الذي تغلغل داخل المجتمع دون أن يجد من يوقفه. فلم تدرك النخب السابقة عملية التراكم المعرفي الضرورية للنخب من اجل التواصل وكذلك للمجتمعات من اجل استمرار وجود تلك الأسئلة داخلها حتى تتقبل عملية التغيير. ولكن سكوت تلك النخب في ذلك الوقت الذي كان فيه المجتمع مهيأ لتقبل كل الأسئلة والأجوبة جعلت من ذلك المجتمع يغلق باب الأسئلة ويتحول إلى منظومة جامدة ويحتاج إلى كثير من العمل من اجل إعادة تفكيكه وزرع الأفكار الأخرى. فتلك النخب عاشت مساحة من الحرية الاجتماعية وتقبل للأفكار المختلفة وكان كل فرد يجد فرصته ليس في التعبير عن رأيه فقط ولكن يحاول المجتمع ان يتبع ذلك الرأي ويقارنه بينه وبين موروثه التاريخي ليدرك فائدة ذلك الفكر على حياته الاجتماعية، وتلك الحرية الاجتماعية هي ما نفتقده تماما الآن نتيجة لتغلغل الفكر العربي الإسلامي داخل المجتمع الذي لم يجد غيره.

فعندما أطفأت تلك النخب تلك الشعلة أوقدها الفكر العربي الإسلامي واستثمر فيها من خلال اذرعه المختلفة، فعندما كانت تلك النخب تتشاغل عن تلك الأسئلة كان الفكر العربي الإسلامي يحفر عميقا ليزرع ان العرب خير امة عند الله فعلى كل عربي أن يفتخر بأنه خير من غيره واوهم المجتمعات بان الله من يقول ذلك وليس الفكر العربي الإسلامي. فوجدنا المجتمعات السودانية تتسابق إلى الانتماء العربي وهي معذورة لأنها لم تجد فكر آخر. وعلينا إدراك الأثر الذي يخلفه مثل ذلك الفكر على المجتمع السوداني الذي يعتبر الدم العربي جزء ضئيل وفي بعض المجتمعات فقط، مما قاد إلى نهوض القبلية ورفض الاخر والاحتراب وغيره. وعندما كانت تلك النخب تتجادل فيما بينها عن الديمقراطية والماركسية وغيره كان الفكر العربي الإسلامي يزرع داخل المجتمعات الحاكمة مفاهيم الحاكمية لله والمستخلفون في الأرض حتى أصبحت فئة ضئيلة هي الحاكمة والمستخلفة وترك الوطن يعاني الأمرين. وعندما كانت تلك النخب تلهو كان الفكر العربي الإسلامي يحفر عميقا ليزرع مفاهيم الشريعة الإسلامية والدستور الإسلامي ويقول ان تلك المفاهيم من الله دون ان يجادله احد. وعندما كانت تلك النخب تتناحر داخل أحزابها حول الحصة الأكبر في السلطة كان الفكر العربي الإسلامي يغرس في المجتمعات ان المسيحيين كفرة وان من خاواهم أو صاحبهم صار منهم وخرج من الدين الإسلامي دون ان يجد من يقول له ان ذلك من مقولات الفكر العربي ولا علاقة له بالإرشاد الإلهي. ووجدنا اثر ذلك عندما أعلنت الحركة الإسلامية ما أسمته بالجهاد في الجنوب فمات كثير من السودانيين من الجانبين نتيجة للفكر العربي الإسلامي الذي ليس له علاقة بالإرشاد الإلهي، واستمر الأثر إلى ان وصلنا إلى تقسيم الوطن الواحد. فلم يجد احد يقول للفكر العربي الإسلامي ان لا وجود لمسمي شهيد الله ولكن يوجد شهيد الفكر أو شهيد الوطن أو شهيد العرض وغيره، فقد انتهي مفهوم الشهادة الإلهية مع اكتمال أخر رسالة إرشادية. فكل ما يحدث بين المجتمعات الآن عليها ان تجد له سبب من داخل الحياة وليس من خارجها.
وقد تحسرت لكمية المتاهة الفكرية التي أدخلنا فيها الفكر العربي الإسلامي عندما سألني طفل في الثانية عشر من عمره: هل يوجد مسلمين في كاس العالم؟. أو آخر عندما ذكر لي انه لا يشجع كرستيانو “الدون كما يحلو لمعجبيه” ولكن يشجع محمد صلاح في نهائي أبطال أوروبا، وعندما سألته لماذا؟ ذكر فقط لان محمد صلاح مسلم!.

وبعد كل اثر الفكر العربي الإسلامي ذلك الذي عمل على تفكيك المجتمع السوداني وزرع الفتنة داخله وجعله لا يتكامل ويرفض بعضه بعضا، جاء من يتساءل كيف بقي النظام الذي ورث كل ذلك الإرث من الفكر العربي الإسلامي ودعمه الترابي بأفكاره إلى الان؟!، وما لم يدركه هؤلا ان الترابي استفاد من ذلك الارث وعمل على سيادة ذلك الفكر منذ سنين طويلة وعمل في الخفاء عندما كان الجميع يلهو عن ذلك حتى يتمكن من رقبة المجتمع السوداني، واستفاد من تاريخ المجتمع السوداني ووظفه ضد المجتمع، فرأينا كيف عمل على سد الثغرات التي أدت إلى انهيار الدكتاتوريات السابقة من تفكيك للنقابات وتفريغ للخدمة الوطنية باسم الصالح العام وكثف من الخطاب الديني حتى لا يمنح احد فرصة رؤية ما يحدث، وعمل على توظيف ذلك الخطاب حتى بين قطاعات المجتمع التي كانت تعتقد في ذلك الفكر ولكن وفق رؤيتها الخاصة مثل الأحزاب أو الطرق الصوفية وغيرها عندما دعم الحركات الراديكالية للفكر العربي الإسلامي المتمثلة في أنصار السنة وغيرهم من ما يسمون بالمتشددين وتركهم يضربون بعضهم بعضا.
فما ورثته الأجيال الصاعدة ليس بالأمر السهل حتى يجعلوها تشكك في قدراتها وانها ليست مثل الأجيال السابقة وإلا كانت قد ثارت مثلها، فمن يقول ذلك لا يدرك انها تدفع ضريبة سكوت النخب السابقة وعدم الدفع بتلك الأسئلة إلى السطح حتى تجد لها الإجابات المناسبة وتركت لفكر يعمل على الرفض والاحتراب الداخلي بين المجتمع السيادة، وتركت المجتمعات تستلم لذلك الفكر وتعتقد به دون ان تفهم ان ذلك فكر عربي وليس الرسالة الإلهية.
وتحاول الأجيال الصاعدة لملمة وطن وثقافة عاث فيها الفكر العربي الإسلامي قتلا وتمزيقا. لذلك على الأجيال الصاعدة ان تؤمن بنفسها وأنها ليست اقل من الأجيال السابقة ولكن تلك الأجيال وضعتها في موقف الضعف ذلك عندما تركت غول الفكر العربي الإسلامي يترعرع بينها وحولت لها ضريبة محاربته. وعليها أيضا ان تدرك ان الفعل الاجتماعي لا يتم بين يوم وليلة فإذا تأخر الفعل الجمعي فذلك يؤكد عدم اكتمال اشتراطاته الكلية. فكل ما عليها فعله هو مواصلة الدفع في اتجاهاتها التي تعمل بها من اجل دعم الثقافة السودانية من اجل إعادة الصعود من خلال أسس سليمة للأجيال التي ستأتي. وعلى الأجيال السابقة ونخبها مساعدتها نتيجة للتركة الثقيلة التي تحملها.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..