اندياح دولة الذهب وانحسار دولة الأدب

ظلت مدينة الخرطوم وملحقاتها من المدن السودانية الأخرى تتعاطى القراءة وتلتهم أنماط الثقافة العربية والغربية والمشرقية على مدى أكثر من ستين عاماً وهي تلاحق ركب الحضارة ، فكان أن برزت جمعيات القراءة في ثلاثينيات القرن الماضي ممثلة في جمعيات ود مدني و أبي روف وأولاد الهاشماب الأدبية وغيرها من الإشعاعات الأدبية والفنية في الخرطوم وبقية المدن. كانت أبصار مثقفي تلكم الحقبة ترنو إلى مصر وبلاد الشام التي كانت تمدهم بالمؤلفات المختلفة قديمها وجديدها في شتى سبل المعرفة الأدبية حيث كانت عقولهم الناضجة في نهم دائم لتلقف الأسفار والمجلات والدوريات ودواوين الشعر. ولم تقف تلك الجمعيات ومجموعات المثقفين على الاطلاع على ما هو وافد بل أصبحت تحذو حذو رصفائها في التأليف والإنتاج فكان أن برزت مجلة النهضة لمحمد عباس أبو الريش عام 1931م ومجلة الفجر لصاحبها عرفات محمد عبد الله في عام 1935م فضلاً عن الإصدارات الصحفية التي تهتم بالجوانب السياسية والأدبية على حدٍّ سواء. وفي جانب من الجوانب الأدبية برزت المحاولات المسرحية المبكرة ممثلة في مسرحية المك نمر للشاعر إبراهيم العبادي عام 1927م حيث كانت نواة للمسرحيات اللاحقة. وربما كان الشعر والفن الغنائيين من أكثر جوانب الأدب سيادة في فترة ما بين الحربين (1919م?1945م) ونخص به ما تعارفوا على تسميته بفن الحقيبة وما تلاه من الفن الغنائي الوتري الذي كان ابناً شرعياً للحقيبة. كان فن الحقيبة ولم يزل عالماً قائماً بذاته عالماً سماوياً تحلق كلماته وألحانه وآهاته في المدى الغيبي إذ لا يملك فنانو الحقيبة إلا أن يأخذوك معهم إلى تلك العوالم الجمالية الروحية.
هكذا بات السودانيون يعيشون عصر الروح يغذون عقولهم بالقراءة ووجدانهم بالفن المسرحي والغنائي ويعيشون الحياة في بساطتها وعفويتها ويتفاعلون مع الطبيعة يطارحونها شعراً بدوياً صادقاً تمخض عن أنماط شعرية شعبية لها نكهتها (الدوبيت ? الجراري ? حومبي ? الهسيس ? التويا .. الخ). ولم تدخر الطبيعة من ناحيتها جهداً أن تبادلهم حبها فتغدق غيثها لتنبت زروعهم وتخضر وديانهم. ورويداً رويداً طفق عصر الروح يتلاشى ليخلفه عصر المادة القاسي الذي قال فيه إبراهيم العبادي:
عصر الروح مضى وسارت قوافله المادة
واستلم المجال من بعدوعهد المادة
طبق فينا من قانونه أبشع مادة
تتقاذفنا تياراته جازرة ومادة
فقبل طغيان العصر المادي كان الكتاب خير جليس في الزمان وكان الانكباب على الكتب يمثل جزءاً من البرنامج اليومي حيث كان القراء يبتاعون الكتب أو يستعيرونها من بعضهم أو يتبادلونها وهم يحتفظون بها في خزاناتهم الخاصة أو في الأرفف أو في الأدراج. وحتى في المدارس كانت هناك المكتبة المدرسية المخصصة للاطلاع وكانت موضع اهتمام وزارة المعارف ضمن المستلزمات المدرسية الأخرى. ثم أطل علينا (عصر الذهب) لنغادر عالم الأدب وندخل عالم الذهب ونغتصب الطبيعة العذراء سفاحاً حيث الآلاف المؤلفة تنهب الأرض وتهتك عذريتها بعد أن قضت على الغابات قطعاً وحرقاً وأهملت المزارع والمراعي. ترك اللاهثون اللاهفون حقولهم ومراعيهم وانهمكوا يستجدون الصحارى والعتامير بحثاً عن عروق الذهب بين الرمال الصحراوية في صحراء النوبة أو في جبال النوبة غير آبهين بحياتهم.
أصبح شباب اليوم في استلاب كامل فقلما تجد أحدهم يحمل بين يديه كتاباً للجاحظ أو طه حسين أو محمد حسين هيكل أو يحمل ديوان المتنبئ أو أبي تمام أو المحجوب أو البنا أو شوقي أو شعراء المهجر، لا بل يعيش شباب اليوم في ما سماه العميد طه حسين ب”عصر الرِّكَّة” أو قل عصر الجمود الأدبي وأصبحت له مندوحة في برمجيات التويتر والفيس بوك والواتس-أب وغيرها من نتاج الثورة التكنلوجية الهائلة. وعلى الرغم من أهمية التواصل الاجتماعي عبر هذه الوسائل التقنية ودورها في التلاقح البيني لكنها لا تمثل البديل للكتاب فيما يتعلق بنشر الفكر والوعي كما أنها لا تمثل بديلاً لكتاب التربية الوطنية الذي كان ذات يوم مقرراً ضمن المناهج التعليمية حيث يجعل ناشئة الشباب مرتبطة بحب الأديم والوطن. لقد أصبح الشباب في عصر الذهب عنصراً (كوزموبوليتياً)cosmopolitan يرى كل أجزاء العالم له وطناً تقيده به سلاسل العولمة الطاغية.
وأصبحت الخرطوم في عهد الذهب مدينة أشباحٍ تتقافز وجسداً بلا روح، فالغواني اللاتي كان يتغنى بحسنهن شعراء الحقيبة أصبحن يلهثن خلف الكنز المنشود وينافسن رصفاءهن من الرجال في دنيا المال والأعمال حتى تجاوزن حدود حافظ إبراهيم إن لم أقل حدود الله. وفي عصر الذهب كادت تضيع الشهامة السودانية، تلك الشهامة التي تغنى بها المغنون وسار بذكرها السائرون:
أنحنا المابنكن الزاد ونتحشربو
ونحنا الما مندي عطانا نتفشربو
ونحنا الضيف نقولو حباب ونتباشربو
ونحنا هنية الولد المنتعاشربو
جعل عصر الذهب الناس أمة هائمة على وجهها، فلا هي التحقت بالمجتمعات المادية التي يسودها القانون ويحسب فيها كل امرئٍ خطواته ويلزم حدوده، ولا هي احتفظت بعاداتها وتقاليدها على علاتها وعللها. فلقد كانت مناهل الأدب ومشاربه عنصر تقارب وجداني حافظ على تماسك المجتمع ووحدته وسلامته ردحاً من الزمن حتى تدخلت عوامل السياسة في الموازنة المجتمعية فاختل الميزان لصالح كفة الذهب الذي انداحت حقوله ليسير فيها الناس صماً وعمياناً يقتلون بعضهم بعضاً ويهلكون في السراديب والأنفاق المظلمة ويُلدغون من أجحار العقارب والحيات مرات ومرات ويبيعون أكسجين الحياة مقابل قيراط من ذهب. فلا أحد يعلم حتام تنقضي هذه الرتابة الذهبية كما لا أحد يعلم في أي صورة سيصبح المجتمع وأفراده بعد انقضاء العصر الذهبي، إذ هل تستطيع القوة الخفية التي أقحمت الناس في حقول الذهب وآباره أن تجعل منهم مجتمعاً سوياً يمشي على صراطٍ مستقيم؟ أم سيظل مكباً على وجهه بين العتامير والوهاد ينافس الفئران في البحث والتنقيب؟ كان الناس في دولة الأدب الآفلة يتغنون بالمآثر والمحاسن ويمدحون ويتطارحون ويسرحون ويمرحون ويتشبثون بالطبيعة، كانوا يعرفون الحقول الخضراء لا الحقول الصفراء وعروق الشجر لا عروق الذهب، ثم تلاهم جيلٌ قضى على الموارد الطبيعية القائمة (الغابات) ودلف نحو الموارد الطبيعية النائمة (ركاز الأرض) يخلخل الأرض بمعاول متقدمة اسمها
(أجهزة الكشف عن الذهب) وهو لا يبالي إذا زلزلت الأرض زلزالها. ولما لم يكن في الحسبان أن نرتجي مخاض ثقافة إيجابية مفيدة من البحث عن الذهب والاستحواذ عليه فسيلزمنا من الناحية الأخرى أن نحتوي آثاره النفسية والاجتماعية السلبية التي تتمخض عن الانشطار النفسي والفصام الاجتماعي. ففي مثل هذه الحالات قد يتراءى لمستجد النعمة الذهبية الذي كان لا يملك حبة خردل فأصبح يتقرفص على تلٍّ من الذهب أنه قد ملك الإمارة وطفق يبتعد ابتعاداً نفسياً عن أولئك الذين كان قبل وقتٍ قريب يقاسمهم (الملح والملاح)، وهناك من لم يسعفه الحظ في الحصول على بضع جرامات فيعود خائباً كسير الخاطر وقد رأى أنداده وأصحابه قد اقتنوا وحققوا أحلامهم الذهبية.
يجب أن تقوم بالموازنة المجتمعية كلٌّ من وزارتي التعليم والمعادن إذ من واجب الأولى أن تعيد للمناهج التربوية سيرتها الأولى التي يعرَّف فيها التلميذ بوطنه الصغير ويغذى بالتربية الوطنية وأناشيدها وآدابها، أما واجب وزارة المعادن فهو الاستحواذ الكامل على مناجم الذهب وحقوله على طول البلاد واستثمارها للمصلحة العامة وتوريد الإنتاج الذهبي الضخم للخزينة العامة حتى يستفيد كل مواطن من موارد بلاده بدلاً من أن تسطو عليها حفنة من المغامرين سواءً أكانت شركات استثمارية أو أفراداً يستهدفون الثراء السريع، فهذا المعدن مثله مثل ركاز الأرض الآخر كالنفط وغيره يجب ادخاره للمصلحة العامة طالما ثبت أنه كنزٌ لا يفنى وحتى تصلح به حال المدارس العامة والجامعات والمستشفيات وصحة البيئة والطرق وغيرها من الخدمات التي لا غنى عنها للإنسان السوداني. ومن ناحية فإن هذه الموازنة ضرورية لإعادة هيبة دولة الأدب وكبح جماح دولة الذهب، وبالتالي الحفاظ على المورد البشري الذي يبذ كل مورد.