مقالات سياسية

حين خرجنا في ذكرى ثورة الجحيم!

أحمد الملك

في ذكرى الثورة خرجنا لنحتفل بالمناسبة، لم نكن نعرف بالضبط أية ثورة عظيمة كانت تلك التي سنحتفل بها، لم نعرف الا بعد ان أحضروا لنا اللافتات القماشية الضخمة التي سنحملها فوق رؤوسنا، ومكتوب عليها بالخطوط الزرقاء الكبيرة عاشت ذكرى ثورة يونيو العظيمة، كان الجو قائظا حتى أنّ أحد زملائي علّق هامسا حين أحرقتنا الشمس مجرد أن غادرنا مبنى الشركة التي نعمل بها.
ألم يكن بإمكان هؤلاء العسكر البؤساء الانتظار قليلا حتى يحلّ الشتاء، ثم يقوموا بثورتهم المجيدة هذه!!

شعرت برغبة في التمرغ في الأرض من فرط الرغبة في الضحك لكن الضحكة لم تخرج ، شعرت بقوة مجهولة تقمع ضحكتي وتحوّلها الى طاقة خوف مكبوتة، قلت له: كيف تقول ذلك عن الثورة المجيدة التي انقذتنا!

نظر لي زميلي باستغراب ولم يقل شيئا، رأيته يحمل احدى اللافتات ويرفعها عاليا ويزعق بصوت عال: عاشت الثورة العظيمة.. الموت للخونة و العملاء! كان الشارع الذي سلكته المسيرة على وشك ان يشتعل بفضل حرارة الصيف، عرفنا مجرد أن صافحت الشمس الحارقة وجوهنا أنّ الموت لن يكون من نصيب الخونة والعملاء فقط. بدأ صراخنا يخفت كلما توغلنا في صمت الشارع، لم نجد أية إنسان يصفّق للمسيرة او حتى يعبر بجانبها. كانت الشوارع خالية كأن كل شيء فيها ذاب بفضل القيظ، فجأة توقفت المسيرة المنهكة أمام طفل صغير عار لا يرتدي شيئا ، كان يمد يده طالبا المساعدة.

انتبهنا الى أنفسنا في مرآة الطفل العاري، رأينا وجوهنا المحروقة بسبب الجحيم، وملابسنا البيضاء التي اكتشفنا في مرآة الطفل انها كان متشابهة، كنا مثل مجموعة من الموتى يتظاهرون في أكفانهم. كأنهم يحتجون على شظف الحياة في الموت.
بحثنا في جيوبنا عن شيء نعطيه للصبي فلم نجد شيئا، وجدنا في جيوبنا مفاتيح قديمة مغطاة بالصدأ وبقايا ألعاب أطفال، أعطي أحدنا للطفل الصغير لعبة بلاستيكية خضراء صغيرة كانت عبارة عن كلب بلاستيكي ينطلق جاريا بمجرد تعبئة مفتاح الظهر الذي يشبه مفتاح علبة السردين. حين تسلّم الصبي اللعبة وضعها في فمه وحاول ان يأكلها وحين استعصت اللعبة على أسنانه، لفظها ومد يده مرة اخرى طالبا قطعة خبز، بدأنا نفتش جيوبنا مرة اخرى، خرجت في جنون التفتيش هذه المرة، قطع نقدية صغيرة يعلوها ايضا الصدأ، لابد انها سحبت من التداول منذ سنوات منذ آخر تغيير للعملة الوطنية . أخرج احدهم وردة حمراء كانت تبدو كأنها لم تقطف أبدا من شجرتها، فقد كانت يانعة لا تزال تغطيها قطرات ندى الصباح، ودفع بها للصبي، حمل الصبي العاري الوردة ونظر اليها برهة، بدا كأنه يعرف أنّ هناك شيء ما خطأ ، كأنه فهم ان جمال الوردة لا علاقة له بالعالم من حوله. لكنه أبقاها مرفوعة قريبا من رأسه كأنّ ذلك هو المكان الوحيد الذي يليق بوردة في الجحيم.

تعلّم الطفل بعض الحذر من تجربة لعبة الكلب البلاستيكي، قام بوضع جزء صغير من الوردة داخل فمه، تغيّر شكل وجهه كأنه وضع سما داخل فمه! اختفى الخوف وملامح الجوع في وجهه لبرهة، قبل أن يخرج الوردة من فمه، لكنه لم يلقها بعيدا مثلما فعل مع لعبة الكلب البلاستيكي. كان واضحا من حيرته أنه مقتنع بأنّ الوردة تحمل مفتاح حل سحري، لكنه لا يستطيع تحديده أو فهمه، رفع يده فارتفعت الوردة باتجاه الشمس، وبدأت تنمو من جديد، أصبح لونها الأحمر كثيفا فجاة، حتى أنّ قطرات من الدم بدأت تسقط منها على الارض، وكأنّ سقوط قطرات دم الوردة كان إشارة تنتظرها المسيرة لتستأنف تقدمها مرة أخرى.

ارتفعت اصواتنا تزعق بنفس الشعارات المكتوبة على اللافتات التي نحملها، كأنّ مشهد الطفل العاري بوردته الحمراء المرفوعة باتجاه الشمس، اعاد شحن بطاريات اصواتنا. ثم فجأة بدأت أصواتنا تخفت مرة أخرى، توقفت المسيرة للمرة الثانية فجأة على مشهد طفل صغير عار آخر يمد يده كمن يطلب المساعدة أو يطلب فرصة مخاطبة المسيرة التائهة ! بدأنا نبحث في جيوبنا مرة اخرى ، وجدنا اشياء بلاستيكية رخيصة، قطعة حبل، قلم رصاص، عازل طبي خرج خطأ وشعر صاحبه بحرج شديد وحاول سحبه لكن الوقت كان قد فات. أعلن احد رفاق المسيرة: لماذا لا يوجد مال في جيوبنا رغم اننا نعمل في بنك الوطن!

انتبهنا في تلك اللحظة للمفارقة الغريبة لكن ذلك لم يستمر سوى ثانية واحدة، ليتواصل البحث في الجيوب دون جدوى، اعطينا الطفل قلم الرصاص فوضعه فورا في فمه، يبدو ان طعم القلم الرصاص لم يكن سيئا كما كنا نعتقد، فقد أكل الصبي جزءا منه، تركنا الصبي يمضغ قلم الرصاص وواصلنا سيرنا، فجأة اكتسحتنا عاصفة خريفية حملت معها اليافطات القماشية الى الفضاء وهطل وابل غزير من المطر، لكننا واصلنا مسيرنا رغم عوائق الطبيعة. أصبح الجو باردا فجأة وارتجفت أجسامنا بسبب البرد والمطر.

أعلن زميلي الذي انتقد ثورة الصيف في بداية المسيرة: ألم يكن بإمكان هؤلاء العسكر الانتظار قليلا حتى يحل الصيف ثم يقوموا بثورتهم المجيدة هذه!
قلت وأنا اتحدث مثل رجل آلي: كيف تقول ذلك عن الثورة التي انقذتنا!

تقدمت المسيرة ،كنا نشعر أن مسيرتنا يجب أن تستمر رغم علمنا أنها تمضي دون هدف الى المجهول، توقفنا مرة أخرى بعد قليل على منظر طفل ثالث عار يمد يده طالبا المساعدة. لم نتوقف كثيرا للبحث هذه المرة، أعطيناه قطعة الحبل البلاستيك التي بقيت معنا وواصلنا المسير دون حتى أن نعرف إن كان سيحاول أكل قطعة الحبل.

فجأة توقفت المسيرة أمام جدار عال يمتد على مد البصر يمينا ويسارا. وقف الزميل صاحب ثورتي الشتاء والصيف واقترح أن نعود من حيث أتينا، قال عبارة غريبة لم يفكر فيها أحد: ربما وُجد هذا الجدار لينبهنا الى انه لا يمكننا ان نستمر في مسيرتنا هذه الى الأبد.
قال أحد زملائنا: هل تعرفون كم يوما لبثنا؟
تلفتنا جميعا نبحث عن إجابة، كان منظر ملابسنا يقول اننا لم نغيرها لعدة أيام وربما أشهر.

لم نفكر في حالنا كثيرا، عدنا من نفس الطريق الذي جئنا منه، حين مررنا بمكان الطفل الثالث الذي اعطيناه قطعة حبل، لم نجده في البداية، لكن حين اقتربنا وجدنا جسده مشنوقا يتدلى من شجرة قصيرة! لقد انتحر مستخدما نفس الحبل الذي اعطيناه له. رأينا أنفسنا في مرآته نرتدي أكفاننا البيضاء! ثلة من الموتى يتظاهرون في الجحيم!

وجدنا انفسنا نجلس أرضا وننخرط في البكاء، لم نعرف ان كنا نبكي على الطفل الذي شنق نفسه أو على صورتنا التي رأيناها في مرآة الطفل الميت.

بكينا حتى استنزفنا آخر قطرة دمع، وحتى نسينا سبب بكائنا. قبل ان نواصل المسير، حين وصلنا الى مكان الطفل الثاني، اجتاحنا الفرح فقد كان الطفل حيا، كان لا يزال يمد يده طلبا لأية مساعدة. لم نجد أثرا لقلم الرصاص. حمل احدنا الطفل فوق رأسه وواصلنا المسير، مجرد أن رفعنا الطفل فوق رؤوسنا حتى بدأت الحياة تسري في عروق المسيرة المرهقة، وصلنا بعد قليل الى مكان الطفل الثالث وجدناه لا يزال حيا لحسن الحظ، كان قد استخدم وردتنا الحمراء كغطاء لعورته. حمله أحد زملائنا في المقدمة ووضعه فوق رأسه، ورفع رأسه بالهتاف: تعيش الثورة المجيدة، يسقط الخونة.. يسقط العملاء!.

https://www.facebook.com/ortoot?ref=aymt_homepage_panel

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..