رِحلة بين طيِّات الكتاب

القراءةُ تطوفُ بك الدنيا بلا طائرات، وتريح عن قدميك وطأة إجراءات الموانئ التى تتسم بالسخف وطول الانتظار. فبها تُحلِّقُ فى فضاءٍ دون اختراقٍ لسحاب، فلا ينتاشك بللٌ إثر مطر، و تهبط بك فى دولٍ ومدنٍ، بغير إبرازٍ لوثيقة سفرٍ وعملات أجنبية تغنيك شر السؤال،وتجنبك دوار البحر الذى تتسبب فيه البواخر وهى تشق طريقها فى المياه نحو ضفاف الشواطئ ومراسيها ، وتمنحك عندها حق العبور و التجوال دون تأشيرة دخول، وبغير أن يعترضك ضابط الجوازات الذى عنده الريبة أساساً يستقى منها رزقه، وكلما صدقت ريبته؛ كافأه رؤساه على كتفيه ، يرى أثر المكافأة الآخرون، ويتحسسها هو زهواً..وبإمكانها كذلك أن تتيح لك دخول المنازل والمكاتب وكل الأماكن المغلقة بغير أن تطرق أبواباً، طمعاً فى أن يأذن لك من يقبع خلفها، أو يتلصص عليك من خلف شقٍ فيتأبى الجواب .

بالقراءة تتعرف على أُناسٍ وعادات وطبائع وثقافات دون تقدمةٍ وتحيةٍ ومصافحة ، وتجنبك معاودتهم فى مناسباتهم الاجتماعية، الممل منها والمبهج، وبها يصبحُ عقلك مسرحاً ودوراً لعرض الأفلام، وبإمكانك أن تعيش عبرها أكثر من حياةٍ خلال عمرٍ لا ثانٍ له، وستكتشف أنك عدة شخوص أُوجدت داخل جسدٍ واحدٍ بخيالات متعددة .

المداومة على القراءة تُعَّلمك الصمتَ وحُسن الإصغاء، فتترفع عن الصغائر ، لترى كل جبلٍ أشم أصغر من سَمِّ الخياط ، وترفع من وعيك، بحيث تجعلك مُدركاً تماماً؛ أن لكل مشكل وأمرٍ جللٍ – مهما تعاظم- حلّاً، وأن الأغبياء والثرثارين والجهلاء والحاقدين وكل من تلوث فيه عقلٌ وأصاب نفسه عطبٌ، لهم محض ظواهر كونية، كالرياح والأعاصير والبراكين والزلازل، لابد من قبولهم والتعايش معهم واجتناب سئ تأثيرهم دون مجادلةٍ. . فما عرفت البشرية ذات مرة ً جدلاً منع رعوداً وصواعقاً أو شق للسيول مجار أُخر . وهى كذلك تُعلّى من قدراتك على اختراق نفوس الناس وضمائرهم عبر أعينهم وكلماتهم وايماءات أجسادهم ، فتعرف عندها المحب الحقَّ من الكاره المُستتِر .

القراءة المستمرة تنزع عنك عنصر المفاجأة، فكل ماهو بجديدٍ على الخلق؛ تجدك قد عايشته من قبل ،حتى يظنك الآخرون منعدم الأحاسيس، فما من فجيعةٍ إلا وقد قرأت عن مثيلاتها، بل وغرقت فى تفاصيلها، وليس من حدثٍ إلا وقد طواك داخله غلافان، فكل ما سيحدث مستقبلاً تعرف وقائعه وتفاصيله سلفاً ، فما الجديد إلا قديماً قد تسربل بدثارٍ مختلف.

لكى تنال ثمار القراءة عليك أن تصطلى بالصبر، فليس كل ابن أنثى بمقدوره الاستكانة لكتاب، فالأمر مسألة رغبة و تدريبٍ مستمر، فالانكفاء على كتاب عند البعض أشبه بالعمليات الجراحية، حيث يحل قلم الرصاص مكان المبضع (المشرط )، فكما يستخرج طبيب الجراحة من الجسد ما أصابه باعتلال، وبمثلما يزرع فيه ما يحييه ويقوى عضده؛ فكذا القلم، يستخرج من كل سطر مايسوء النص ، وعلى الهوامش يغرس فاكهةً وزيتوناً ونخلا.

القراءة تعلمك (الإتيكيت) والأناقة، وتقيك العثرات والمزالق وأصدقاء السوء وذوى الأفكار الظلامية والمحبين للأسيِّة، ، وتجنبك الهزيمة وإن تنكبت الطريق ذات مرة. ..فالإنسان القارئ لايهزم كما يقول المثل الألمانى .

تعددت القنواتُ الفضائية، وتنوعت المواضيعُ التى تبث من خلالها ، لكن جوهر الفروق المتعددة مابينها و القراءة يكمن فى كيفية الإخراج. فالفضائيات تفرض عليك رؤيتها للأمر ، بينما القراءة تجعل ألف مخرج وسينارست يمارسون عملهم معاً فى عقلك باتساقٍ تام، ولك وحدك أن تختار الموسيقى المصاحبة .

( حظك جميل….
دايماً تسافرى بلا تصاريح للسفر.
وتعودى عبر المستحيل..نديانة.
زى صَدف البحر يا نسمة).

محـــمـــــود ،،،،

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..