الحزب الشيوعي والعقلية الإنقلابية

بمناسبة ذكرى 19 يوليو 1971
إعادة نشر
تناول موضوع الحزب الشيوعي و الانقلابات عددٌ كبير من الباحثين والمؤرخين، وقد اعتمدوا في بحوثهم وثائق وافادات قيمة، حاولوا من خلال قراءتهم لها تقديم تفسير قد يساعد علي الاقتراب من حقيقة ذلك الموضوع، وبرغمه تبقي الحقيقة هي الطريدة الوحيدة عبر التاريخ التي تأبي ان تكون ملكاً لواحدٍ احد من الباحثين…فطالما انه لا يمكن لاحد ادعاء امتلاكها، رايت ان ادل بدلوي، خاصةً وانني وفي معرض كتابتي عن الراحل المفكر الخاتم عدلان ذهبت الي القول وبدون مواربة بان انقلاب مايو 1969 قد “خرج من بين يدي الحزب الشيوعي السوداني”. عليه رايت ان ابين اسباب قولي ذلك.
حول علاقة الحزب الشيوعي بانقلاب مايو 1969 اود ان اعتمد من ضمن ما اعتمد تقرير سكرتارية اللجنة المركزية الخاص بحركة 19 يوليو 1971، فذلك التقرير رغم التاخير الذي صاحب اعداده ونشره الا انني لا استطيع غير تثمين ما ورد فيه من معلومات وجهد واضح قبل ان استدل ببعض مما حوى على ما ذهبت اليه في الموضوع الذى نحن بصدده الان، اي خروج مايو من بين يدي الحزب الشيوعي.
لم يكتف التقرير بالعرض لملابسات 19 يوليو 1971م، بل عرض لما قبلها، واثنائها وما بعدها اي حتى وقت انكسارها وفشلها.
اعتقد انه من المهم الوقوف عند تناول الحزب الشيوعي لموقفه من العسكريين الشيوعيين والديمقراطيين، ذلك التناول الذي انتج فهماً، في اعتقادي، غير سليم لدى كثير من اعضاء ومؤيدى الحزب الشيوعي السوداني، إذ اضحى القول بان العمل العسكرى يتبع للعمل السياسي لايوحي فقط بملحقية العمل العسكري للعمل السياسي بل يبدو وكأن منْ يقوم بالعمل العسكري لا يملك تقديراً سياسياً صائباً، و ذلك رغم محاولة التقرير، جاهداً، إضفاء شيء من الموضوعية لجعل ذلك الإيحاء سلساً وممكناً حيث اورد التقرير ” إن الأمانة تقتضى التقيد بالدقة والموضوعية في مناقشة وتقييم العسكريين، فهم ما عادوا موجودين ليدافعوا عن وجهة نظرهم ويناقشوا فيها، فضلاً عن حقيقة انتمائهم للمؤسسة العسكرية ـ الجيش ـ يفرض طابعه علي تقديراتهم رغم انتمائهم الحزبي فهم في نهاية اللأمر ليسوا اول مجموعة عسكرية حزبية تغلب تقديراتها العسكرية علي التقديرات السياسية لحزبها، بل وحتى الجناح العسكرى لحركة سياسية جماهيرية كثيراً ما افلت وفرض تقديراته علي قيادته السياسية، ليس في هذا تبرير للخطأ، لكنه اشارة للظاهرة السلبية، والتي ظلت تعبر عن جذورها الفكرية في تجارب العديد من البلدان العربية بالصيغة المتداولة عن ان التنظيم العسكري الذي يؤسسه اي حزب او حركة سياسية إما ان تستخدمه القيادة في اللحظة المناسبة، او يستخدم نفسه رغم عنها” ص 55 .
إن مؤدى هذه الصياغة وما يُفهم منها كذلك هو ان تنظيم الضباط الاحرار لم يستخدم نفسه رغماً عن قيادة الحزب فحسب بل استخدم القيادة نفسها !!! و هذا بالطبع ما لم يتبناه التقرير صراحةً !!!.
في محاولة اخرى اراد التقرير ان يجد مسماً اخر لما اوحى به من عدم امتلاك العسكريين للتقدير السياسي السليم في احسن الأحوال، وذلك باللجؤ الي مفهوم اكثر شيوعاً وتداولاً إن كان في الحياة الحزبية او في اوساط التنظيمات الديمقراطية التي حول الحزب وهو مفهوم “الضعف الفكري والسياسي”، والذي ورد في الصياغة التالية : “إذا لمسنا ضعفاً سياسياً وفكرياً في تقديرات العسكريين فتلك مسئوليتنا في قيادة الحزب حيال واجبنا الدائم برفع المستوى السياسي والفكري لأعضاء حزبنا في كل موقع .”
إن المحاولة التي تستبطنها هذه الصياغات هي بلورة قناعة للقارىء بان العسكريين، في نهاية المطاف، هم منْ يتحمل مسئولية 19 يوليو 1971 كاملة… و ذلك بالنتيجة سيجعل من مشاركة قيادة الحزب في المسئولية امراً لا يمكن قبوله إلا علي اساس أن ” الجاية من السماء تتحملها الارض”!!!. ففي ذلك مخرجٌ مريح لقيادة الحزب ومتكأ تُلقى عنده المتاعب بالنسبة لآخرين….غير أن الأمر في جملته لا “مخرجاً” ” ابقى” و لا “متكأً” “اقتطع”!!!.
عليه قبل الخوض في قضية المسئولية هناك حقائق لابد من بسطها تحت الاضواء الساطعة، وتلك الحقائق هي :
اولاً/
إن العلاقة بين الحزب الشيوعي وتنظيم الضباط الاحرار هي ليست كعلاقة دولة ما بجيشها الوطني او القومي. إن تنظيم الضباط الاحرار تنظيم ديمقراطي مثله ورابطة الاطباء الاشتراكيين، والجبهة الديمقراطية وسط المهندسين والاقتصاديين والطلاب، والجبهة النقابية وسط العمال…الخ.
إن العلاقة الفكرية و السياسية التي تحكم هذه التنظيمات هي نفسها، في عمومياتها، التي تنسحب علي علاقة تنظيم الضباط الاحرار بالحزب.
هذا الفهم ضروري لأجل معالجة القضايا الاخرى.
ثانياً/
حول تقديرات العسكريين التي جعل منها التقرير حجراً لزاوية التحليل الوارد فيه، اعتقد انه من الضروري تثبيت حقيقة ان معظم الشيوعيين العسكريين كانوا اعضاء حزب قبل ان يكونوا عسكريين، اي أثناء مراحلهم الدراسية السابقة وقد نمُّوا قدراً من الفهم واكتسبوا حظاً من الخبرة السياسية وإن يفع ذلك الفهم وطري عود تلك الخبرة.
ذكر التقرير:
” و طرح بابكر (اي الشهيد بابكر النور ـ الكاتب ـ) انهم يواجهون ضغطاً من الضباط الديمقراطيين لتنظيم عملية عسكرية متكاملة للاطاحة بالسلطة، وانهم يواصلون مناقشة اولئك الضباط عن ضرورة الارتباط بالحركة الجماهيرية وتجميع اوسع قوى ممكنة داخل الجيش.” ص 20 .( التأكيد بالخط من عند الكاتب )
و للمرء ان يتساءل إن كان من الممكن التسليم بيقينية أن مجموعة الافراد التي ينتمي اليها منْ يفحص الامور و يدقق فيها بمثل هذه النظرة السياسية العميقة ـ أي الشهيد بابكر النور ـ يمكنها فعلاً، اي تلك المجموعة، تغليب تقديراتها العسكرية علي ما عداها وبتلك الاطلاقية التي اوردها التقرير ؟!!!.
إني اعتقد ان الارض ستكون مهزوزة تحت اقدام منْ يوقن بهكذا تسليم!!!.
ثالثاً/
إنه من المفيد جداً الاتفاق علي ان هناك قراراً سياسياً خلف انقلاب 19 يوليو 1971م، ولو لم يتم الإتفاق علي الجهة التي بلورت ذلك القرار، لأنه ومن البديهي ان اي عمل عسكري ـ مهما كان حجمه ـ له دافعه ومحتواه السياسيان. إن ذلك الاتفاق من شأنه ان يضيق الشقة في الوصول الي الحقيقة بدلاً من المراوحة بين ” تقديرات العسكريين” و “الضعف السياسي والفكري” اللذان وردا في التقرير!!!.
و لكن يظل السؤال ما علاقة كل ما ذكرنا بخروج “مايو من بين يدي الحزب الشيوعي” ؟
إن الموقف من المشاركة الذى تبناه الحزب الشيوعي في نهاية تحليله للحدث العسكري في 19 يوليو 1971م، وعلى النحو الذى اوضحنا، قد انتجه ذات المنهج الذى اتبعه الحزب في اجلاء موقفه من انقلاب 25 مايو 1969م، فالموقفان لا يخلوانِ من صلة القربي في ردهما الي جذري الاملاء والمفاجأة او الخضوع للامر الواقع.
ولكن دعنا نستخدم مبضع العقل لتشريح ذلك الاملاء والأخذ المفاجيء والخضوع للامر الواقع كما هو واردٌ في تقرير سكرتارية اللجنة المركزية.
إنه ومما لاشك فيه، وقتها، ان سماء الوضع السياسي في البلاد كانت ملبدة بغيوم التوقع، بل وبالإستعداد والقابلية للتغيير. كانت كل المؤشرات تؤكد ذلك، هذا على صعيد الظروف الموضوعية ، ولكن على الصعيد الذاتي لأولئك الذين نفذوا إنقلاب 25 مايو 1969م هل كان الوضع مستتباً والظرف مهيئاً؟، وهل ساهم الحزب الشيوعي في ذلك التهيؤ؟، وهل كانت مساهمة الحزب عاملاً مؤثراً في وصول ذلك التضافر بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي الي نهاياته ومن ثم نجاح انقلاب مايو 1969م ؟؟.
للإجابة علي هذه الأسئلة لابد من العرض لحقائق صلدة، لينبني عليها اجتهادٌ موضوعي ومنتج، و من هذه الحقائق :
أولاً/
ورد في تقرير سكرتارية اللجنة المركزية حول 19 يوليو 1971 :
” إجتماع المكتب السياسي الذى إنعقد في 9/5/69م ، ناقش إقتراح العسكريين بالإنقلاب، و رفض الفكرة استناداً الي ما توصلت اليه اللجنة المركزية في مارس 969 م حول التكتيك الإنقلابي. ” ص 72 .
بالقطع ان العسكريين المُشار اليهم يشملون اعضاء تنظيم الضباط الاحرار، و ذلك بحكم ان ذلك التنظيم ذو علاقة سياسية وتنظيمية، في آنٍ معا ، بالحزب الشيوعي السوداني.
في النص اعلاه لابد من التمييز بين حقيقتين، الأولى هي أن اللجنة المركزية ناقشتْ في دورتها في يوم 23 مارس 1969م، التكتيك الإنقلابي كمفهوم فحسب، وليس كإقتراحٍ محدد قدمه العسكريين كما هو موضح اعلاه. وحدث أن رفضت ذلك المفهوم .
أما الحقيقة الثانية فهي أن “إقثراح العسكريين بالإنقلاب” لم تناقشه اللجنة المركزية بشكل تنظيمي إلا في إجتماعها مساء يوم 25 مايو 1969م، اي بعد وقوعه، و ذلك بناءً علي إفادتين :
الإفادة الاولى/
هي تلك التى اوردها د. فاروق محمد إبراهيم في مقاله المميز المنشور في مجلة قضايا سودانية العدد الرابع في أبريل 994 م، حيث كتب قائلاً :
” و لعل الزميلين نقد والتجاني يذكران في اجتماع اللجنة المركزية في دورة 23 مارس 1969 أن بعض الأعضاء طلبوا معرفة تفاصيل عما يجري داخل القوات المسلحة وما يجري من تحضير لإنقلاب بين الضباط الأحرار، فرد عبد الخالق ( هذا العمل يتعلق بحياة وموت زملاء يعملون في هذا المجال. اقول لكم كلام هنا وباكر يطلع في خباز( مقهى شهير في الخرطوم). لو المكتب السياسي طلب مني برضه مش ح اقول له. إنتم إخترتوني لهذه المسئولية و أنا أنفذها بالطريقة التي اراها صحيحة).” ص 26.
بالمناسبة هذه واحدة من الإفادات التي تجنب الاستاذ التجاني الطيب الرد عليها في معرض رده الضافي علي د. فاروق محمد إبراهيم. و علي ذكر ذلك أود أن اقول أن تلك المساجلة التي تمت بين الاستاذين التجاني ود. فاروق أعتبرها من أقيم وأ عظم المساجلات الحزبية، فقد بذلا فيها جهداً مقدراً وراقياً . فهي قمينة بالإطلاع وبالرجوع اليها من وقتٍ الي آخر، برغم ما أصاب إستقامتها من رذاذٍ لمجانبة الموضوعية إلا انه لم يخدش قيمتها أو ينتقص من عمقها.
الإفادة الثانية/
اوردتها سكرتارية اللجنة المركزية في تقريرهر حول 19 يوليو 1971م، كما يلي:
“إجتماع المكتب السياسي الذى انعقد في 9/5/1969 ناقش إقتراح العسكريين بلإنقلاب و رفض الفكرة استناداً الي ما توصلت إليه اللجنة المركزية في مارس69، حول التكتيك الإنقلابي.لم تتبعه دعوة سريعة للجنة المركزية لعرض الأمر عليها، ليس فقط لوضعها في الصورة أو لإعلامها بتطورات الوضع السياسي، بل لتعبئة وتوحيد مجموع الحزب في مواجهة الفكر الإنقلابي والتكتيك الإنقلابي.” ص 72 .
(خط التأكيد من عند الكاتب.)
من هتين الإفادتين تبرز ملاحظتان في غاية الأهمية، الأولى هي أن ما توصلت إليه اللجنة المركزية في مارس 1969م كان متطابقاً تماماً مع قرارات المؤتمر الرابع حول الموقف الرافض للإنقلاب. و الملاحظة الثانية هي أن فكرة انقلاب مايو 1969م كانت متداولة في المكتب السياسي، وبإشارة اكثر دقة، كانت تفاصيلها محصورة بين تنظيم الضباط الاحرار والمكتب السياسي ممثلاً في السكرتير العام لحزبنا ـ الشهيد عبد الخالق محجوب ـ .
إن تغييب المعلومات عن اللجنة المركزية حول الإنقلاب، والضَن عليها بالمشاركة في بحث “إقتراح العسكريين بالإنقلاب”، وما ترتب عليه من عزلٍ لها يمثل حالةًلم تُملها ظروفٌ خارجة عن الإرادة، وإنما أملتها وحتَّمتها ممارسة المركزية الديمقراطية. ولقد أصاب تقرير سكرتارية اللجنة المركزية، الذي نحن بصدده، كبد الحقيقة عندما ذكر، “…..ليس فقط لوضعها في الصورة أو لإعلامها بتطورات الوضع السياسي، بل لتعبئة وتوحيد مجموع الحزب في مواجهة الفكر الإنفلابي والتكتيك الإنقلابي” ص 72. وعند هذه النقطة الفاصلة بين ممارسة المركزية الديمقراطية الماحقة وممارسة الديمقراطية الطبيعية المفترضة في الحزب، وبالنتيجة كان من الممكن تعبئة مؤيدي الحزب وجماهير الشعب ايضاً ضد إنقلاب 25 مايو 1969م. ولكن هل كانت قيادة الحزب ممثلة في المكتب السياسي مقتنعةً تماماً بالوقوف ضد فكرة وتنفيذ الانقلاب؟!.
إن ذلك السلوك السياسي الخاطىء من قيادة الحزب هو الذى طمئن الإنقلابيين واوحى اليهم بأن الحزب مأمون الجانب، لأنه فيما يبدو أن قناعة قيادة الحزب بالديمقراطية الليبرالية وبقرارات المؤتمر الرابع حول رفض الإنقلاب اصبحت مهزوزة. و في إعتقادي ان من ضمن ما قصم ظهر تلك القناعة، وبشكل مباشر، وإن لم يُقال بذلك صراحةً، هو الطرد غير الدستوري للنواب الشيوعيين من البرلمان.!!!.
عملياً نجد أن قيادة الحزب قد أرسلتْ الرسالة الخاطئة للإنقلابيين وساهمتْ في تشجيعهم وفتح شهيتهم لتنفيذ انقلاب مايو 1969م!!!.
قد يقول قائل أن الحزب كان رافضاً، وبدورنا نقول أي نعم علي المستوى النظري ولكنه كان ذلك الرفض الحيي الذى لم يكن مرتبطاً بموقف صارم، بل كان رفضاًً راكناً الي بصيصٍ من العشم في أن طريقاً قد ينفتح لبناء سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية!!!، والتي هي ركن أساس في برنامج الحزب للتغيير الاجتماعي في السودان.
و من جانبٍ آخر يقول البعض ان الحزب كان متواطئاً فحسب، و ذلك استناداً علي حيثيات الحوار السياسي الذي كان دائراً بين الحزب والإنقلابيين ولفترة قد ترجع الي عام 1968 م، اي لأكثر من عامٍ تقريباً. فلو سلمنا بذلك وإستجبنا للرغبة في انسياب الحوار، هل من الممكن ان يعتبر التواطؤ، وفي أي عرفٍ كان، نقيضاً للمشاركة، هذا إن لم يكن جزءاً منها وأصيل؟!!!.
حاول تقرير سكرتارية اللجنة المركزية إلقاء ظلالٍ كثيفة علي بعض الحقائق، بل وقطع التفكير فيها، إلا أنه علي العكس من ذلك تماماً فقد فتح أبواباً كثيرة لتطل منها أسئلة عديدة. عنيت بذلك الحقائق المتعلقة بمواقف ذلك الرجل الباسل، الشهيد المقدم عثمان أبشيبة.
شارك الشهيد أبشيبة بشكل كامل في إانقلاب 25 مايو 1969م، وكذلك في إنقلاب 19 يوليو 1971م. حاول الحزب التبرير ومن ثم رفع يده من مشاركة الشهيد الأولي في مايو 1969م وما ترتب عليها، إلا أنه، أي الحزب، اقر بالدور الباسل والموقف المشرف للشهيد في المشاركة الثانية، اي في 19 يوليو 1971 م.
قبل الذهاب الي القول بأنه من الصعب أخذ ما قاله الحزب عن مشاركة الشهيد المقدم ابشيبة في إنقلاب مايو 1969م مأخذ الجد، اعتقد أنه من المفيد جداً ألإستئناس ببعضٍ مما عُرف عن ذلك الإنسان الفذ. ذكر الباحث الرصين د. عبد الماجد علي بوب في معرض بحثه الدقيق حول تقييم 19 يوليو 1971م ـ مذبحة بيت الضيافة ـ المنشور في مجلة قضايا سودانية العدد 26 في يونيو 2001 م، قائلاً :
” فالمقدم عثمان كان سياسياً متمرساً قبل أن يكون عسكرياً مشهوداً له بالكفائة والشجاعة. إلتحق بالحزب الشيوعي في سني دراسته بمدرسة الخرطوم الثانوية المصرية (مدرسة فاروق) في النصف الثاني من الخمسينات.” ص 41.
أستعين بهذا المقطع من بحث د. عبد الماجد علي بوب، ولكن الأمانة تقتضي أن أُشير الي حقيقة أن د. عبد الماجد علي بوب يتفق إلي حدٍ كبير مع ما ذهب اليه الحزب الشيوعي من تصريفٍ لكيفية إشتراك الشهيد ابشيبة في إنقلاب مايو 1969م، كما هو واردٌ في تقرير السكرتارية، أدناه :
“وفي هذا الصدد نشير الي أن إستنتاجاً مماثلاً كان قد أُثير في حدود ضيقة بعد إنقلاب 25 مايو عبارة عن ملابسات إشتراك الشهيد أبشيبة في إنقلاب مايو مع القوات التي تحركت من خور عمر و هو الحزبي الملتزم في الوقت الذى عارض فيه الحزب الإشتراك في الإنقلاب وإمتنع الضباط الشيوعيون عن المشاركة وبعد الإنقلاب حوسب أبشيبة داخل التنظيم، وبرر إشتراكه بانه لم يكن يعرف قرار المكتب السياسي، وانه يشارك كعضو في تنظيم الضباط الاحرار” ص56 .
(خط التأكيد من عند الكاتب).
لابد من إضافة ان الشهيد ابشيبة كان أن إستمر قائداً للحرس الجمهوري حتى بعد طرد الضباط الشيوعيين من مجلس إنقلاب مايو، وذلك في نوفمبر 1970. إستمر ابشيبة في مركزه إلي وقت إشتراكه في إنقلاب 19 يوليو 1971 م.
لم يكن الشهيد المقدم ابشيبة قائدا أساسياً في إنقلاب يوليو 1971م فحسب ،بل كان الشخص الذي عُهد إليه بتوفير الحماية لسكرتير الحزب عبد الخالق محجوب، وترتيب إختفائه داخل القصر الجمهوري. وهذه مهمة بالقطع لا تكفلها للشخص المنوطة به مقدراته التأمينية او العسكرية لوحدها وإنما تتطلب شروط اعلى من تلك أقلها رفعة المستوى السياسي والفكري وصميمية الإقتناع بأداء المهام الحزبية الجسيمة. ولقد كان الشهيد ابشيبة مجسداً لكل ذلك.
فرجلٌ يمتلك ذلك التاريخ، كما أورد د. عبد الماجد بوب، و له تلك المقدرة في الإستمرار في مركزٍ حساس كقائدٍ للحرس الجمهوري رغم ان الدائرة دارتْ علي الشيوعيين في المجلس العسكري، ومن ثم قيامه بذلك الدور الذي أصبح سابقة متفردة في العمل السياسي والعسكري ـ اي إخفاء عبد الخالق محجوب ـ أثناء التحضير والتنفيذ لإنقلاب يوليو 1971م. رجلٌ قام بكل تلك المهام الخطرة، هل من الممكن أن نأخذ علي محمل الجد ما صاغه الحزب من تبريرٍ لإشتراكه في إنقلاب مايو 1969م علي اساس انه لم يكن مُلماً، أي المقدم أبشيبة، بقرار المكتب السياسي للحزب، ولا علم له بما يدور وسط تنظيم الضباط الأحرار؟!!!.
أعتقد ان ذلك التبرير أصبح فاقداً لمقومات تسويقه بين الناس!!!.
أود أن أُشير إلي حقيقة أن كل الأحداث والوقائع التي نعالجها الآن قد أصبحتْ أحداث ووقائع تاريخية تستدعي، خاصة من قيادة الحزب، تقديم تفسير مختلف عما تمَّ تقديمه من تفسير ساعة وقوعها، لأن الظروف التاريخية والتقديرات السياسية ولربما التنظيمية حينها كانت تستوجب علي القيادة ذلك التفسير!!!.
إن العيب لا يكمن في محاولة الإصرار علي إعادة فحص الوقائع وإعادة فحص التفسير الذى إرتبط بها بقدر ما يكمن العيب الحقيقي ويتحقق الضرر الماحق في محاولة الإصرار علي حبس الناس في حدود ذينك التبرير والتفسير اللذين قُدما وفي تلك الظروف التاريخية المحددة.
أعتقد أن مقرارات المؤتمر الرابع في أكتوبر 1967م تمثل الأرضية والمنطلق للمحاكمة والإحتكام، إن كان علي المستوى السياسي او الفكري، وذلك ليس بحسبها مقرارات مؤتمر عام و إنما لحقيقة انه قد تمَّ إستخلاصها من تجارب خاضها الحزب وهو في أوج عنفوانه، ومن خلال معارك يومية ومن مواقع حية وسط حركة الشعب، فيما قبل الإستقلال وأثناء الحكم العسكري الأول وحتى إنتصار ثورة الشعب في 21 اكتوبر 1964م.
إن الموقف الفكري الصارم ضد العقلية الإنقلابية وضد إعتماد العمل العسكري الإنقلابي كوسيلة للتغيير السياسي لم يتم التوصل إليه عبر التأمل الفلسفي البحت، وإنما جاء ذلك الموقف كقراءة متأنية ودقيقة لمسيرة الحزب السياسية في صعودها وهبوطها، وجاء ايضاً عُصارةً لمذاق تجارب عسكرية مريرة راح ضحيتها نفرٌ عزيزٌ من الضباط وصف الضباط والجنود من افراد التنظيم العسكري التابع للحزب تحت مباركة و مشاركة حزبنا، “فقد عارضنا إنقلاب نوفمبر 1958 بوصفه إنقلاباً رجعياً، وأيدنا وشاركنا في محاولات الإنقلاب الأربع التي قام بها ضباط وصف ضباط وجنود وطنيون لإسقاط الفريق عبود في أول مارس 1959، وفي 4 مارس 1959، وفي 22 مايو 1959، ونوفمبر 1959”. جاء ذلك في تقرير سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني المُشار اليه سابقاً، في ص5.
فبعد عامٍ ونصف تقريباً من مقرارات المؤتمر الرابع غفلتْ قيادة الحزب كل تلك التجارب، وما تمخض عنها من رؤية صحيحة لتساهم، أي القيادة، عملياُ بذلك التخلي في قيام إنقلاب مايو 1969م، ومن ثمَّ في تأييد وتثبيت سلطة ذلك الإنقلاب. وكل ذلك قامتْ به بدون أي مبررٍ فكري أو إضطرارٍ سياسي كان سيركبها الصعب، سوى انها كانت واردةً مورد مركزيةٍ ديمقراطيةٍ غليظة.
إن للحزب الشيوعي السوداني مقدرات عالية علي التجاوز، وإمكانية مهولة لأجل التصحيح، لا لأنه حزب خارق للعادة وإنما لأنه حزب متواضع خرج من بين صفوف الشعب، قدم شهداؤه أنفسهم وأرواحهم في تواضعٍ جمٍ وبإقتناعٍ صميم. فحينما تُضىء أخطاؤهم الطريق بفضل تصحيحنا لها، والإعتراف بما فعلتْ قيادة الحزب، نكون، حقاً، قد جعلنا اولئك الشهداء يتسنمون ذرى المجد.
[email][email protected][/email]