المجتمع الدولى والهبوط الناعم

تأتى الأخبار، وأحيانا لإشاعات، بأن المجتمعين الدولي والاقليمي يعملان بشدة لتامين عملية هبوط ناعم للقضية السودانية. يقول البعض بان السبب وراء هذا الجهد، الذى صار محموما فى الفترة الاخيرة، هو بسبب خوف المجتمعين من ان يفلت زمام الامور فى السودان فتعم الفوضى التى لن ينجو من شر نتائجها بلدان المجتمع الاقليمى والدولى. غير انى استبعد تماما هذا الافتراض، وذلك بسبب معرفتنا الاكيدة بنوايا المجتمع الدولي من خلال عبثه المشهود بأغلب بلدان المنطقة خلال العقد الماضى، خدمة لمصالحه التى لايخدمها غير هذا العبث. كذلك فان من مصلحة المجتمع الاقليمي أن يظل شكل من اشكال النظام الحالى موجوداً، وذلك للاستفادة من ضعفه فى تمرير السياسات التى تخدم مصالح المجتمع الاقليمي.
هذه امور من البداهة بمكان، وايضا قد برهنت عليها افعال هذين المجتمعين بشكل عملى بكامل منطقة الشرق الاوسط. لكنى اندهش عندما اسمع من سياسيين محنكين، يقودون فصيلا معارضا لاشك فى نواياه الطيبة ? رغم ان الطريق الى جهنم مفروش بمثل هذه النوايا ? انهم يبحثون عن حل القضية السودانية لدى هذين المجتمعين. أقول لهؤلاء ومن ذهب مذهبهم : راجعوا آخر قرار صدر عن مجلس الامن، ستجدون انه يؤسس لاستمرار النظام، وهو موقف ينسجم تماما مع ماذهبنا اليه اعلاه. غير ان النظام، لو ان مايوجد الآن فى السودان يمكن ان يسمى نظاما، لاينى يفعل بنفسه ماجعل بعض اركانه تتهم بعضا منها بأنه يعمل على هدمه على طريقة على وعلى ” اعدقائى “! وبدلا من الاستفادة من هذا الظرف الموضوعى المناسب للعمل على اذكاء روح الانتفاضة ببث روح المقاومة فى جماهير ذلك الفصيل، فانه بدلا عن ذلك لايفتر من صب الماء البارد على كل بوادر الانتفاض بالحديث عن امكانية حل القضية بالجلوس مع ” النظام ” لاقناعه بتسليم رقبته للمقصلة. وطبعا يصب هذا الاتجاه ايضا فى رغبة المجتمعين اياهما فى تفصيل هبوط ناعم يضمن وجود نظام “نص استواء ” يخدم اهداف المجتمعين غير الخافية ويؤكد فى نفس الوقت استمرار قضايا المجتمع السودانى بدون حل، على طريقة “خطوات التنظيم ” منذ الاستقلال.
فى هذا المقام اعجبنى جدا ماجاء فى رد أحد الاقتصاديين الاثيوبيين على سؤال صحفى سودانى : لماذا يتاخر السودان فى النهضة والتقدم مثل رواندا واثيوبيا والصومال التى تشهد تطورا ونموا سريعاً؟
فجاء الرد : بكل اسف سبب تاخركم هو عدم وجود رئيس سودانى منفتح على العالم، وهذا لايحدث فى وجود رئيس مطارد وعليه قضايا دولية ومرفوض فى العالم وممنوع من دخول الدول التى تملك التمويل..وسوف تظلون متأخرين الى ان يصحو ضمير رئيسكم ويبتعد عن السلطة…. وانا متفائل اذا تنازل البشير عن الحكم، سيكون السودان المانيا افريقيا وسوف يسبق محيطه من الدول بالامكانيات التى يمتلها.. )
ثم ياتى الى بيت قصيد هذا المقال، فيقول : ( وهناك دول اقليمية تريد ان يكون السودان بهذا النظام المخنوق.. لانها تعلم ان أى تغيير يحدث فى السودان سوف تتأثر هذه الدول فى جميع صادراتها سواء كانت زراعية أو سمكية أو بترولية أو معدنية، لأن السودان غنى بكل هذه الموارد غير المستغلة وسوف ينهال عليها المستثمرون..)
فشكرا للاقتصادى الاثيوبى الذى وصل الى ماعز الوصول اليه على بعض قادتنا الاشاوس. وليسمح لى ان اضيف الى اسبابه اسبابا أخرى، ربما تكون أكثر اهمية فى تقدير الدول الاقليمية والمجتمع الدولى. اذا تغير النظام بصورة جذرية من خلال ثورة شعبية، قادمة ولو طال الزمن، فهو سيضع البلاد على اول الطريق لتحولات جذرية فى كل مجال، فبالاضافة الى ما ذكره الاقتصادى النابه، فان ديموقراطية طال انتظارها لابد عائدة وراشدة، وهو ماسيجعل اغلب دول الاقليم فى وضع حرج امام شعوبها، اضافة الى ان ذلك الوضع سيدق اسفينا نهائيا فى سعى المجتمع الدولى للعودة الاستعمارية، اذ ان الوضع فى السودان وقتها سيكون نموذجا ناصعا وقابلا للتكرار. وبالتالى يخرج البلاد فى اقليمنا الافريقى والعربى من حالة التبعية، التى جعلتها تحمى نظاما مثل النظام السودانى، خوفا من نتائج التغيير عليها.
وهكذا نرى التوافق غير المعلن، بل والمعلن فى كثير من الاحيان، بين فصائل اساسية فى المعارضة السودانية وبين رغبة المجتمعين الدولى والاقليمى فى عملية الهبوط الناعم، راجيا ان يكون ذلك لسوء تقدير سياسى من تلك الفصائل. غير ان الذى يجعل الانسان يتشكك فى دافع الموقف أمران:
الاول : هو انه على الرغم ن ان تلك الفصائل تجعل من الانتفاضة الشعبية بديلها الثانى الذى تسعى اليه فى نفس الوقت الذى تسعى فيه الى حل تفاوضى مع النظام، الا ان السعيان ليسا متعادلين. ففى الوقت الذى يبذل فيه رئيس تلك الفصائل جهودا محسوسة للحل التفاوضى حتى على اساس خارطة الطريق التى يرعاها المجتمعين اياهما وهما فى نفس الوقت غارقان فى تاييد النظام بصورة بائنة لكل ذى عينين، والتى وقع عليها النظام ولكنه، كما هوواضح ايضا، لايبذل اى جهد لتطبيقها. والحقيقة : لماذا يطبقها وهى على افضل الفروض لديه ستشرك آخرين معه فى سلطة يتمتع بها منفردا ولايشعر بمن يحاذبه فيها محليا او دوليا ؟! لكن تلك الفصائل لاتبذل جهدا مماثلا أو مقاربا لذاك لتحقيق الخيار الثانى وقد تهيات له كل الظروف الموضوعية ولايفتقد الا الظرف الذاتى، الذى لو أعطى نفس الاهتمام من تلك الفصائل التى تحظى بجماهيرية تفتقدها الفصائل الاخرى الساعية للانتفاضة بكلياتها، لتفوق خيار الانتفاضة منذ زمن. درس يناير وفبراير من بداية العام الجارى خير مثال على مااقول!
الثانى : موقف رئيس مجموعة تلك الفصائل من النظام ورئيسه. فهو مثلا لا يقبل تسليمه للمحكمة الجنائيه باعتباره ” من جلده الذى لايقبل ان يجر فيه الشوك !” بالرغم من ان رئيس النظام لن يتردد من تقديمه للمحاكمة بجرائم يصل الحكم فيها للاعدام. وهو يقبل مشاركة بعض أهله فى النظام من غير تبريرات مقبولة للعقل العادى.
هذا التشكك يجعلنى مرتعبا من فكرة امكانية نجاح المجتمع الدولى فى اقناع ذلك الفصيل بتقاسم السلطة مع النظام حتى ولو فى مرحلة انتقالية، لأن ذلك لايمكن ان يعنى غير مد عمر النظام وسقوط جزء هام من فصائل المعارضة فى حبائل النظام وبمساعدة المجتمعين الدولى والاقليمى.
وعلى الرغم من ان مثل هذا السناريو الوارد بشدة، خصوصا بعد التحركات الدولية والاقليمية المتسارعة فى الفترة الاخيرة لتنفيذه، الاان للشعب السودانى رأى آخر، مثلما كان فى اكتوبر وابريل، وعندئذ سيكون له موقف لايتمناه المجتمعين الاقليمى والدولى.قد يمتد الزمن ولكن بثمن!

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..