تدهور اللغة الإنجليزية.. وإقصاء الخبراء..

كثيرة هي الأسباب التي أدت لتدهور التعليم في السودان، منذ زمن ليس بالقريب، لكن من “غطس حجره” و”لحقه أُمات طه”؟! سنعود إليه، إن مدَّ الله في الآجال. الواقع أليمٍ مرٍّ وما تعانيه مادة اللغة الإنجليزية لشيءٌ محزن. يعترف المركز القومي للمناهج والبحث التربوي، بتدهور مستوى اللغة الإنجليزية، والدليل إلزامه للمدارس بتدريس الأدب الإنجليزي في الصفوف السابع والثامن الأساس، والأول الى الثالث في التعليم الثانوي، واعتباره الأدب الانجليزي جزءً رئيساً من مقرر مادة اللغة الإنجليزية في التعليم العام، وقراره بإجبارية سؤال الأدب الإنجليزي في امتحان اللغة الإنجليزية في التعليم الأساس والثانوي. ويعد ذلك القرار إعلان “حالة وفاة” لمادة اللغة الإنجليزية.. ولا عزاء.
ذكرني ذلك بمقال رصين كان قد كتبه أستاذ الأجيال، الخبير التربوي، الدكتور تاج السر حسن بعشوم قبل أكثر من عشر سنوات، بجريدة الصحافة، حينها، كانت قد قررت وزارتا التربية الاتحادية ووزارة التربية الولائية إعادة تدريس مادة الأدب الإنجليزي لطلاب الشهادة الثانوية، جاء عنوان ذلك المقال غاية في الطرافة: “إعادة تدريس الأدب الإنجليزي: المفارقة بين إرْثُ جَاجُول (Gagool) وجُوجِل إيرْثْ” (Google Earth) وأوضح في المقال أن تلك القرارات قد جاءت لمعالجة التدهور الذي لحق بمستوى اللغة الإنجليزية في العقود الأخيرة”. وخير مثال على هذا التدهور التعليقات الساخرة على وسائط التواصل الاجتماعي، إذ تداول الناشطون صورة للافتة تحمل اسم “داخلية الزهراء”، تتبع لوزارة التعليم العالي ? الصندوق القومي لدعم الطلاب، كانت ترجمة تلك اللافتة الى اللغة الانجليزية تبعث على الحزن: (Inside the Zahra) وتساءل دكتور تاج السر في مقاله، إن كان قرار إعادة تدريس الأدب الانجليزي سوف تضع النهاية لهذه المشكلة التي تقض مضاجع التربويين والاباء والطلاب وكل المعنيين على كل المستويات، وخاصة، في سوق العمل..
كانت تساؤلات دكتور تاج السر توضح بجلاء أن من يقومون على أمر التعليم، في هذا البلد، يفتقرون لأبسط معايير الكفاءة، إذ أورد الدكتور أن السبب الذي دعا لإعادة تدريس الادب الإنجليزي هو نفسه الذي دعا في السابق لاتخاذ القرار بإيقاف تدريسه، “الا وهو تدهور مستوى اللغة الإنجليزية”. وذكَّر المهتمين أن الأدب الإنجليزي كان يدرس كمادة منفصلة، ليس جزءاً من مقرر اللغة الإنجليزية وأن الذين كانوا يجلسون لامتحان الشهادة الثانوية لمادة الأدب الإنجليزي، يدرسونها من خلال الكتب الأصلية وليس المختصرة ولا المبسطة، ويدرسون كل جوانبه، تذوقاً وتحليلاً ونقداً. ويشتمل الامتحان على كل جوانب التحليل الادبي، من أسئلة قصيرة ومقالية. “يحللون الحبكة الروائية والشخصيات والرمزية والتصويرية ووجهة النظر، إضافة إلى الأسلوب والأسلوبية”. وأبان أن دراسة الأدب الإنجليزي لم تكن وسيلة لغاية، بل كانت غاية في ذاتها، إذ لم تكن للنهوض بمستوى اللغة الإنجليزية، بل كانت تتخذ، هي، من اللغة الإنجليزية وسيلة لها. ويختارها الطلاب بعد أن يستقيم لسانهم باللغة الإنجليزية، “استقامة تكاد تماثل الناطقين بها”؛ وامتلاكهم ما يمكنهم من فهم واستيعاب الادب الإنجليزي وسبر أغواره والغوص في بحوره واستخراج كنوزه. وتحسر على ماضٍ عريق، خيم بعده دهر تقلص فيه مد اللغة الإنجليزية.. وصار الأدب الإنجليزي وسيلة لرفع مجموع الدخول للجامعات، حيث يصمم الامتحان ليتماشى مع المستوى المتواضع للطلاب فأصبحت ورقة الامتحان كلها “الاختيار من متعدد” فانقلب الحال الي تدريب الطلاب على مهارات الامتحان بغرض الوصول للإجابة الصحيحة؛ فأطلت المذكرات والملخصات ونماذج الأسئلة المحلولة وتفشت ظاهرة اللهاث وراء تلكم الوريقات لاستظهارها ووضع التوقعات (الاسبوتنج) (Spotting)، فبان ضعف الملتحقين بكليات الآداب والتربية، ونتج عن ذلك عدم قدرتهم على مواكبة الدراسة الجامعية.
طرح الدكتور عدة أسئلة تؤكد العجلة في اتخاذ تلكم القرارات: هل اعادة مادة الأدب الانجليزي يمكن ان توقف التدهور في مستوى اللغة الإنجليزية، دع عنك ان تعمل على تحسينه؟ وهل سيسمح جدول الحصص بإضافة هذه المادة؟ وهل هنالك معلمين بإمكانهم تدريس هذه المادة محتواً، طريقةً وتقويماً؟ وهل ما زالت دور النشر العريقة تصدر هذه المؤلفات بالكمية الوفيرة والنوعية الجيدة التي كانت تغطي الرقعة الجيوسياسية، التي لم تكن الشمس تغيب عنها؟ وهل سنرى عبارة “طبع خصيصاً لوزارة التعليم العام السودانية”؟
ثم أتبعها بأسئلة أعمق، إذ تساءل: ما هو الادب الإنجليزي؟ هل هو ادب الخيال العلمي لكُتَّاب مثل هـ. ج. ويلز (H. G. Wells) “الة الزمن” (The Time Machine) والتي لم تبلغ معشار خيال طفل من أطفال اليوم دون العاشرة؟ ام مثل “حول العالم في ثمانين يوماً” (Around the World in Eighty Days) في عصر تفوق فيه سرعة الطيران سرعة الصوت؟ هل هو الادب الرمزي مثل مؤلفات جورج اورويل (George Orwell) مثل “1984” والتي كتبت عام 1948م وقد خلفنا عام 1984 ورائنا، ومثل “مزرعة الحيوان” (Animal Farm) التي أصبح ما تحكي عنه اثراً بعد عين؟ هل هو ادب المغامرات ورحلات الاستكشافات الخيالية لمجاهل القارة الافريقية مثل مؤلفات سير رايدر هاجرد (H. Rider Haggard) مثل “كنوز الملك سليمان” (King Solomon?s Mines) و”الان كوترمين” (Allan Quatermain) والتي تحكي عن سلالة بيضاء تعيش وسط افريقيا وتتحدث عن الساحرة “جاجول” (Gagool) ونحن في عهد يمكن للفرد ان يحدد فيه أي منزل في شارع عبيد ختم ويعرف اسم صاحبه وربما يرى صورة له، بل ويستطيع ان يحدد بيت “البلولة جرقندي” في دسكرة “خشم المرفعين” من أعمال محلية “دار بني أوى” مستخدماً برنامج “جوجل إيرث”؟ (Google earth) هل هو ادب الروايات التاريخية التي كانت طفرة في يومها ولكنها لم تعد اليوم بمثل ذلك السحر الأخاذ ولا المتعة العميقة في زمن الوسائط المتعددة والشاشات ثلاثية الابعاد؟ هل هو ادب الأيدولوجيات مثل “في انتظار جودو” (Waiting for Godot) الذي لم يأت حتى اللحظة؟ هل هو ادب السير الذاتية من قبيل “جين إير” (Jane Eyre) التي لم يعد في قصة حياتها ما يغري انسان اليوم بالتأمل فيها؟ هل هو ادب الروايات المسرحية مثل اعمال “اسكار وايلد” (Oscar Wilde) و”جورج برنارد شو” (George Bernard Shaw) الذين لو قدر لهما ان يحييا حتى اليوم لأعادا كتابة ما كتباه؟ هل هو أدب شكسبير (William Shakespeare) والذي اضحى اليوم في حاجة لأن يترجم للغة اليوم، حتى للناطقين بالإنجليزية كلغة أم؟ أولم يضطر مخرجو بعض مسرحياته ان يبدلوا السيوف بمسدسات آلية حتى يفها جيل اليوم؟ أم هل هو أدب اليوم من قبيل “شفرة دافنشي” (The Da Vinci Code)؟!
وما يزال سيل الأسئلة ينهمر: هل سبق هذا القرار دراسة علمية منهجية قامت على طرق البحث العلمي التجريبي كي يقف القرار على أرض صلبة من النتائج التي تم التوصل اليها من خلال اختبارات الفروض وذلك بعد جمع البيانات بأدوات محكمة لا يتطرق الشك الي قدرتها وصدقها وثباتها وتحليل تلك البيانات بالطرق العلمية والوصول منها الى خلاصات تعطي مؤشرات حقيقية لنجاح التجربة؟ هل اخضعت نتائج التجربة للمزيد من الفحص من خلال التجريب على مستوى صغير قبل ان تعمم؟ هل تمت الاستنارة بدراسات عالمية وبمقارنة النتائج بمحكات موثوق بها؟ وختم الدكتور مقاله بحكمة ليت تعيها أذن صاغية: “إن أي تجربة لا تورث حكمة تكرر نفسها”، مؤكداً أننا في عهد “لا يحتمل تكرار التجارب غير الناجحة”. أروني أمثال د. تاج السر بعشوم في العالمين؟! الخبير التربوي الذي لا يشق له غبار، والذي يتحدث الإنجليزية (بلسان مبين)، والذي لم ينل، بعد، التكريم اللائق به، هو وزملاءٌ له، كثر، الأستاذ حماد محمد حماد، مثالاً، الأديب، العالم بفنون اللغة الإنجليزية وتدريسها والذي، سبق أن أهداني بعض ابيات كتبها وهو يتجاذب معي أطراف الحديث، بعنوان:
Adhere to Piety (the Fear of Allah)
Be a true gentleman,
Not a good ? for ? nothing one,
Who steals everything he can.
Be firm and sturdy,
Be honest and trustworthy,
Straight not crooky or clumzy.
Bear difficulties and hardships endure,
Remain genuinely clean and pure,
Give a hand to the needy and the poor,
Hence, Allah will bless you sure.
صدقت استاذي:
القويُ (sturdy) قد أُرْغِمَ على أن يغادَ المشهد، أما (the clumsy) الأخرق، الذي يسرق (steal)، أصبح يتنمر، بلا مؤهلات ولا علم ولا كتاب منير. “يا حليل”، معلمي اللغة الإنجليزية، الذين كانوا يُنْتَدَبون للعمل ملحقين ثقافيين بسفارات السودان في جميع انحاء المعمورة.. يطوف بخاطري معلمون كثر كانت لهم صولات وجولات في مجال اللغة الانجليزية.. قلّ ان يجود الزمان بمثلهم..
عندما كنا طلاباً في المرحلة الثانوية في ثمانينات القرن المنصرم كانت اللغة الإنجليزية في تلك الفترة لغة تجد حظها الكافي من العناية والاهتمام الشديدين، فمعلمي تلك المرحلة كانوا على قدر كبير من التأهيل والتميز ولا زلت أذكر أساتذتي السودانيين وأسعى دوماً للتواصل مع من هم على قيد الحياة منهم عرفاناً بالجميل. كما لا يفوتني أن أنوه بالدور الكبير الذي لعبه الأساتذة البريطانيون في تعليمنا تلك اللغة.
عبدالغفار عيسى محمد
مترجم
مكتب آراء الرواد للمحاماة
جدة – المملكة العربية السعودية
عندما كنا طلاباً في المرحلة الثانوية في ثمانينات القرن المنصرم كانت اللغة الإنجليزية في تلك الفترة لغة تجد حظها الكافي من العناية والاهتمام الشديدين، فمعلمي تلك المرحلة كانوا على قدر كبير من التأهيل والتميز ولا زلت أذكر أساتذتي السودانيين وأسعى دوماً للتواصل مع من هم على قيد الحياة منهم عرفاناً بالجميل. كما لا يفوتني أن أنوه بالدور الكبير الذي لعبه الأساتذة البريطانيون في تعليمنا تلك اللغة.
عبدالغفار عيسى محمد
مترجم
مكتب آراء الرواد للمحاماة
جدة – المملكة العربية السعودية