أخبار السودان

ما بين دولة الضّهاري و دوَلٌ أخري… (١)

الضهاري هي مناطق البادية البعيدة عن المراكز الحضرية، وربما أصلها كلمة الظهر حيث تنطق الظاء ضادا في الدارجة السودانية، لكن الأهم من ذلك انها كلمة تحمل في طياتها اقصى معاني المعاناة وضنك العيش.
في البلاد التي بلغت درجة من التقدم أو باتت تسير بصورة طبيعية علي خطي التنمية المستدامة فإن مفهوم الضهاري أو الريف قد لا يتعدى تعريف مناطق خارج المدن ذات كثافة سكانية منخفضة ويغلب عليها نشاط الإنتاج الزراعي والرعوي، لكن وبسبب الفشل المدوي للسلطة المركزية في القيام بواجباتها الأساسية في السودان، فإن توقف الإنتاج مقرونا بنقص حاد للخدمات العامة والذي قد يصل في بعض الأحيان الي درجة انعدام الأمن، قد بات يعد أهم خصائصها المميزة عوضا عن الخصائص المذكورة سابقا، مما يجعل من كثير من أجزاء المدن أيضا تدخل في دائرة هذا التعريف ويتجرع ساكنوها، كما إخوانهم في أركان السودان الأربعة، مرارة الحياة في الدائرة الخبيثة المفرغة للفقر والجهل والمرض وما فتئت آمالهم بغد أفضل تتضاءل كل يوم.

في مؤانسة مع صديق، يعيش في كندا منذ سنين، حكي عن زميل له اشتري قطعة أرض في منطقة جبلية غير مأهولة وغير متصلة باي خدمات (عامة)، ليبتني له فيها مسكنا يكون مستقره الأخير بعد التقاعد، بعيدا عن صخب المدينة بتلوثها وازدحامها المقلق. وبعد استعانته بمختصين حمل مستنداته ومخططاته صوب الجهة الحكومية المسؤولة عن منح تراخيص البناء. لكنه فوجئ بالموظف المعني يطلب منه الانتظار لعدة أشهر.
وبالفعل مُنح الترخيص بعد ستة أشهر. وعندما شرع بالبناء فوجئ بأن الحكومة قد قامت برصف الطريق المؤدية إليها، كما وأنها قامت بربط القطعة بخدمات المياه والكهرباء والغاز… الخ، أي أنهم أتوا بالمدينة حيث حاول الهروب منها. والقصة المذكورة أعلاه هي مثال ضربته لشرح كيف تكون أعلي تجليات الدولة الناجحة والمتّسقة، والتي تقدم ما عليها من واجبات وخدمات لكل المواطنين مهما كان موقعهم الجغرافي أو الاجتماعي بعدا وقربا من مراكز اتخاذ القرار.

وقد سقنا المثال أعلاه أيضا كمقابلة قصدنا بها أقصي أنواع التناقض مع واقعنا الحالي المذري لدولة فاشلة بكثير من المقاييس، تظهر بوادر انهيارها الوظيفي يوما بعد يوم عندما نطالع الأخبار الكئيبة في الصحف والأسافير من قُبيل اصطدامات دموية بين مجموعات اثنية وقبلية مختلفة، أو موت طالبات إثر انهيار فصل على رؤوسهن البريئة في أحد الأحياء الطرفية، أو انهيار آلاف المنازل وتشريد سكانها نتيجة لسوء التخطيط وعدم مطابقة جسور الحماية من سيول الأمطار الموسمية للمواصفات رغم انها قد كلفت اضعاف سعرها الحقيقي. ثم يتزامن الانهيار الأخلاقي مع الوظيفي حين نسمع مبررات المسؤولين واحتمائهم بمبدأ الجبرية وأن ذلك قدر الله الذي لا مفر منه مع اضافة جمل تحذيرية مبطنة هنا وهناك من قبيل (ألا تؤمنون؟). وتتصاعد الجرأة وتهويمات الانفصال عن الواقع برمي من يشك في التقدم المهول الذي حدث في عهد الإنقاذ بنكران المعروف… حتى ليتساءل المرء أحيانا ما نوع المادة المهلوسة التي يتناولها هؤلاء السادة والسيدات قبيل التوجه لأعمالهم صباحا، أم اننا نحن من اصابتنا اللوثة؟

هذه المفارقة المقصودة تعد (وربما) مدخلا مناسبا للتوسع اكثر في شرح تناسق مكونات الدولة كمعيار لقياس مدى فشلها أو نجاحها كما قصد منها دق ناقوس الخطر بتسليط الضوء علي فرضية أن كل المؤشرات حاليا تشير وبصورة تقض مضاجع الكثيرين، على أن نسيج مكونات الدولة السودانية بالفعل في طريقه للتمزق غير القابل للرتق، الي كيانات متباينة ومتصارعة، وقد بدأت بوادر ذلك تظهر الآن بدرجات متفاوتة، وانعكس ذلك في مستوي تفاعل تلك الكيانات المتوازية (التي اسميناها مجازا بدول)، و الذي وصل في أحايين كثيرة الي أدني درجاته، بحيث يختلف واقعها ونمط حراكها الاقتصادي والسياسي بصورة جذرية وصادمة.

فما بين دولة اصحاب المشروع الذي سمي جزافا بالحضاري (النخبة الحاكمة) حيث يشكل أفرادها طبقة فوق المساءلة والقانون، تمتلك كل ما تيسر من طرق الوصول للخدمات والثروة والسلطة دون مجهود يذكر ودولة الضهاري حيث ينتفي وجود الدولة الفعلي ويضحي فرض القانون وتنظيم المجتمع عبئا ذاتيا ومنهكا تماما، بينهما كما ذكرنا دول أخري داخل الدولة تتشكل تدريجيا وتنمو في غير اتساق أو تخطيط قربا وبعدا من مظاهر التمدّن والعمران.

وهنا بالطبع يشكل حضور نظرية العمران الخلدونية في حال واقعنا السوداني، ورغم مرور قرون علي وضعها، مدخلا أساسيا ومعاصرا جدا لفهم هذه الفرضية، بما اننا نعيش داخل كيان من العصور الوسطي رغم اتخاذه مرغما مظهر هيكلية الدولة الحديثة.

يؤكد ابن خلدون أن “الدولة والعمران بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، لما في طباع البشر من العدوان الداعي الى الوازع”. فالدولة والعمران إذن أمران متلازمان. ومن جهة أخرى يذهب ابن خلدون إلى أن.? الإنسان مدني بالطبع أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية وهو معنى العمران”.

وهكذا فإن نظرية ابن خلدون حول العمران يتجاذبها محوران متوازيان لا غنى لأحدهما عن الآخر، بل لا وجود لأحدهما في غياب الآخر وهما:

المحور الأول: الدولة وتطورها وآليتها الاجتماعية العصبية وغايتها الملك (السلطة).

المحور الثاني: التمدين والتطور من البداوة أو الريف الي المدينة بمعناها الوظيفي.

فالمدينة والدولة صنوان متكاملان يشكلان نموذجا ثالثاً، يخضعان لنفس القوانين خاصة ترتبط بالحركة التطورية، وهي ما يسميها ابن خلدون بالعوارض الذاتية. ويرى صاحب النظرية، والذي يجدر الذكر انه عاش قبل نشوء ما عرف لاحقا بالدولة المدنية الحديثة، أن الدولة قوة أعلى من المجتمع وليست قوة مندمجة فيه، يراها منفصلة عنه وأنها لا يمكن أن توجد إلا في مرحلة معينة من تطور العمران الحضري، وكلما مر الزمن عليها انفصلت عن المجتمع وأصبحت تمثل طبقة أعلى من سائر الطبقات (النخبة السياسية الحاكمة). فالسلطان وحاشيته بعد أن يستقر لهم الملك يتخذون الجند ليدافعوا عنهم وينفصلون منعزلين عن أفراد المجتمع. وقد خلص ابن خلدون من ذلك إلى أن الدولة علة وجود العمران كحالة مجتمعية، وهي قرار إنساني اجتماعي له مظاهره الخاصة به يحدد مسار حركتها سياسياً واجتماعيا واقتصاديا، وبالتالي عمرانياً وحضارياً عموماً.

ويؤكد ابن خلدون ايضا على حتمية ارتباط العدل مع ازدهار الدولة وينادي بتجنب الظلم الذي يؤدي بالمجتمعات للهلاك وكما في تعبيره (يخرب العمران). فحكم القانون عنده هو ضمان للعدالة بين الناس إذا ما تحقق تحقق به (عز الملك)، وهكذا فان الظلم مؤذن بخراب العمران وانهيار الدولة، سواء كان الظلم نتيجة سياسة استبداد وتسلط أو تعسف على السكان، أو تجاوز الدولة للسياسة الشرعية. ومن أبرز أنواع العدل في الرؤية الخلدونية العدل الاقتصادي أو العدالة الاجتماعية. فالظلم المؤذن بالخراب يشمل احتكار التجارة والرزق من ذوي السلطان واغتصاب أموال الناس.

يتبع…

صحيفة أخبار الوطن ..
١٢ أغسطس ٢٠١٨

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..