صناع الجهل

ثمة قواسم مشتركة بين الحكام الدكتاتوريين والسلاطين وأهل الحكم الشمولي، وهي أنهم في كل زمان ومكان يريدون شعبًا سهل القياد يساق كالقطيع ، شعبًا مغيبًا وغير مدرك للأشياء من حوله، فاقد الوعي ، ضعيف الذاكرة، وحتى إن رأيت الأنظمة الشمولية تهتم بالتعليم وتتوسع فيه وتعلن ثورته، فإنها تكرس من خلال العملية التعليمية لتخريج أجيال تخدم النظام الشمولي القائم وذلك من خلال نظام تعليمي يعمل على تعطيل وإلغاء العقول وبرمجتها لخدمة أجندة وأهداف النظام، وبالتالي تغبيش الوعي وتغييبه وإضعافه إلى المستوى الذي يسمح بالانقياد والبرمجة على نحو يساعد على بقاء النظام أطول فترة ممكنة..

في مقال سابق أوردت قصة تقول إنه في نهاية العهد الإنجليزي كان هناك أحد النُظَّار وكان رجلاً متنفذاً وقابضاً، كان يعبئ الأهالي ضد تعليم أبنائهم ويصنع الشائعات التي تنفر الآباء من التعليم، وقد وصلت به الصفاقة أن جمع نفراً من المؤثرين في الرأي العام، وطلب منهم أن ينصحوا الناس بعدم إرسال أبنائهم للمدارس حفاظاً على (رجولتهم) وأنه يعلم تماماً أن الطلاب في الداخليات يفعلون المنكرات والفواحش ما ظهر منها وما بطن.. والحكاية كلها أن السيد الناظر يريد مواطنين كالقطيع ويعلم تماماً بفكره (الثاقب) وذكائه (الخارق) أن انتشار التعليم والمعرفة بين رعاياه سيضع حداً لمجده الذي بناه على قاعدة احتكار الحقيقة كلها، وغذَّاه بجهل الناس والتعتيم وتكميم الأفواه وإشاعة الجهل.. ليس ذلك الناظر وحده بل أن كثيراً من الحكام بنوا أمجادهم وسلطانهم واستأثروا بالموارد والممتلكات بعد استغلال جهل الناس والعمل على محاربة التعليم والمعرفة.. ويمكن أن نذهب أكثر من ذلك، ونُذكِّر بالحرب الشعواء التي قادها رجال الدين في أوروبا? حينما كانوا أعظم مكاناً من الحكام- على العلم والتعليم ووسائل المعرفة، وأوروبا المستنيرة التي تبهرنا الآن بكل ما هو جميل في مجال السياسة والحريات والتداول السلمي السلس للسلطة والممارسة الديمقراطية الراشدة وشفافية الحكم لم تصل إلى هذا الإنجاز الكبير إلا بعد أن حاربت (التجهيل) و(التعتيم) واحتكار الحقيقة وتعبئة الناس واقتيادهم إلى نحو ما يريد المتنفذون من رجال الكنيسة لخدمة مصالحهم الخاصة ومنافعهم الذاتية، فلا شك أن إشاعة المعرفة والتنوير ورفع حالة الوعي بين الناس سيكون هو الأساس لأي مشروع نهضوي ينعم فيه الجميع بالعدالة الاجتماعية وتحقيق العدل والمساواة.

أرأيت لو أن الصحافة اتجهت نحو تعزيز الوعي السياسي والاجتماعي لدى المواطن، وأعطت مساحة واسعة لمكافحة استغلال البسطاء، وصبت جل تركيزها على التوعية بأساليب الغش والنفاق، ووضعت مهمة خلق رأي عام مستنير وراسخ القناعات في أعلى سلم أولوياتها، أرأيتها لو أنها فعلت كل ذلك بتركيز شديد وانتظمت في حملات توعوية لمحاربة الاستغلال والتجهيل وتغبيش الوعي، أما كان ذلك أكبر خدمة تقدمها للشعوب المقهورة بدلًا عن التطبيل ومسح الجوخ وحرق البخور للحكام..

النخب السياسية بطبيعة الحال ? سواء أكانت حاكمة أو معارضة ? تريد رأياً عاماً غير مستنير تقتاده كالقطيع لتحقيق غايات وأهداف الساسة، تريده أجوف (تعبيه) بالكلام متى ما تريد وتفرغ شحناته غير المرغوب فيها وقتما شاءت، لذلك لن تعمل النخب على رفع درجة الوعي وخلق رأيٍّ عامٍ مستنير لأن هذا الأمر يتقاطع مع مصالحها، لكن بالقطع ذلك هو الدور المطلوب بشدة من الإعلام وما لم يكن هناك رأي عام مستنير وحالة وعي لن يكون هناك مشروع أمة ولن تكون هناك تنمية ولا استقرارًا ولا بناءً وطنيًا.. اللهم هذا قسمي فيما أملك.

نبضة أخيرة:

ضع نفسك دائمًا في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين .

الصيحة

تعليق واحد

  1. لقد قلت كلاما” جميلا” يا استاذ، وان ما يحدث في بلدنا لمثال فاقع وترجمة صادقة لما ورد بالمقال.
    الشعب السوداني مع الأسف شعب غارق في الجهل والتخلف المعرفي وله عاطفة غير طبيعية تجاه الدين، لدرجة تؤثر تأثير سلبيا” بالغا” على عقله القاصر.
    لقد فطن حكام السودان الحاليون بالهام من الدكتور حسن الترابي لهذه النقطة المميتة في الشعب ، وهي تعلق الناس بالدين دون هدى او كتاب منير.
    وعليه عندما رفعوا شعارهم الكاذب هي لله هي لله هي لله وصموا آذان الناس بالتكبير والتهليل، أحكموا قبضتهم تماما” على عقول الدهماء بصورة لا فكاك منها، وكانت النتيجة هذا الجنون الذي يعتريهم كلما صعد البشير منبرا” ليخاطب الناس وهلل وكبر وحدثهم عن اقامة شرع الله.
    ولن أكون مجافيا” للحقيقة ان قلت انه اذا ارادت الدولة (اليوم) ان تجمع ملايين المناصرين لاستطاعت بسهولة، وذلك بمجرد اعتلاء البشير لأي منصة وارتفاع الاصوات بالتهليل والتكبير ، سيترك الناس صفوف الخبز والغاز والبنزين ويهرعوا كالمجانين للانضمام لذلك الحشد بعد ان يتناسوا جوعهم ومرضهم ومعاناتهم، خاصة اذا أضيفت لتلك الهتافات الدلوكة والعرضة على انغام دخلوها وصقيرا حام.
    قي مجتمع مثل هذا يجب فصل الدين عن الدولة تماما” والا لكانت الغلبة لادعياء الدين مهما كان خبثهم ومكرهم وسوؤهم.
    ان المعادلة الصعبة اننا شعب متخلف فكريا” لأبعد الحدود، ولذلك فشلت لدينا الديمقراطية لأنها لم تجد شعبا” يفهم معناها ويصبر عليها و ينافح من اجلها ويدافع عنها، وهذه هي معضلة المعارضة الحالية والتالية.
    14/اغسطس/2018
    ان من انصع الأمثلة للوعي الجمعي للشعوب بحقوقها ما جرى بعد الانقلاب الذي حدث قبل سنتين في تركيا حبث شهدنا كيف ان كل الشعب قد خرج بجنون، المعارض والموالي استنكارا” ورفضا” للانقلاب، وكذلك ما حدث في ثورتي مصر على مبارك وعلى مرسي حيث تداعى الالاف من الناس وأسقطوا النظامين في ملاحم بطولية.
    نحن شعب يحتاج للكثير الكثير حتى يرتقي لمصاف الشعوب المتحضرة، ولذلك سيطول ليل الانقاذ ،،، سيطول جدا” ، ومن يعش سيرى

  2. لقد قلت كلاما” جميلا” يا استاذ، وان ما يحدث في بلدنا لمثال فاقع وترجمة صادقة لما ورد بالمقال.
    الشعب السوداني مع الأسف شعب غارق في الجهل والتخلف المعرفي وله عاطفة غير طبيعية تجاه الدين، لدرجة تؤثر تأثير سلبيا” بالغا” على عقله القاصر.
    لقد فطن حكام السودان الحاليون بالهام من الدكتور حسن الترابي لهذه النقطة المميتة في الشعب ، وهي تعلق الناس بالدين دون هدى او كتاب منير.
    وعليه عندما رفعوا شعارهم الكاذب هي لله هي لله هي لله وصموا آذان الناس بالتكبير والتهليل، أحكموا قبضتهم تماما” على عقول الدهماء بصورة لا فكاك منها، وكانت النتيجة هذا الجنون الذي يعتريهم كلما صعد البشير منبرا” ليخاطب الناس وهلل وكبر وحدثهم عن اقامة شرع الله.
    ولن أكون مجافيا” للحقيقة ان قلت انه اذا ارادت الدولة (اليوم) ان تجمع ملايين المناصرين لاستطاعت بسهولة، وذلك بمجرد اعتلاء البشير لأي منصة وارتفاع الاصوات بالتهليل والتكبير ، سيترك الناس صفوف الخبز والغاز والبنزين ويهرعوا كالمجانين للانضمام لذلك الحشد بعد ان يتناسوا جوعهم ومرضهم ومعاناتهم، خاصة اذا أضيفت لتلك الهتافات الدلوكة والعرضة على انغام دخلوها وصقيرا حام.
    قي مجتمع مثل هذا يجب فصل الدين عن الدولة تماما” والا لكانت الغلبة لادعياء الدين مهما كان خبثهم ومكرهم وسوؤهم.
    ان المعادلة الصعبة اننا شعب متخلف فكريا” لأبعد الحدود، ولذلك فشلت لدينا الديمقراطية لأنها لم تجد شعبا” يفهم معناها ويصبر عليها و ينافح من اجلها ويدافع عنها، وهذه هي معضلة المعارضة الحالية والتالية.
    14/اغسطس/2018
    ان من انصع الأمثلة للوعي الجمعي للشعوب بحقوقها ما جرى بعد الانقلاب الذي حدث قبل سنتين في تركيا حبث شهدنا كيف ان كل الشعب قد خرج بجنون، المعارض والموالي استنكارا” ورفضا” للانقلاب، وكذلك ما حدث في ثورتي مصر على مبارك وعلى مرسي حيث تداعى الالاف من الناس وأسقطوا النظامين في ملاحم بطولية.
    نحن شعب يحتاج للكثير الكثير حتى يرتقي لمصاف الشعوب المتحضرة، ولذلك سيطول ليل الانقاذ ،،، سيطول جدا” ، ومن يعش سيرى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..