أخبار السودان

بين دولة الضّهارِي ودُوَلٌ اخرى … (5) .. الأخيرة

مهدي رابح

طوال ثلاثين عاما قدر لنا ان نشهد التطور الطبيعي Evolution لمنظومة الحكم الأنقاذوي/الأسلاموية من مشروع اراد له عرابه, رحمه الله و غفر له, ان يكون عالميا, بناه علي مرجعيات ثبت عمليا و علميا أنها لا تخرج من حيز الخيال الجامح و الشطح الفكري , المبني علي قراءة قاصرة و مغلوطة لتاريخ الخلافة الإسلامية و تاريخ بناء الدولة علي إطلاقه, مقرونا بتفاسير انتقائية شائهة (تجارية) للنصوص المقدسة علي احسن تقدير. مرورا بعدة مراحل ابرزها الغزوات داخل و خارج السودان و التي أدّي فشلها المتوقع و رويدا الي عُزلة المنظومة و انكفائها علي نفسها لتتحول الي الة تكوين ثروات بالدرجة الأولى, محروسة بقوة السلاح الفتّاكة, لتحقق أحلام أقليّة صغيرة, غالبها صعد السلم بفضل التعليم و العلاج المجاني و الخدمات العامة ,من جحيم الضّهاري إلي تحقيق حلم الرفاه الشخصي في الحياة الدنيا دون اكتراث بالمصلحة العامة, و من ثم التحصّن بقلعة السّلطة المطلقة تلك من يد العدالة الطويلة العابرة للقارات.

و قد يتفق الجميع أن العنصر المشترك لمراحل التطور هذه بجانب فوضي السياسات العامة و البطش الشديد, هو تحجيم دور الحكومة كقوة رافعة و منظِّمة للمجتمع, لتصبح في احسن الأحوال جهاز للجباية من البسطاء و حماية للأقوياء, كما اسلفنا, اقتصر مدى فعاليتها علي خدمة تلك الفئة القليلة (التي ظنت إنها أحسنت صنعا) و اقتصر تنظيمها للمجتمع علي استهداف فئات ضعيفة لا حول لها و لا قوة , بدءا ببائعات الشاي او الفتيات اللائي يلبسن البنطال مثلا و ليس انتهاء بحرامي الملاية, و الذي عبر عنه الشاعر الجميل المقيم في وجدان الغلابة و ناس الضهاري , محجوب شريف :
حليلك بتسرق سفنجة و ملاية
و غيرك بيسرق خروف السماية
في واحد تصدق بيسرق ولاية ؟ …
و كان نتاج تلك المسيرة غير المشرّفة أو كما قد يطلق عليها الفرنجة Walk of shame , و التي بدأنا نعتاد علي سماع تكرار تنكّر كثير من منسوبيها لواقع ملكيتهم الحصرية لها, أن انقسم الشعب السوداني إلي مجموعتين رئيستين هما شعب دولة المشروع الحضاري و جمهور الضّهاري .

علي ان دولة الضّهاري في حد ذاتها غير متجانسة في فصيل واحد لكن يمكن اذا استثنينا ما تبقي من طبقة وسطي اضعفها اختلال الموازين و سطوة التّمكين و الصالح العام, و نزيف الهجرة الذي تضاعف بدوره بشكل مهول و تصاعد حتي وصل الان الي ما يمكن ان نسميه بكل ثقة بالرحيل الجماعي النهائي (Exodus),ثم أصحاب العمل الراسخين المنتجين (و هنا استثني السماسرة ووسطاء السلطة) .. و من ثم تسلحنا بسيف معايير القدرات الإنسانية كما شرحها احد فلاسفة العلوم الأقتصادية الحديثة (أمارتيا سن), و المذكورة في المقال السابق ان نصل الي المحصلة القائلة ان ما تبقي لدينا هم جمهور الضهاري المنقسم بدوره بين المراكز المدينية والأرياف و الذين يمثلون دون جدال الغالبية العظمي و الساحقة من المواطنين.

يبقي التساؤل المشروع و المنطقي في نهاية هذه السلسلة من المقالات, هو :إذن أين نجد هنا ما قد يعضد من الزّعم الذي سقناه منذ البدء بان هنالك احتمال خطير لتصادم مكونات المجتمع السوداني و ماهي هذه المكونات تحديدا و كيف … الخ ؟

اري شخصيا ان التصادم حادث بالفعل و إن بدرجات محدودة لكنها مرشحة للتصاعد, متمظهرة في ما خلفه تمكين الشوكة العشائرية و القبلية و الطائفية بدلا من المؤسسات القومية, باعتبارها الحاضنة الاجتماعية للمنظومة الحاكمة , واعتقد الحاضنة الاجتماعية لأي منظومة ديكتاتورية سابقة كذلك, و التي استطاعت و نجحت ? أي المنظومة الحاكمة- في استغلال تركيبتها الاستبدادية اللامركزية و استخدام طاقاتها البشرية رفدا لمشروعها بقوة الدفع اللازمة , و الذي يتمركز ? أي المشروع ? حول سمة مركزية واحدة و يتيمة هي الاستمرار في السلطة باي ثمن و لأطول مدّة زمنية ممكنة.

و هنا و لتوضيح جذور الفكرة, الجأ للتحليل الجريء للمفكر اليوغندي الكبير البروفيسور محمود ممداني ,و المذكور في كتابه القيم ” المواطن و الرعية” Citizen & Subject و الذي حاول فيه استنكاه أسباب العقبات التي اعترضت نجاح بناء الدولة و التحول الديموقراطي او المقرطة في افريقيا, مقدما رصدا جريئا و عميقا للتراث الأستعماري عبر تحليله لبنية سلطة الدولة الأستعمارية الثنائية, التي كانت تقوم بتنظيم السيطرة الأستعمارية السلالية من خلال خلق او قولبة سلسلة من السلطات المحلية (الريفية) المنظمة علي أسس قبلية, و ذلك من خلال توظيف الإمكانات التسلّطية/الأستبدادية داخل تلك الثقافة المعيّنة.

و بالثنائية قصد الكاتب انه في حين كان يُحكم سكان المدن كمواطنين يخضعون للقانون المدني و إن كمواطنين من الدرجة الثانية ,و السيطرة المباشرة للسلطة المركزية فان غالب سكان الأرياف, ولأسباب عدة ابرزها رشاقة الهيكل الإداري لدولة الاستعمار و قلة موظفيها, حُكموا كرعية, من خلال زعماء قبليين رُكّزت في أيديهم كل السلطات القضائية و التشريعية و التنفيذية بما فيها المالية طبعا, و محميين بقوة سلاح الدولة المركزية ,حُوِّلوا الي مستبدين صغار منتشرين في الأرياف , مستندين علي شرعية الأعراف و التقاليد التي اعيد صياغتها في غالب الأحوال لتتماشي مع سياسة المركز, ممّا أدي الي تشوه اليّات اتّخاذ القرار و الحكم الما قبل-استعمارية (أي ما قبل الغزو المصري او التركي,او سمه ما شئت) و المتمثلة في مجالس كبار الحكماء/كبار السن و شيوخ القري كمثال, وفي احسن الأحوال عدم تطورها الطبيعي الي مؤسسات مستقرة و فاعلة.

وهو تحليل أظنّه ينطبق إلي حد كبير علي الحالة السودانية, فمن خلال تدجين أو شراء ولاء أو استمالة الزعامات العشائرية و الطائفية و القبلية استطاعت المنظومة الحاكمة إخماد أي احتجاج او مقاومة تهدد وجودها بل انخرط أبناء هذه العشائر و القبائل و الطوائف في القوة الضاربة للنظام, نظامية و غير نظامية, مدفوعين بجانب تشجيع المستبدين المحليين الصغار و المنتفعين من الوضع القائم Status quo, بقوة طاقة مبدأ الطاعة العمياء (المريد/الشيخ) وفكرة الحفاظ علي التقاليد و الأعراف داخل اطار أوسع ذو قشرة/مظهر ديني. و اقتصرت مظاهر المقاومة علي سكّان المدن حتي اصبح المثال الوحيد الذي يحتذى, و العالق في أذهان النخبة هو ما حدث في أكتوبر العظيم و أبريل المجيدة, معزولين عن الأرياف و قواعدها الفاعلة و غير قادرين علي توسيع حدود خيالهم ليشمل هذا الجزء والمكوّن الأساسي من المجتمع السوداني.

لكن النتيجة المرعبة التي أتخوف منها و التي قصدت الأشارة اليها عبر هذه المقالات هي خطورة تضخيم الهوة و القطيعة الثقافية التي عملت عليه المنظومة الحاكمة بكل جد و اجتهاد, بين ضهاري الأرياف و المدن, عبر إعادة تعريف و استخدام نفس الهياكل الشائهة التي ورثناها من الدولة المستعمِرة و الاستثمار في إمكاناتها الاستبدادية , دافعة بالتالي مكونات المجتمع السوداني نحو التصادم و تمزّق نسيجه الذي قد لن يجدي معه رتقا من بعد ذلك نفعا.
ربما قد يجد البعض أن المزاعم المتشائمة التي سقتها هنا مبالغ فيها Far Fetched و غير دقيقة لكن أرجو قراءتها باعتبارها تفكير بصوت مرتفع, لمواطن يري شجرا يمشي, و ربما و بقليل من الحظ قد تدفع هذه الخاطرة المختزلة, غير المنسقة او المتقنة, من هم اعلم و اعمق دراية وخبرة, وهم كثر بالتأكيد, الي الغوص اعمق في عين البقعة من هذا النهر الواسع من تعقيدات الواقع السوداني, او تفنيد خطئي البائن , وهو ما سيسعدني جدا بالتأكيد.
انتهى ..
مهدي رابح
[email protected]
أخبار الوطن

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..