ثلاثية الحيرة الوطن.. الطبقة.. الدين!

ناصر عراق
في ظني ان المكسب الاهم الذي جنيناه نحن المصريين من ثورة 25 يناير 2011 وتداعياتها يتمثل في انها اعادت للعقل بهاءه المسلوب، وذلك من خلال تاجيجها لنيران الاسئلة الكبرى. وهو مكسب لو تعلمون عظيم بعد عقود قضاها الناس هائمين على وسادة الكسل العقلي. وساشرح ذلك في السطور التالية.
الكل يعلم ان الذين اشعلوا قناديل الثورة على نظام مبارك يشكلون الغالبية العظمى من المصريين، وتحديدا.. الشباب بتنويعاته الطبقية والاجتماعية المختلفة، ثم التحق بهم بقية طبقات الشعب (عمال/ فلاحين/ سياسيين ومثقفين شرفاء/ موظفين صغار/ عاطلين) باستثناء طبقة رجال الاعمال وقادة الاجهزة الكبرى بالدولة مثل كبار رجال الجيش والشرطة والاعلام ووزراء حكومات مبارك ومن ينتمي الى هذه الطبقة الثرية والمتنعمة بالجاه والسلطان، والتي حكمت مصر لمدة تزيد عن اربعة عقود.
لا تنسَ ايضا ان الطبقات التي ثارت ضد عنجهية مبارك ضمت تحت اجنحتها المسلمين والمسيحيين، فكلهم في الهم شرق، وقد استشهد واصيب الالاف من اولئك وهؤلاء دفاعًا عن حق الناس البسطاء في حياة حرة كريمة وعادلة. وهو ما لم يحدث للاسف الشديد بعد مرور اكثر من عامين على الثورة المخطوفة، حيث سقطت تفاحة السلطة طازجة شهية في فم جماعة الاخوان المسلمين التي لا تختلف من حيث توجهاتها السياسية والاقتصادية عن مبارك وزبانيته.
قضية الوطن
فتحت ثورتنا المغدورة الباب واسعًا حول مفهومي الدولة والوطن، ذلك ان جماعة الاخوان التي ال لها حكم مصر الان تتكئ فكريًا على مفهوم اخر يخاصم مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، فالجماعة منذ تاسيسها عام 1928 وهي تدعو وتبشر بالامة الاسلامية الكبرى التي تنضوي تحت لوائها الشعوب المسلمة، وهكذا تسعى الجماعة الى اعادة احياء ما يسمى بالخلافة الاسلامية، فلا يهمها ان تكون هناك دولة خاصة ومحددة للمصريين او العراقيين او الفلسطينيين او السوريين او الباكستانيين او الافغان او الايرانيين او الاتراك الى اخره مادام الاسلام هو الدين الرئيس لغالبية شعوب هذه البلدان. وهكذا تضرب جماعة الاخوان عرض الحائط بالجغرافيا والتاريخ واللغة والبيئة، وهي الامور التي تحدد بوضوح مفهوم الدولة في العصر الحديث. ولعلك تذكر تصريح مهدي عاكف المرشد العام السابق للجماعة الذي ادلى به الى صديقنا الصحفي اللامع سعيد شعيب، اذ قال بالنص: (طز في مصر)، وهو تعبير شعبي دارج معناه الاستخفاف الشديد بمصر بوصفها دولة او وطن، فالجماعة ومرشدها لا يهمها مطلقا ان يحكم مصر رجل افغاني او باكستاني او تركي او ماليزي مادام مسلمًا! الامر الذي يجعلها تتشابه بدرجة مثيرة مع فكرة الدولة اليهودية التي تشكلت في الكيان المدعو (اسرائيل)، حيث جاء اليهود من كل بقاع العالم، واحتلوا ارض فلسطين، بدعم قوى الغرب، ليقيموا دولتهم المشبوهة بزعم انها ارضهم الموعودة!
ان اهدار جماعة الاخوان للتطور الذي صنعته البشرية حتى تصل الى مرحلة تنظيم الشعوب في دول وطنية محددة القوام امر بالغ الغرابة، لانه يكشف عن سذاجة او جهل او غباء لا يليق باحد يعيش في القرن الحادي والعشرين، ولكن اذا كانت فكرة حشد الناس المختلفين عرقيًا ولغويًا وجغرافيًا ومزاجيًا تحت راية الدين فقط لا تصلح في الزمن الحديث، فهل يكفي ان ينتمي الناس الى وطن واحد لتستقيم احوالهم، وينعمون بالعدل والحرية؟
صراع الطبقات
قبل ان تجيب دعني اسالك: الم يكن حسني مبارك مصريًا؟ الم يكن صدام حسين عراقيًا؟ ومع ذلك لم يتورع الاول عن افقار المصريين واذلالهم ونهب ثرواتهم طوال ثلاثين عامًا، ولم يتردد الثاني في قتل العراقيين وتعذيبهم وسلب خيراتهم بامتداد ربع قرن! هل يحق لحسني مبارك وزبانيته ان يذيقونا نحن المصريين الامرين لانهم مصريون مثلنا؟ هل يبرر الانتماء لوطن واحد ان يطغي احد ابناء هذا الوطن على الاخرين لانه صار الرئيس او الحاكم في لحظة بائسة؟
هل تستوي مصالح الفقراء من عمال وفلاحين وموظفين صغار مع مصالح رجال الاعمال الفاسدين ورجال الحكم الطماعين؟ يتعجب المرء كثيرًا حين يسمع عبارة (كلنا مصريون يا جماعة) التي تتردد في الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي لكون هذه العبارة تحاول طمس حقائق ساطعة كالشمس، ذلك انها تنسف مفهوم المصالح المتعارضة بين الطبقات المختلفة، وتضع الحاكم السارق والموظف الصغير في سلة واحدة؟ كان يتساوى مبارك مع فلاح معدم في الصعيد مادام الاثنان ينتميان الى دولة واحدة هي مصر!
الامر نفسه ينطبق الان على الرئيس محمد مرسي وقادة جماعته، فهم يقهرون الشعب ويفقرونه بسياساتهم التي لا تختلف عن سياسات مبارك من حيث تبعيتها للراسمالية العالمية التي تنحاز الى الاثرياء ضد الفقراء، ومن حيث موقفها المهادن حيال اسرائيل. (لاحظ الازمات المتفاقمة في مصر الان مثل السولار ورغيف الخبز وغلاء الاسعار الخ، في حين ان ثروة نائب مرشد الجماعة خيرت الشاطر بلغت 20 مليار دولار كما تقول بعض المصادر). اليس مرسي وجماعته مصريين؟ فهل يصح ان يدعهم الناس ينكلون بهم ويعذبونهم لانهم ينتمون الى الوطن نفسه؟
هكذا اذن اشاعت الثورة المسروقة فضيلة السؤال، ودفعت الناس للبحث عن حلول تمكنهم من اقامة مجتمع اكثر عدلا وحرية وجمالا، واصبح كل مصري مشغولا بالبحث عن اجابة للسؤال العويص.. اجابة تشفي غليله للمعرفة الصواب.
هل يكفي انتماؤنا لدين واحد، وهو الاسلام، في تشييد مجتمع العدل والخير والجمال؟ ماذا سنفعل عندئذ بأشقائنا الاقباط؟ وكيف يمكن ان نفهم لغة ومزاج مسلمي الافغان والباكستان ونتفاعل معهم اذا ضمتنا دولة واحدة؟ ثم ايهما تقبل: ان يحكم مصر مسلم افغاني ام مسيحي مصري؟
هل يكفي انتماؤنا كلنا الى وطن واحد هو مصر في تحقيق ما نصبو اليه، في الوقت الذي يلهث فيه (مصريون) مثلنا خطفوا السلطة الى الاستئثار بالحكم واتخاذ قرارات لصالح اغنيائهم ورجالهم، بينما يتركون الملايين في فقر وهم وغم مثلما صنع مبارك وحاشيته؟
السؤال باختصار.. ما هي اكثر الاشياء التي تجمع الناس وتؤلف بين قلوبهم وتوحد مصالحهم من اجل حياة اكثر عدلا ويسرا وجمالا؟
الوطن ام الطبقة ام الدين؟
القدس العربي