هل يستفيد المؤتمر الوطني من تجربة وردي اللحنية؟ا

هل يستفيد المؤتمر الوطني من تجربة وردي اللحنية؟
صلاح شعيب
[email protected]
الصورة التي تبدو على سطح العمل السياسي السوداني أن واحدة من آيدلوجياته ظفرت بما ترغب فيه الأخريات من مثيلاتها. إنها توطدت لحظيا بالهيمنة على السلطة، وتسييرها فرديا، بلاهوادة، مع الإستهانة بأي إمكانية حزبية، أو شعبية، تفقدها هذه الهيمنة.
إن خنق حركة المعارضة بحيث ألا تتنفس، وتجاوز قادتها التاريخيين إلى تكرار إعتقال الترابي، وتحسيسنا بأنه يمثل، أكثر من أي زعيم آخر، تهديدا مباشرا للنظام ــ وضعف الموقف من حركة العدل والمساواة، ترهيبا وترغيبا ــ يؤكد أننا وصلنا إلى ما يشبه الوضع الذي شبه به الفنان وردي مركزيته الفنية. فقد قال في مطلع السبعينات أن لاشئ ينافس إبداعيته إلا أغنياته التي تتصارع بجماليات بعضها البعض، وحتما أن الموسيقار الكبير رأى في قمة نشوته بعبقريته المؤكدة أن ما ستأتي لاحقا من أغنيات لزملاء ، أعزاء أو غير، لن تبلغ هرم (ارحل) مثلا، وإن أردت (الود).
وقلنا في مقال سابق أن ذلك التصريح الوردوي حرك فنانا عظيما مثل محمد الأمين لأن يسعى بصمت لتخطي المخيلة الفنية للملحن النوبي..العظيم كذلك.
فما أن أكملنا نصف العقد خرج ابو اللمين بألحان قديمة له لم تجد العازفين المهرة، والذواقة البررة، وقتها، حيث إستعان في مطلع الثمانينات بجيل شاب من خريجي المعهد العالي للموسيقى والمسرح، ومن ثم نفذ بواسطة حساسيته العالمة أغنيات (الجريدة، وشال النور، وعابر طريق، وقلنا ما ممكن تسافر، وماهو باين)، وفيما بعد إتضح أن وردي بإغنياته القديمة بحاجة إلى تجديد يتماشى مع هذا الفتح الغنائي الذي بلورت سماته سيرورة الحداثة الدائمة إلى أعلى.
بعدها كان وردي، بين فترة وأخرى، يعكف على الإستعانة بشعرائه القدامي أمثال أبو قطاطي، ومحجوب شريف، والفيتوري، وجارى فتوحات أبو اللمين عبر السمبلاية، وإستفاد من مناخ الإنتفاضة فعزز وطنياته حى يبز (ملحمة) هاشم صديق التي أعطاها محمد الأمين بعدا لحنيا ساميا. وعند منتصف التسعينات إلتقى المعارض السياسي بأبي قطاطي في القاهرة وخرجا بـ(الناس القيافة).
ولكن أخيرا خذل العمر، وربما المرض أيضا، الفنان وردي.
فإمكانياته الصوتية، الفتية، الخارقة قد شاخت، ولم يكن له بد غير الجلوس مثل الأسد الهرم ليستمع إلى المازورات الغنائية الما بعد حداثية، والتي إستخدمها أبو الأمين في أغنيتيه الأخيرتين مثل (يا جميل يا رائع)، و(يا نرجسة)، وهما للشاعر المجيد صلاح الدين حاج سعيد، وكأن محمد الأمين أراد في ذلك اللقاء المشترك الذي ضمهما، في واحدة من إشراقات التلفزيون القومي العيدية، أن يثبت لوردي أن حواء والدة، وأنه متى وجد المبدع نفسه مغترا، فرضت حركة الحداثة الموسيقية والغنائية آخرين لا يقلون إبداعا عن كرومة، وعثمان حسين، والكاشف، وهلمجرا.
صحيح أن الغرور قد يصيب السياسيين أيضا بين الفينة والأخرى، فالراحل عمر نور الدائم قال مرة إن (البلد بلدنا ونحنا أسيادها)، وهتف الإتحاديون في نشوة ظفر، ودون إعتبار للنضالات الأخرى: (حررت الناس يا إسماعيل..الكانوا عبيد يا إسماعيل)، أما اليسار فقد دانت له السيطرة على النقابات والمناشط الابداعية والأكاديمية، وحجز مكانا أنطلوجيا في القوات المسلحة، وظن أن ذلك هو المدخل الدائم لفاعليته. ولكن كل ذلك الظفر السياسي آل إلى البيات الشتوي، إن لم يكن التلاشي.
وبدا أن الطائفة الإسلاموية كانت توظف حينها كيدا أشبه بمكيدات محمد الأمين اللحنية، ويا لجمال هذا النوع من المكيدات، فحفرت في (الساس السياسي) إلى أن قوضت البناءات الطائفية واليسارية، ولكن قبل أن تصدق كشفية أبن خلدون في تقييم الدول، إتضح أن دولة الإنقاذ قد شاخت، نظريا على الأقل، كما شيخوخة صوت وردي، وقبل أن تكمل المئة من الأعوام.
تكون هذه الشيخوخة كذلك ما دام أن هذه الدولة ترينا في كل فجر أنها كتمت أنفاس الطائفيين، واليساريين في مضمار التاثير، وبدت لا تنافس إلا رموزها السابقين، حيث الترابي في المركز، الزبون الدائم للسجون، وخليل، الشغل الشاغل للمتسلطين، في الهامش، مع التقدير للفروقات التكتيكية في خطابات الجهات الثلاث التي ورثت التأثير السياسي والعسكري في بلاد العاج، وسن الفيل. وإذا تفادينا هذه الفروقات، فإن القادة المتصارعين هم بالضرورة ابناء آيدلوجيا الغيبوبة الإسلاموية، وإن تمايزت دفوفهم، أو دنانهم. وكذا فإن من عناصر هذه الشيخوخة النظرية هو أن الإسلاميين عجزوا عن الرد عن غياب الأمثلة الأخلاقية، والعرفانية، في تجربة الحكم. ولم يعد هناك ثمة شئ يجبرهم على مراجعة نظرية الإقتصاد الإسلامي التي أسست للطبقية، وبدا أن معدلات الفقر تتسع بإتساع رقعة الزمن الإسلاموي.
لا نتخيل أن لدى ملحن الموال الإسلاموي مجالا للإعتبار من تجربة وردي، أو من حركة التحديث التي تنفرض دائما على سوح الفكر، والنقد، لتؤكد أن الغرور الفني يحفر لصاحبه (ود اللحد)، يهيل عليه التراب من يأتي بعده من الكائدين الفنانين، ولكن، هناك على الأقل حقيقة مؤداها أن أي حقل ينتج فيه بعض الناس إستهانة بالآخرين سيصحح عن سبيل سدنة آخرين، آن عاجلا أم آجلا.
بمنهجية ما..الحياة سهلة، وسلسة. ولكن الذين يعقدونها هم من لا يعتبرون بماضيها، وكأنهم يريدون بغرور الجبروت، أو بجبروت الغرور، أن يكتبوا نظرية جديدة تمدد العمران السياسي على حساب العشواء في المقدمات، والنتائج، وما يترتب عليها.
للإستاذ وردي طول العمر بعد أن إغتر إبداعيا، وجاء غروره مصلحة للسميعة وهم غير المستمعين، وللبلد. ولم يجن شيئا إلا أسطورياته اللحنية التي ستخلد مهما كان عرفانه الفني قد إضمحل، ساعتئذ. وربما ستتعظ الطائفية من نموذج ذلك الغرور (النور الدائمي) الذي قد يقول قائل إنه لا يمثل خطاباتها، وقد يحركها الغرور الإسلاموي لتدهيين جهاديتها السلمية، أو العنفوانية، وتدرك بعدها أنها بحاجة إلى مراجعة لأفكارها، وتكتيكاتها. أما اليسار الجديد، أو العريض، فهو بحاجة إلى معرفة تاثير السماد الذي يغذى زرع الطائفية، والإسلاموية، وإبداله بآخر ــ (موضوعي) ــ يجفف مواعين الإنتهاك العقلاني والعاطفي هنا، وهناك. أما شعيب، فقد أحس أن التعامل بالدين السياسي قد قاد البلاد إلى (الإنمساخ) ويحتاج ككاتب إلى أن يفهم الأشياء، أكثر من الروم بإنتقادها.
بقي هناك شئ أخير لابد للكاتب من تأكيده وهو ضرورة بحث الموسيقيين للعلاقة بين أفكار ما بعد الحداثة، ولحن نرجسة، ولعل الخلاصة تدعم هذا المقال.