لم تخلق كلمة (حمقى) اعتباطاً، ولكن لوجود مستحقيها

*(من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع،
والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم..).
– جعفر بن محمد-
.. قيل في شرح معنى “الحُمق والحماقة”: وضع الشيء في غير موضعه، مع العلم بقبحه. ويقال: “سِرْنا في ليالٍ محْمِقات” إذا استتر القمر فيها بغيم أبيض، فيسير الراكب ويظن أنه قد أصبح حتى يملّ؛ ومنه أُخذ اسم الأحمق لأنه يغرّك في أول مجلسه بتعاقله، فإذا انتهى إلى آخر كلامه تبيَّن حمقُه؛ فقد غرَّك بأول كلامه..
وقال ابن الأعرابي: الحُمق أصله الكساد. ويقال: الأحمق الكاسد العقل. قال: والحمق أيضاً الغرور. ويقال في الأحمق الأخرق، من الخُرق، وهو الحمق والجهل، ويقال له الأرعن والأهوج، فلْيَهْنَأ بكثرة الألقاب والمعاني..
وقال لقمان: “لا تعاشر الأحمق ولو كان ذا جمال”، وقال الجاحظ: “لا تجالس الحمقى؛ فإنه يعلق بك من مجالستهم من الفساد ما لا يعلق بك من مجالسة العقلاء دهراً من الصلاح؛ فإن الفساد أشد التحاماً بالطباع” وقديماً قيل:
لكلّ داء دواء يُستطَبُّ به
إلا الحماقة أعيتْ من يداويها
وقال الشاعر محذِّراً من معاشرة الأحمق ومخالطته:
احذر الأحمق واحذر وُدّهُ
إنما الأحمق كالثوب الخَلَقْ
كلّما رقّعتَه من جانبٍ
زَعزعته الريحُ يوماً فانخرقْ

وقال الحسن البصري:
“مَن عَمِل بغير عِلْمٍ كان ما أفسد أكثر مما أصلح”.
****
والأحمق يتّبع هواه، ويجد فيه مسلكاً ملائماً يُشبع غروره؛ وهو كثير العجب بنفسه فلا ينقضي عجب الناس منه وسخرهم به لسخفه، واستهانته برأي غيره.. قال النبي (ص): [ثلاثٌ مهلكات: شُحٌّ مطاع، وهوىً متّبع، وإعجاب المرء بنفسه].
وليس أشق على نفس الحر الكريم من أن يبتلى بإنسان أحمق يعجب بنفسه، ويفرض رأيه على غيره، ويظن أنه أكثر الناس فهماً، وأنضجهم عقلاً وأوفرهم علماً، ورأسه فارغ لو نقرت عليه لطنّ.
ومِن طبع الأحمق أن يغالط كثيراً، وفي “أساس البلاغة” للزمخشري: إياك والمكابرة والمغالطة، واربأ بنفسك عن الأغاليط.. وقد نهى رسول الله (ص) عن الغلوطات وفي رواية الأغلوطات، وأراد المسائل التي يغالَط بها العلماء ليزِلُّوا، فيهيج بذلك شرٌّ وفتنة؛ وإنما نهى عنها لأنها غير نافعة في الدين، ولا تكاد تكون إلا في ما لا يقع”.
والأحمق يُلحق بنفسه وبغيره أذىً كثيراً وضرراً كبيراً حين يجرب فيهم سطوته و”خبرته”، ويحكّم غروره وحماقته، فيضل ضلالاً بعيداً، ولا سيما حين يحسب أن الناس غافلون عما يريد حين يسعى لمصلحة يظنها خافية على غيره، وليس فيها خفاء..
ويكون البلاء أعم وأتم إذا وجد من ينافق له وينهج نهجه ويدعو إلى مسايرته، فيتلون ويتملق، ويكشف عن حقيقة نفسه، ويعود سريعاً إلى سيرته الأولى في الخداع والمكر.. فيكون الهلاك على أيديهم جميعاً إلا إذا قام من يستطيع ردعهم والتضييق عليهم والضرب على أيديهم وإيقافهم عند حد، والمؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين..
****
وقيل لبعضهم: ما الحزم؟ قال: التفكير في العواقب، والأحمق لرعونته لا يفكر في عاقبة ما يفعل، ولا يهتم بنتيجة فعله، ولو بُيِّنَتْ له عاقبة جهله؛ لأنه أحمق، والحماقة جهل وغرور.. ولذلك قيل: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. وأعجب ما في أمر الأحمق توعُّدُه ووعيده. قال الشاعر:
مهلاً وعيديَ، مهلاً، لا أبا لكمُ
إنّ الوعيد سلاح العاجز الحَمِقِ

وقال الشاعر:
ولستُ مقارِعاً جيشاً ولكنْ
برأيي يستضيء ذوو القِراعِ

وقال حكيم لابنه: كن بحيلتك أوثق منك بشدتك؛ فالحرب حربٌ للمتهور. وقد يقال: لا بد في المواقف الصعبة من قرارات شجاعة؛ ولكنْ لا بد مع الشجاعة من التعقل حتى لا تكون تهوراً، ولا بد من الحوار بدلاً من الصراع والقتال.
وفي حُسن التدبير والاستشارة المخلصة الخالصة منجاةٌ وخير كثير لصاحبها وللخَلْق جميعاً.. ولقد قيل: مَن عمل بغير تدبير، وقال بغير تقدير، لم يَعدم من الناس هازئاً ولاحياً (واللاحي: اللائم الشاتم). ويرافق حُسن التدبير حسن اختيار الأعوان، فلا يخدعهم ولا يخدعونه، ولا يختارهم من الحمقى وقساة القلوب.. ومن الخير له ولغيره ألا يَعْجل وألا يعتدَّ بغلبته وقوته ويُدلَّ بهما.. وقديماً قيل: “لا تدفع الباطل بالغَلَبة إذا أمكنك أن تدفعه بالحجة؛ فلا بد من العقل والتعقل؛ ففي الغفلة مهواة، وفي الجهل سقوط لا قيام بعده؛ فلا بد من التثبت والتروي قبل الإقدام، كيلا تزل الأقدام، ويندم المرء حين لا يجديه الندم.. قال “الشعبي”: “أهاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد”.
والاستعجال صفة لازمة للحماقة والتهور، ملازمة لهما؛ وقد روي عن النبي ص”:(ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا الخرق إلا شانه).
ومن معاني الحماقة الخرق، وهي آفة من آفات الجهل وسوء التصرف وضعف الرأي.
وقال معاوية: ما مِن شيء يَعدِل التثبت. وقال الأحنف بن قيس- ويضرب به المثل في الحِلم-: “عجبتُ لمن طلب أمراً بالمغالبة، وهو يقدر عليه بالملاينة، ولمن طلب أمراً بخُرق، وهو يقدر عليه برفق”.
ومن الطبيعي، بعد كل ما ذكرنا، أن يُعمل المرء فكره في كل أمر فلا يقدم على شيء إلا بعد طول تأمل واستقصاء، فلا يأخذه الصلف والعُجب، ولا يتملكه الغرور وحب الغلبة، فيظن أنه قادر على كل شيء.. وهو غير قادر على نفسه الحمقاء التي لا تميز بين خير وشر، وتجره إلى الخسران المبين، وقد يكون بها نهايته..
****
وأخبار الحمقى والمغفلين كثيرة موفورة، وفي الرجوع إليها طرافة وفائدة. قيل إن رجلاً قصد “الحجاج” ويظهر أن قرقرة بطنه غطت على عقله وشغلته عن الصواب، فقال:
أبا هشامٍ ببابك
قد شمَّ ريح كبابك
فقال الحجاج: ويحك لم نصبت “أبا هشام” وكان من حق أن يُرفع فتقول: “أبو هشام” فقال الرجل- وقد غلبته الحماقة-: “الكنية كنيتي، إن شئت رفعتُها وإن شئت نصبتُها..” وواضح أن هذا ليس بعُذر.. والكلام ملك صاحبه، فإن خرج من فمه أو قلمه صار مِلْك الناس جميعاً!
والأحمق، بحكم تسرعه وغفلته، يَعْجل في الكلام فلا يميز صحيحه من خطئه، ولسانه- كما يقول الحسن البصري- قدام قلبه يتكلم بما عرض له.. وتقول: فكيف إذا تصرف وملأ الدنيا صياحاً وجلبة؟! وقد قيل: لا يميل إلى الجلبة واللجاج إلا من عجز عن الغلبة بالحجاج. ويروى أن “الجرجرائي”- وكان وزيراً للخليفة العباسي المنتصر بالله- كان إذا ناظر شغب وجلب، وربما رفس من يناظره، فقال فيه بعضهم يخاطب الخليفة:
قل للخليفة، يا بن عمّ محمدٍ
أشكل وزيرك إنه ركَّالُ
قد نال من أعراضنا بلسانهِ
ولرجلهِ عند الصدور مجالُ

وقيل: من علامة الحمق سرعة الجواب، وطول التمني، والاستغراب في الضحك (أي المبالغة فيه).
وقيل: تعلم حسن الاستماع، كما تتعلم حسن المقال، ولا تقطع على أحد حديثاً. وقد أحسن أبو تمام إذ قال:
مَن لي بإنسانٍ إذا خاطبتُهُ
وجهِلْتُ كان الحِلْمَ ردُّ جوابِهِ
وتَراه يُصغي للحديث بسمعهِ
وبقلبه؛ ولعلّه أدرى بهِ

****
الأمر إذاً مرهون بالتمهل ووزن الكلام قبل صدوره، ووزن الفعل قبل القيام به والإقدام عليه، والبعد عن الغرور والصلف ففيهما هلاك محتم، وصاحبهما محكوم بسخر الناس منه وتهكمهم به.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. استاذي الفاضل يبدو اننا نكبنا بشر الحمقي فهو كما ذكرت في مقالك فهو يلحق بنفسه وبغيره ضررا كثيرا خاصة اذا ما وجد من ينافقونه ويزينون له اذن من غيره الذي احال هذه البلاد الي اشلاء وغلاء.

  2. بعد قرائتى للمقال اعلاه بديك صفر من عشره ياخى تواضع و اكتب لكل الناس ما بالضروره تنقل من سارتر وكانط او عتريس… المهم البساطه و التواضع.
    رافع نخرتك فوق و عامل دكتور و بتكتب للقله التى لا تفهمك … بالمناسبه المشكله مافى كتابتك المشكله انها انصرافيه و تافه المحتوى و المعنى و تحتاج الى (حبكه) والحبكه ما عايزه دكتوراه أموس تتولا النيجيرى درس حتى السنه الرابعه ابدائى ثم كتب قصص حازات على افضل الجوائز والمبيعات. اوصيك بكثره الاطلاع و الكتابه عشان لما تكبر تبقى كاتب كويس.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..