أخبار السودان

التفاوض بالقطاعي وتضييع الفرص

بابكر فيصل بابكر

إعترافات واضحة لا لبس فيها أدلى بها قياديان بارزان بحزب المؤتمر الوطني : موسى هلال, والحاج عطا المنَّان, ألقيا فيها باللوم على حزبهما في تبني إستراتيجية خاطئة في التفاوض مع الأحزاب والقوى السياسيَّة, وكذلك الحركات المُسلحة في دارفور تقوم على تفتيتها بغرض إضعافها, ومن ثم إلحاقها بالنظام الحاكم.

في حواره الذي بثتهُ قناة “الشروق” الإسبوع قبل الماضي, قال الشيخ موسى هلال إنَّ المفاوضات التي رعتها الدوحة مؤخراً بخصوص سلام دارفور عبارة عن تجزئة للحركات المسلحة لشرائح، وأضاف: “علينا أن نحاور الرؤوس والأصل موجود”, كما إنتقد تقسيم الاحزاب السياسية الكبيرة (الأمة والإتحادي) وقال إنَّ في ذلك إضعافاً لهذه الكيانات يضرُّ بالبلاد وليس الاحزاب فقط.

في الحوار الذي أجرتهُ “السوداني” مع المهندس الحاج عطا المنان, سُئل السؤال التالي حول الإنشقاقات في الأحزاب السياسية : يرى البعض أن هذه الانشقاقات صنعها المؤتمر الوطني؟ فأجاب قائلاً :

( لا أنكر ذلك وأن هناك (ناس) في المؤتمر الوطني لديهم روح إضعاف هذه الاحزاب وهذا حق وانت في الساحة السياسية إن كان لك عدو أو منافس يمكن أن تضعفه ولكن رؤيتي الشخصية في السياسة لا ينبغي ذلك وانه لابد أن تكون هنالك حكومة قوية ومن حزب قوي ومعارضة قوية ايضاً واقولها بصراحة لا يمكن للهلال أن يعيش بدون المريخ بمعنى أن تكون المنافسة قوية في الساحة السياسية ). إنتهى

عندما شرعت الإنقاذ في إضعاف الأحزاب الكبرى, كانت تحرِّكها رؤية ضيقة, قاصرة عن إدراك الواقع الإجتماعي, وعاجزة عن قراءة التاريخ. فهذه الأحزاب التي تطورت عبر أكثر من سبعة عقود من الزمن إستطاعت أن تتجاوز مرحلة “القبيلة” إلى “الطائفة” التي تضمُّ أفراداً من قبائل وأعراق مُختلفة, وصولاً “للحزب” الذي هو أعلى التشكيلات مدنيّة, و كان المرجو أن تصل الأحزاب مرحلة التذويب الكامل للإنتماءات الأولية, فإذا بالإنقاذ ? وعبر سياسة قصيرة النظر- ترتدُّ بالسياسة والمُجتمع إلى الولاء للقبيلة.

وحتي القبائل لم تسلم من سهام الإنقاذ الطائشة, حيث شرعت في ضرب الأعراف والتقاليد الراسخة التي تحكمها, و تقسيمها لبطون وأفخاذ متناحرة, عبر إضعاف قياداتها التاريخية بجلب قيادات موالية للسُّلطة, ومدعومة بأموال الدولة و إمتيازاتها السياسية.

الغريبُ أنَّ كل هذه السياسات العشوائية, و الممارسات البائسة, تصدرُ عن حكومة يدَّعي أصحابها أنهم أبناء مدرسة فكريَّة “حديثة”, غير تقليدية, يقودها مثقفون واعون بسنن التطور التاريخي, وبحقائق المُجتمع.

إنَّ حديث الشيخ موسى هلال يعكسُ رؤية رجلٍ أدرك فشل إستراتيجية “تجزئة” الحركات المُسلحة, والأحزاب السياسية, فهو في حواره مع قناة الشروق دعا صراحة للجلوس مع عبد الواحد محمَّد نور, وجبريل إبراهيم, ومني أركو, رغم خلافه معهم, ولكنهُ يعتبر مخاطبة رؤوس الحركات الكبيرة صاحبة الوجود الحقيقي على الأرض أفضل من الإتفاقيات التي لا طائل منها مع الفصائل التي بلغ عددها العشرات.

عندما شرعت الحكومة في التفاوض مع حركات دارفور في ابوجا كانت هناك حركتان فقط : العدل والمساواة, وتحرير السُّودان, وبفضل سياسة التفاوض “بالقطاعي” التي تبناها المرحوم مجذوب الخليفة وحتى اليوم تناسلت هذه الحركات حتى لم يعُد يُعرف لها عدداً, وهو أمرٌ أشار إليه الحاج عطا المنان في حواره عندما سئل : كيف تنظر للتسوية السياسية في دارفور؟ فأجاب قائلاً :

( أعتقد أنَّ ما طرحته في الأول من أنَّ هناك جهات داخل الحزب أو خارجه تعمل على تفتيت الأحزاب كذلك عملت أيضاً على تفتيت هذه الحركات وهذا التفتيت مضر للغاية لأنك لا تجد من تفاوضه في النهاية تفاوض شخصاً وتوقع معه ويظهر شخص آخر وتفاوض حركة أو فصيلاً وتظهر حركة ثالثة وفصيلاً ثالثاً.
وانا أعتقد أن التفاوض الجاري في الدوحة الآن ورغم المجهود الكبير الذي يبذل فيه لكنه يعقد قضية دارفور يوماً بعد يوم وأنا أقولها بصراحة كان هناك إتفاقاً مع (التحرير والعدالة) وقبلها كانت هناك اتفاقية ابوجا والآن في كل صباح نسمع باتفاقية لحركة جديدة ونسمع عن قسمة الثروة والسلطة وملفات جديدة فلا أدري كيف سيتم دمج هذه الملفات لمعالجة هذه المشكلة والإيفاء بهذه الالتزامات؟ وهذه القضية الآن فيها تحد كبير جداً ) إنتهى

إنَّ حديث المهندس الحاج عطا المنَّان يشرِّح بدقة متناهية أزمة الإستراتيجية التي تتبناها الحكومة في التفاوض مع حركات دارفور, إذ أنها وقعَّت عدداً لا يُحصى من الإتفاقيات مع الحركات ولكنَّ الحرب في دارفور ما تزال مُستمرَّة, والمعارك تحصد أرواح الأبرياء وتهدِّد المدن الكبرى مثل نيالا, والنزوح من القرى والمدن لم يتوقف, وكانت آخر موجاتهِ ما وقع خلال الإسبوعين الماضيين في منطقتي مهاجرية ولبدو.

غير أنَّ حوار المهندس الحاج عطا المنَّان تطرَّق لخلل آخر تُعاني منهُ إستراتيجية التفاوض الحكومي, وهو تضييع فرص التوصل لحلول سياسية لقضايا الحرب برفض ما هو متاح من إتفاقيات, ومن ثمَّ العودة لقبولهِ بأثمان باهظة, وبتنازلات أكبر. وهو ما عبَّر عنهُ عطا المنان بالقول :

( نختلف مع بعض الإخوان في المؤتمر الوطني في التسرع في إتخاذ بعض القرارات كأن يتخذ قرار ويرجع الناس مرة ثانية ويقبلونهُ.
مثل ماذا؟
مثلاً كثير من الإتفاقيات التي تحدث والتفاوض مع بعض المؤسسات أو بعض الدول أو بعض القطاعات أو بعض الحركات فنحن نرفض ونأتي لنقبل بثمن غال جداً وبسقف أعلى وبالتالى أنا جزء من هذا التفاوض في كثير من الأحيان خاصة مع حركات دارفور ومع الأحزاب مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي، وفي الحقيقة نحن نرفض الأشياء في بداياتها وبصورة غير مبررة ونأتي لنقبلها بسقف أعلى ). إنتهى

أبرز الفرص الضائعة التي كلفت, وما زالت تكلف البلاد كثيراً من الأرواح والموارد, هى الإتفاق الذي عرف بإسم إتفاق “نافع-عقار”, والذي كان كفيلاً بإيقاف نزيف الدَّم بولايتي النيل الازرق وجنوب كردفان, حيث رفضت الحكومة ذلك الإتفاق “بصورة غير مبررة” كما يقول المهندس عطا المنان, ثم عادت بعد عامين وقعٌ فيهما تدميرٌ كبير وقتلٌ ونزوح وتشريد للجلوس في طاولة المفاوضات مع الحركة الشعبية.

إنَّ البلاد تدفعُ ثمناً باهظاً جرَّاء أخطاء إستراتيجية الحكومة في التفاوض وفي التراجع عن الإتفاقيات.

لا يُمثل تفتيت الأحزاب السياسية والحركات المسلحة الخطأ الإستراتيجي الوحيد للحكومة, بل يُضاف إليه تجزئة “القضايا” أيضاً, وهو الخطأ الذي تبدى جلياً في إتفاق نيفاشا, وما زال يتكرَّر حتى اليوم, فأزمة السودان ليست فقط في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق, ولكنها أزمة “حكم” تحتاج لحل “شامل” تشترك فيه كافة الأحزاب والقوى السياسية والحركات المُسلحة من أجل الوصول لتسوية سياسية شاملة.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. بسم الله الحمن الرحيم – وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي اله وصحبه اجمعين .وبعد اذا كان عطا المنان ونافع بقولوا الحكومة ما قبلت…يبقي الحكومة ده منو…وده كلام معناه مراكز اتخاذ القرار متعددة الشيء الذي يبعث بعدم الثقة فيما بين اصحاب القرار انفسهم بالتالي ادي الي ضياع البلد وسياسة فرق تسود لاتفيد الوطن بشيء ..احزاب المعرضة مثلا لا توجد احزاب معارضة من الناحية العملية – الاتحاد الديمقراطي..الوالد بره والابن جوه..كذلك حزب الامة..احزاب التوالي وهكذا…الناس الماسكة الزمام الان اذا شبعوا انا بقول يحاولوا يطرفوا شوية لبقية اخوانهم العشمانين عشان برضوا يلقوا ليهم كدة صغيرة كدة قبل الشمس ما تغيب…لانه كثرة الحروب الدئرة في السودان – وبدون سبب يذكر – توحي بقرب اليوم الاخر….يوم يفر المرء من اخيه وامه وابيه وصاحبته …يوم لاينفع مال ولا بنون…وبعدين في ناس حيتحسروا شديد لانهم لم يتمتعوا بكل ما نهبوه من مال وجاه…

  2. دة الكلام الذى ذكرتة يوما ان السياسة التى تتبعها الحكومة فى شق صفوف الاحزاب ستعود عليها وعلى السودان بكارثة .. فيا سياسى الحكومة .. ايهم انفع واجدى ان تتحاور مع كيان واحد وقوى .. ام مع كيان ضعيف وممزق وليس لة تاثير ؟؟ فالقوى اذا كسبتة الى صفك زادك قوى والعكس صحيح .. وذلك يعجل بحل المشاكل .. ولكم تجربة مع الجنوب عندما كان التحاور مع اقوى كيان فية ..وهذة السياسة المتبعة حاليا فى تفكيك الاحزاب وشرزمتها ستكون يوما مثل حبات السبحة وستطوقكم من كل جانب وحينها لن يكون يكون لكم مفر من مقاتلة كل حبات السبحة وهذا مستحيل والان بداء هذا السيناريو بائتلاف قوات الجبهة الثورية وهى من بقاية بعض الاحزاب التى تم تقسيمهاوهى اشد عداوة .. وفى كل ذلك خطر على السودان وستكون الحروب القادمة كل كيان ضد الاخر كما حصل مؤخرا بين فصيلى العدل والمساوة .. ثم كيف سيتم استيعاب كل هؤلاء فى الوزارات والولاة .. انها نهاية السودان انة الصومال الجديد ..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..