الحجاجي يؤرخ لميلاد البطل في السيرة الشعبية العربية

يتناول د. أحمد شمس الدين الحجاجي في كتابه “مولد البطل في السيرة الشعبية” حلقة من حلقات السيرة الشعبية، وهي مواليد البطل. والسيرة الشعبية نوع أدبي من أنواع الأدب العربي الذي أهمل أو أغفل حتى أنه لا يدخل ضمن الأنواع الأدبية المعرفة.

وبدأ العرب يهتمون بدراسة أعمالهم الشعبية منذ الأربعينيات من هذا القرن، تمت معظم المحاولات داخل أروقة الجامعة أو من باحثين قريبة لأروقتها، وكانت أقدم الدراسات محاولة توحيد السلحدار الكشف عن أسباب تقبل الجمهور لمسرحية “الأحدب” التي قدمها “جورج أبيض”، سنة 1912 .. فربط بينها وبين مفهوم الفروسية في القصص الشعبي.

يقول المؤلف: قد يكون مناسبًا أن يبدأ البحث عن مواليد البطل في السيرة الشعبية، أو أي جزء من أجزائها بدراسة المصادر، وإذا كان البحث معتمدًا على نصوص مجموعة من أفواه الرواة فإن دراسة الراوي والرواية يصبح أساسيًا في هذا المبحث، ويمكن تقسيم الرواة الذين لهم علاقة بهذا المبحث إلى قسمين: رواة لم ألتقِ بهم التقاءً مباشرًا، ورواة التقيت بهم التقاءً مباشرًا. وكانت بداية علاقتي العملية بالرواة الشعبيين حين عدت إلى الأقصر عام 1967 للبحث في معتقدات أهل الأقصر عن الأرواح والأشباح، ولأحاول جمع القصص المرتبطة بهذه المعتقدات ثم توقفت بعدها فترة من الزمن، لأعود أول يوليو/تموز عام 1978 إلى محافظة قنا في صعيد مصر، وقد حصلت على منحة من مركز الدراسات الأميركي بالقاهرة لجمع القصة الشعبية في محافظة “قنا” وكان البحث شاقًا عن القصة، فكنت أذهب إلى حفَّاظ التراث القصص لأسجل لهم، وأثناء النصف الأول من شعبان كان مولد أبي الحجاج، وكانت حلقات الغناء منتشرةً في أنحاء مدينة الأقصر.

وأخذت أبحث عن الرواة الذين كنت أعشقهم في صباي. “حمدان” شيخ العرب الهواري الذي عشق القص فخرج على تقاليد أسرته، يقص قصة “عنترة” و”أبي زيد الهلالي سلامة”.

ويضيف المؤلف: ووعي الراوي بدوره هو الذي يجعل منه مؤلفًا للنص لا يفترق في ذلك راوٍ عن آخر، وفي هذا البحث لا يختلف النادي عثمان وعوض الله عن الحاج عبدالظاهر وعبدالسلام حامد. فلم يكن الحاج عبدالظاهر مختلفًا عن الرواة المحترفين، فهو قد صنع النص بلغته وكان استخدامًا لعناصر التكرار اللفظية، ولكنه حرر الحدث. كرر ما حدث لأبي زيد في طفولته وكرره مع ابنه علي أبي القمصان. وعبدالسلام الذي كان يركب عالمًا يطيله حين يشاء ويقصره حين يشاء يولد الكلام ساعة تسجيل النص بطريقة ويركبه بطريقة أخرى حين لا يكون هناك تسجيل للنص.

? الإنسان الأسطوري

ويرى المؤلف: أن النص يبدأ بالفعل الماضي وسيرة سيف تذكر .. إنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والآوان. وسيرة عنترة تبدأ بـ “أسمع أيها السامع ما كان من أحاديث العربان، وما جرى بين يعرب وقحطان وفزارة وذبيان، وعبس وغطفان، وهم مضر وربية وأنمار، وكان أكبرهم يقال له مضر ? وفي السيرة تتلاشى العلاقات بين الماضي والمضارع والمستقبل، وبطل السيرة “لا يشعر بحدود فاصلة بينه وبين الماضي الحاضر في هذا العالم ولا يكاد يميز نفسه كنقطة محدودة في الزمان والمكان”. فالماضي معروف والمستقبل معروف، والمضارع في حالة الأداء التي تعيش في زمن لا ينتهي والحدث يتحرك في قدر مسبق كتب في لوح محفوظ منذ الأزل.. ميلاد البطل.

ويقول المؤلف: تلعب النبوءة دورًا كبيرًا في إخراج البطل من خير الإنسان العادي إلى خير الإنسان الأسطوري، أي من الواقعي إلى الأسطوري، وفيها يدخل دائرة الكون الكبير ليصبح مرتبطًا به ارتباطًا وثيقًا.

ونبوءة البطل هي مدخله إلى عالم الخير والحق، ففي النبوءة يحدد الاتجاه الذي يسير منه مستقبل البطل لتدخله عالم القداسة في الوقت الذي كتب على البطل أن يسير فيه. ونبوءة الميلاد لا تتوقف عند النبوءة بالطبل الخير وإنما تتعداه لتتنبأ بالشخص المواجه للبطل .. والبطل لا يواجه نوعًا واحدًا من الرجال وإنما يواجه نوعين من الرجال:

الأول: وهو البطل المعادي، والثاني: وهو البطل المضاد.

والبطل المضاد يمكن أن ينقسم إلى نوع محارب ونوع لا يحارب هو الذي يدخل دائرة شخصية المحتال، وهو هذا المحتال العدو وليس المحتال الصديق، والبطل المعادي ليس بالضرورة متناقضًا في سلوكه مع البطل، إذ قد يكون بطلًا مثيرًا للإعجاب يملك كل مقومات البطولة وله من المعجبين من جمهور المستمعين عدد لا يقل عن عدد المعجبين بالبطل كشخصية الزناتي خليفة التي تفتأ السيرة وتخلع عليه ألقاب الشجاعة والعظمة فهو بطل الغرب الذي يواجه بطل الشرق أبازيد.

وينقلنا المؤلف إلى شخصية “البطل المصاحب”، فيقول: كما كان للبطل أعداء لدودون لعبوا دورًا في بناء السيرة وفي تطوير حياة البطل منذ ميلاده، فكذلك جعلته يكبر فيتساوى مع دور البطل وقد يصغر من حيث جوهر فعله فلا يتساوى مع بطله، ولكن معظم رفقاء البطل كانوا أبطالًا ومن هنا كان من الخير أن يسمى، فالبطل المصاحب بديلًا عن عبارة رفيق البطل، فالزير كان وحيدًا في مواجهة أعدائه والصديق الوحيد الذي كان نديمًا له قبل أن يبدأ رحلة الثأر هو همام أخو جاس، فتحولت الصداقة إلى عداوة وانتهى إلى أن قتله ابنه.

كما كان الزناتي بطلًا فردًا بلا صاحب يقف معه ويسنده ساعة الشدة، كما يعيش في عالم من الأعداء خارج أسوار تونس وداخل أسوارها يحمل مرارته في ذاته، ولم يرَ أحد أسنانه ضاحكًا أو مبتسمًا، لم يشكُ في حياته إلا مرة لابنته في لحظة مأساوية وقد أردك أن عرش تونس يسقط ليسلم لبني هلال.

والبطل المصاحب قد يكون إنسيًا، وقد يكون جنيًا، فقد لعبت الجنية عاصقة أخت سيف في الرضاعة دور البطل المصاحب له، فقد كان وجوده مسليًا ومثيرًا وقد برر الراوي هذه العلاقة: “وكان في ذلك الزمان وذلك العصر الأوان الأنس يصحبون الجن، والجن يصحبون الإنس ويتحدثون معهم ولا يفزعون منهم ولا يمنعون بعضهم عن بعض، ويظهرون على وجه الأرض إلى زمن ظهور سيد الملاح ورسول الملك الفتاح سيد الأنام ورسول الملك العلام الذي ظهر من بين زمزم والمقام وأبطل السحر والكهانة ببركة الشفيع في العصاة يوم القيامة محمد “صلى الله عليه وسلم”.

? الطفل البطل

ويذكر المؤلف: يعد التعرف هنا تتويجًا للصراع الذي يعيشه الطفل البطل. ويمثل بداية الطريق لوضع اسمه في عالم البطولة ولا يتم التعرف به بطلًا إلا بعد عبوره من اغترابه وغربته فهو اعتراف بعبوره، فالبطل الذي يغترب عن قومه في السيرة الشعبية لا بد أن يعود إليهم مرة ثانية لتتم المواجهة. وتتعدد صور الصراع لتحقيق هذا العبور، فقد تتباعد وقد تتقارب وفق طبيعة المواجهة وطبيعة الأزمة الذي يعيشها البطل، فأزمة أبي زيد تختلف عن أزمة عبدالوهاب. وتتغاير صور هذا الصراع عند الجرو وعند جيل الأيتام، فالجرو لا يصارع قومه لظلمهم إياه وإنما مجمله بعلاقته بهم والأيتام في اغترابهم ليس عن ظلم أهلهم، وأنما عن ظلم أعدائهم لهم، فهم يعودون لا ليواجهوا أهلهم، وإنما ليواجهوا أعداءهم، وكذلك بيبرس، لا يعود إلى أهله في خوارزم وإنما يعود إلى مصر ليحارب أعداء الإسلام.

أما حمزة البلهوان الأمير ابن الملك، فهو الذي يعد الاستثناء الوحيد من بين أبطال السير الشعبية الذي لم يغترب ولم يعد محاربًا لأهله.

في الختام، يقول المؤلف: حاول البحث أن يتناول الميلاد في السير الشعبية ووحدة موضعها ليكشف وحدة في بنائها، فهي تسير في سبع حلقات مترابطة المصادر، وهي عن الراوي، والنبوءة، ونسب البطل، ومواليده، فغربته واغترابه، ثم الحلقة الأخيرة وهي التعرف والاعتراف.

وتوقف هذا البحث عن التعرف والاعتراف لا يعني نهاية البحث في هذا الاتجاه، فهناك جوانب أخرى يحاول الباحث أن يقيمها، وهي مرتبطة ارتباطًا تامًا مع مواليد البطل، فالمواليد هو الفصل الأول من فصولها، يتبعه الفصل الخاص بالعبور، وهذا الأخير متداخل إلى حد كبير مع التعرف والاعتراف، ثم البطل والمصير، والرابع البطل والمرأة، والخامس البطل امرأة، والسادس الأسطورة وبنية الحدث في السيرة والسابع لغة السيرة وكذلك لا يمكن إغفال دور الفرس ليكون واحدًا من فصولها.

يذكر أن كتاب “مولد البطل في السيرة الشعبية” للمؤلف د. أحمد شمس الدين الحجاجي؛ صدر في طبعة جديدة عن مكتبة الأسرة بالقاهرة ويقع في 237 من القطع المتوسط.
(خدمة وكالة الصحافة العربية).

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..