كيف يمكن تمييز دماغ القاتل؟

هل تحدد العوامل الجينية، وليس التربية، نزعتك إلى التحول إلى مجرم؟ كان أدريان راين مقتنعاً بذلك وقد تصادم مع الأوساط العلمية حين تشجّع على كسر هذا النوع من المحرمات. تيم آدمز بحث عن إجابة في «ذي أوبزيرفر».

في عام 1987، انتقل أدريان راين الذي يعتبر نفسه خبيراً في علم الجريمة وطب الأعصاب من بريطانيا إلى الولايات المتحدة. قرر الهجرة لسببين: أولاً، شعر بأنه لن يحقق شيئاً إذا بقي في مكانه. كان راين الذي نشأ في دارلنغتون ويعمل الآن كأستاذ في جامعة بنسلفانيا يبحث عن الأساس البيولوجي للسلوك الإجرامي الذي كان على الأرجح أحد أبرز المحرمات من بين جميع الضوابط الأكاديمية بما أنه يعكس آثار علم تحسين النسل من الحقبة النازية.
في بريطانيا، كان يُسمح بأن تكون أسباب الجرائم اجتماعية وبيئية حصراً، أو نتيجة تربية شائبة أو فقيرة من دون أن ترتبط بطبيعة حتمية وجينية. أما التحدث عن معطيات أخرى، كما فعل راين الذي درس تحت إشراف ريتشارد دوكينز واقتنع بتأثير التطور على السلوك، فكان يعني حرمان الذات من التمويل لمتابعة الأبحاث. في الولايات المتحدة، كان هامش الانفتاح أوسع في هذا المجال. نتيجةً لذلك، توافرت أموال إضافية لاستكشاف الموضوع. كذلك، برز سبب آخر دفع راين إلى التوجه نحو كاليفورنيا: كان عدد القتلة هناك أكبر من العدد الموجود في بلده الأم.
حين بدأ راين بفحص أدمغة القتلة في السجون الأميركية، كان أحد أوائل الباحثين الذين يطبقون التقنيات العلمية المتطورة لتصوير الدماغ في مجال الإجرام العنيف. لكن بقيت دراسته الشاملة التي نشرها في عام 1994 مجرد عينة صغيرة. فقد أجرى فحوصات عبر التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني على 41 قاتلاً مُداناً وألحقها بجماعة مرجعية «طبيعية» تتألف من 41 شخصاً في العمر نفسه ولهم المواصفات عينها. صحيح أن الجماعة المرجعية كانت محدودة، لكن بدت الصور الملونة التي أظهرت نشاطاً أيضياً في مختلف أجزاء الدماغ لافتة مقارنةً بغيرها. أظهرت أدمغة القتلة تراجعاً ملحوظاً في تطور قشرة الفص الجبهي المسؤولة عن «الوظيفة التنفيذية» في الدماغ مقارنةً بالجماعة المرجعية.

عواطف أساسية

بفضل تطور طريقة فهم علم الأعصاب، تبين أن هذا الخلل قد يرفع احتمال اللجوء إلى سلوكيات معينة: تراجع السيطرة على الجهاز الحوفي الذي يولد العواطف الأساسية مثل الغضب والاستياء، وزيادة مظاهر الإدمان على أخذ المجازفات، وفقدان السيطرة على الذات، وضعف مهارات حل المشاكل، أي جميع الخصائص التي تجعل الشخص يميل إلى ارتكاب العنف.
لكن حتى منذ عقدين، كان يصعب نشر هذا النوع من النتائج. قدم راين دراسة أقل إثارة للجدل في عام 1994 أمام مجموعة من زملائه، وقد أظهرت أن خليطاً من مضاعفات الولادة ورفض العاطفة يرتبط بميل الأفراد إلى ارتكاب أعمال العنف بعد 18 سنة، لكن اعتُبر البحث «عنصرياً وله دوافع إيديولوجية». ووفق مجلة Nature، كانت تلك الدراسة مجرد دليل قوي وإضافي على أن {الضجة التي تحيط بمحاولات إيجاد الأسباب البيولوجية للمشاكل الاجتماعية ستستمر}. لكن منذ 15 سنة، طرح راين بتشجيعٍ من صديقه جوناثان كيلرمان، خبير في علم نفس الأطفال وكاتب عن الجرائم، اقتراحاً لإصدار كتاب حول عدد من اكتشافاته العلمية، لكن لم يقبل به أي ناشر. لم يظهر ذلك الكتاب الذي حمل عنوان {تشريح العنف} (The Anatomy of Violence) قبل الآن، وهو عبارة عن بحث واضح واستفزازي بنسبة حذرة يرتكز على الأدلة المتوافرة بعد 35 سنة من الدراسات التي أجراها راين.
يبدو أن التأخير ينجم عن عداوات إيديولوجية. على رغم قوة تأثير راين، لا تزال أبحاثه عن «علم الجريمة والأعصاب» ملطخة بالنسبة إلى البعض بسبب ارتباطها بعلم فراسة الدماغ من القرن التاسع عشر، أي القناعة بأن السلوك الإجرامي ينجم عن خلل في التنظيم الدماغي ويتضح ذلك من شكل الجمجمة. طرح الفكرة في البداية فرانز جوزيف غال الذي ادعى أنه حدد «أعضاء» دماغية متطورة بشكل مفرط أو غير متطورة تكون كفيلة بإنتاج شخصية معينة: إنه عضو التدمير والجشع وغيرهما من صفات مشابهة كان يتعرف إليها الخبراء في علم فراسة الدماغ من النتوءات في الرأس. كان هذا العلم مؤثراً جداً في القانون الجنائي في الولايات المتحدة وأوروبا خلال القرن التاسع عشر، وغالباً ما كان يُستعمل لدعم نماذج السلوك الإجرامي المبنية على العنصرية والاختلاف الطبقي.

قاتل متسلسل

تطور هذا التفكير المثير للجدل في عام 1876 على يد الجراح الإيطالي سيزار لومبروزو بعدما شرَّح قاتل متسلسل ومغتصب. اكتشف لومبروزو جزءاً أجوف من دماغ القاتل في منطقة المخيخ، فاعتبر أن المجرمين العنيفين هم نتاج نوع بشري يكون أقل تطوراً ويمكن التعرف إليه انطلاقاً من الخصائص الجسدية الخاصة بالقرود. لكن سرعان ما أدى التلاعب السياسي بتلك الفرضيات المرتبطة بعلم تحسين النسل إلى اعتبارها غير شرعية وغير موثوقة.
بعد الحرب العالمية الثانية، باتت الجريمة تُنسَب إلى العوامل الاقتصادية والسياسية أو الاضطرابات النفسية لكن ليس المعطيات البيولوجية. بفضل التقدم الحاصل في علم الوراثة وعلم الأعصاب، بقي ذلك الإجماع هشاً ولم يبدأ اختبار تداعيات ذلك التقدم العلمي على المجال القانوني (ومفاهيم مثل الذنب والمسؤولية) قبل الحقبة الراهنة. يرتكز على عدد من دراسات تشير إلى وجود روابط بين تطور الدماغ (وبالتالي إصابة الدماغ أو أي خلل فيه) والعنف الإجرامي. بدأت فِرَق الدفاع القانوني، لا سيما في الولايات المتحدة، تستعمل منذ الآن تقنيات المسح الدماغي وعلم الأعصاب كأدلة تخفيفية في محاكمة المجرمين العنيفين ومرتكبي الاعتداءات الجنسية. في هذا المجال، يعتبر راين أن الوقت حان لعقد نقاش عام ومناسب حول تداعيات علمه.
كان جزء من سلوك راين مستمداً من خلفيته. أثناء اختبارات القتلة الذين أخضعهم للدراسة، فحص مواصفاته الخاصة عبر تقنية التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني وتفاجأ حين اكتشف أن بنية دماغه تتقاسم خصائص مع القتلة المضطربين نفسياً أكثر من نقاطه المشتركة مع الجماعة المرجعية.
يضحك فوراً عند سؤاله عن وقع ذلك الاكتشاف عليه: «حين تكتشف أن نتيجة مسح دماغك تشبه نتيجة فحص قاتل متسلسل، لا مفر من التعجب والتفكير بالأمر لبرهة». برزت عوامل أخرى أيضاً: لطالما كانت ضربات قلبه متدنية (أثبتت أبحاثه أن هذه الظاهرة مؤشر حقيقي على الميل إلى العنف أكثر مما يُعتبر التدخين مثلاً سبباً لسرطان الرئة). في طفولته، لطالما واجه مشكلة تشقق الشفتين، وهو دليل على نقص الريبوفلافين (مؤشر آخر يصبّ في الخانة نفسها). كذلك، هو وُلد في المنزل وكان مصاباً بمتلازمة الطفل الأزرق. لا شك في أن جميع هذه العوامل التي تعكس مشاكل في النمو قد تثير قلق الباحثين العاملين معه.
يقول راين: {أنا في خانة المشبوهين إذاً. واجهتُ بعض المشاكل فعلاً، فقد دخلتُ المستشفى في عمر الخامسة لضخ معدتي لأنني شربت كمية كبيرة من المواد الكحولية. بين عمر التاسعة والحادية عشرة، لم أكن اجتماعياً وانخرطتُ في عصابة، وبدأت أدخن، وكنت أثقب إطارات السيارات وأحرق صناديق البريد وأتعارك مع الناس مع أنني كنت صغيراً جداً. لكن في تلك المرحلة، تعبتُ من ذلك الوضع. في عمر الحادية عشرة، تنقلتُ بين مدارس عدة وزاد اهتمامي بالدراسة وأصبحتُ ولداً مختلفاً. مع ذلك، رحتُ أفكر في مرحلة التخرج بالموضوع المناسب لأبحاثي، فراجعتُ الدراسات التي كتبتها فكان أفضلها يتمحور حول المعطيات البيولوجية عند المرضى النفسيين. أبهرني ذلك الموضوع لأنني لطالما تساءلت عن سبب سلوكي المتهور في المرحلة الأولى من حياتي}.

أسباب ومعطيات

حين بدأ راين يستكشف تفاصيل الموضوع، راح يحلل الأسباب التي جعلته باحثاً عن النزعة الإجرامية العنيفة بدل أن يصبح مجرماً عنيفاً. (تشير دراسات حديثة إلى أن معطياته البيولوجية كانت لتدفعه نحو مهن أخرى، كأن يصبح خبيراً في تفكيك القنابل أو مديراً تنفيذياً في إحدى الشركات أو صحافياً، وهي مهن تجذب الأفراد الذين يتمتعون بخصائص «الاضطرابات النفسية»). على رغم بنيته الدماغية غير المألوفة، لم يكن معدل ذكائه منخفضاً مثل القتلة الآخرين ولم يكن يعاني أي خلل معرفي. مع ذلك، حين عمد طوال أربع سنوات إلى مقابلة الناس في السجون، كان يتساءل في معظم الوقت: «ما الذي منعني من أن أكون على الجانب الآخر من القضبان؟».

مسح دماغي

كانت سيرة راين الذاتية عاملاً تصحيحياً مفيداً للفكرة الشائعة التي تعتبر أن معطياتنا البيولوجية تحدد مصيرنا وأن المسح الدماغي يكشف عن هويتنا. حتى عندما جمع راين الأدلة التي تشير إلى أن الناس ليسوا أصحاب تفكير حر أو أشخاص منطقيين بقدر ما يتصورون (بمعنى أنهم تحرروا من الضوابط التي تفرضها الجينات الموروثة ومعطيات التشريح العصبي)، لم ينسَ يوماً ذلك الدرس. لكن تتعلق المسألة العالقة بمعرفة طريقة التعامل مع هذه «المؤشرات البيولوجية» في حال ثبت وجودها وتبين أنها تؤثر فعلاً على الشخصية (حين تصبح الأدلة غير قابلة للشك).
قد نفضّل عدم القيام بأي شيء والاكتفاء بتجاهل هذه المعلومات على اعتبار أن جميع الأفراد لديهم الدماغ نفسه والقدرة نفسها على القيام بخيارات أخلاقية في ما يخص الجرائم كما نفعل الآن. لكن يوضح راين: «قد يقول علماء الاجتماع أننا إذا ركزنا على هذه المعطيات البيولوجية أو اعترفنا بها، فنحن نغفل بذلك عن الأسباب الأخرى للسلوك الإجرامي: الفقر، الأحياء السيئة، سوء التغذية، غياب التربية… أي جميع العوامل التي يجب تغييرها. تلك المخاوف صحيحة. لذا حارب علماء الاجتماع هذا العلم لفترة طويلة».
لكن تعني تداعيات علم الجريمة والأعصاب (تختلف عن التصنيفات الأولية التي وضعها علم فراسة الدماغ مثلاً) أن الخيار المتاح لا يقتصر على التربية و/أو الطبيعة، بل إنه عبارة عن فهم معقد لرد فعل وظائفنا البيولوجية تجاه البيئة السائدة. عند قراءة دراسة راين المبنية على أحدث الأبحاث التي تتطرق إلى ردود الفعل هذه، يبدو لي الاستنتاج القائل إن العوامل البيئية تغيّر البنية الفيزيولوجية للدماغ جديداً ومفاجئاً. نميل إلى التحدث عن نمو الطفل استناداً إلى أفكار مبهمة بدل الاتكال على البنى الدماغية الملموسة. لكن كلما دققنا في البيانات، تتضح أدلة تشير إلى أن سوء المعاملة أو الإهمال أو سوء التغذية أو التدخين وشرب الكحول خلال فترة الحمل تنعكس فعلياً على طريقة تصنيع تلك الروابط العصبية الصحية التي توجه السلوكيات المرتبطة بالنضج والسيطرة على الذات والتعاطف. هذا العلم اسمه «علم التخلق»، أي نهج البيئة في تنظيم طريقة التعبير عن رمزنا الجيني الفطري.
يعتبر راين أن إحدى نتائج علم التخلق قد ترتبط بواقع أن «علماء الاجتماع قد يحققون المكاسب من هذا الوضع. إذا شاهد أي طفل جريمة قتل في الحي الذي يسكن فيه، فمن الملاحظ أن علامات اختباره حول مجموعة من التدابير تتراجع. ثمة ما يحصل في الدماغ نتيجة تلك التجربة العنيفة التي تؤثر على الإدراك. بالتالي، يمكن أن يثبت علماء الاجتماع صحة فرضياتهم في هذه الحالة. يمكنهم أن يدّعوا قدرتهم على إثبات أن تلك العوامل الاجتماعية والبيئية تسبب خللاً دماغياً يؤدي إلى بعض المشاكل الحقيقية والقابلة للقياس».
لكن ثمة صعوبة واحدة تعيق تبنّي هذه الفكرة المرتبطة بعلم التخلق في عالم الجريمة وهي تتعلق بدرجة فاعلية هذه العوامل في المحاكم القانونية. برزت قضايا لافتة في السنوات الأخيرة حيث أدت اضطرابات عصبية معينة ناجمة عن كدمات في الجمجمة أو أورام كامنة إلى تغييرات ملحوظة في الشخصية والسلوكيات (تقع مسؤولية الجرائم العنيفة أو الجنسية على ذلك الاضطراب وليس الفرد بحد ذاته). في معظم هذه الحالات، اعتبر القضاة أن تصوير الدماغ طريقة مؤذية وأن الصور الملونة تجذب هيئة المحلفين وتكون عاطفية أكثر منها علمية. لكن إذا أصبح المسح العصبي إجراء روتينياً وإذا زادت دقة علم الأعصاب، ألن نصل إلى مرحلة تصبح فيها أكثر السلوكيات عنفاً (مثل مرتكبي تفجيرات بوسطن أو مرتكب مجزرة نيوتاون) شكلاً من الأمراض بدل اعتبارها جريمة في المحاكم؟
يظن راين أن الوضع قد يصل إلى ذلك الحد. حتى إنه يشبّه ذلك التحول بتغيّر نظرتنا إلى السرطان الذي كان يُعتبر حتى الفترة الأخيرة «ذنب» المريض بسبب بعض الخصائص القمعية في شخصية الفرد. يسأل راين: «إذا صدّقنا فكرة أن العوامل التي لا يسيطر عليها بعض الأشخاص، مثل المعطيات البيولوجية، ترفع خطر تحوّلهم إلى مجرمين، فهل يمكن أن نغفل عن ذلك بكل بساطة؟ ما ذنب الطفل البريء إذا اتجه في مرحلة لاحقة من حياته إلى ارتكاب الجرائم بعدما كانت والدته تفرط في التدخين خلال فترة الحمل؟ وإذا تعرض الطفل لإصابة حادة أو وُلد مع نبضات قلب منخفضة وغير طبيعية، بأي قسوة يمكن أن نعاقبه؟ كيف يمكن أن نحدد درجة مسؤوليته؟ تتزايد الحجج التي تعتبره غير مسؤول بالكامل عن أفعاله. لذا حين نقرر طبيعة العقاب، ألا يجب أن نفكر بمؤسسات إصلاحية بدل السجن؟».

مرض بيولوجي

لكن تبرز فكرة أخرى في هذا المجال: إذا بدأنا ننظر إلى الجريمة على أنها مرض بيولوجي، فما مصير العدالة الجزائية؟
أُجبر راين نفسه على مواجهة هذه المعضلة حين وقع ضحية جريمة عنيفة. يذكر في كتابه: حين كان في عطلة في تركيا منذ بضع سنوات، دخل لص إلى غرفة نومه وحاول قطع حنجرته بسكين. فقاوم راين المعتدي. لكن حين وقف في صباح اليوم التالي أمام مشبوهَين محتملين في مركز الشرطة، اعترف بأنه لم يكتفِ باختيار صاحب الشكل الذي يبدو أقرب إلى المجرم (اعترف الرجل لاحقاً بالجريمة تحت الإكراه)، بل إنه أراد أيضاً أن يشاركه الرعب الذي شعر به.
عند سؤاله عن رد فعله، أجاب راين: «لم أشعر بالفخر حين اكتشفتُ بأنني كنت أحمل مشاعر مختلطة. ربما نشعر كلنا بالمثل في وضع مشابه. كان الجانب المنطقي فيّ يعلم أنني إذا أجريتُ مسحاً دماغياً لهذا الرجل ووجدت خللاً في الفص الجبهي ونبضات قلب متدنية وخلفية من الإهمال، فلا شك في أني كنت لأعذره قليلاً. عند فهم خبايا الأمور، من الأسهل أن نرحم الآخرين. لكنّ الصوت العاطفي في رأسي كان مختلفاً للغاية: فقد كان يحثني على قطع حنجرته مثلما أراد قطع حنجرتي. ذلك الحدث غيّرني وحوّلني من شخص يعارض بشدة عقوبة الإعدام إلى شخص لا يمكن استبعاده من هيئة المحلفين في قضية قد تستدعي إصدار حكم بالإعدام في الولايات المتحدة. أظن أن عقلي سيسترجع تلك الحادثة دوماً، بمعنى أني سأتخبط بين الفهم العلمي لأسباب الجريمة مقابل التصرف كإنسان بشري في مجتمع يعج بردود الفعل الفطرية تجاه الأشخاص الذين يرتكبون جرائم مشينة».
يشير راين في نهاية كتابه إلى توقعات مستقبلية متنوعة مقتبسة من نظريات جورج أورويل عن هذا العلم، وهي عبارة عن «منحدر أخلاقي زلق» من تدخلات تتصور في نهاية المطاف نشوء مجتمع يقيّم الخطر البيولوجي عند جميع الأفراد ويحتجز بشكل استباقي كل من يميل إلى ارتكاب الجرائم (نسخة مصغرة من غوانتنامو استناداً إلى أدلة واضحة). لا يدافع بأي شكل عن تلك الممارسات، وحين سُئل عما إذا كان سيجري الفحص لابنيه (11 سنة)، قال إنه سيفعل ذلك على الأرجح: «لو كانت الفرصة متاحة لفحص التلامذة في المدارس أو عبر برنامج الممارسة العامة، هل كنتُ لأفعل ذلك؟ إذا كان أطفالي يواجهون مشاكل واضحة، لكنتُ رغبت في معرفة تفاصيل حالتهم وطريقة التعامل معهم. إذا أضفنا عوامل مثل تنظيم العواطف والسيطرة على الاندفاع، وهي عوامل خطر على السلوكيات، فسأرغب كأب في معرفة ما يمكن فعله للمساعدة على تحسين الوضع».
لا نبالغ إذا تصورنا أن هذه الفحوصات ستصبح روتينية يوماً بقدر برامج التحصين: لكن سيتعلق السؤال الأهم حينها بطريقة الرد على النتائج. يحبذ راين فكرة برامج الصحة العامة لمنع الجرائم: «يبقى دماغ المراهق مرناً جداً. تتعدد الأدلة الوافية التي أنتجتها اختبارات المراقبة العشوائية والتي تعتبر أنّ الأوميغا 3 (زيت السمك) لها أثر إيجابي على المعتدين الشباب، ويبدو أن النزعة إلى إدراك المسؤوليات تحسّن السلوك والبنى الدماغية».
بعد كل ما تقدم، لا يمكن أن نمنع أنفسنا من التفكير: حبذا لو كان الأمر بهذه البساطة!

إذا كان علم الأعصاب يطرح أسئلة واسعة وكثيرة في خضم سعيه إلى تحديد مستوى الذنب بعد ارتكاب أي جريمة، فماذا عن دوره في منع الجرائم؟ لا تبدو الأسئلة في هذا المجال أقل إثارة للجدل.
منذ سنتين تقريباً، طرح المذيع جيريمي باكسمان هذا النوع من الأسئلة على شامي تشاكرابارتي، مديرة المركز الوطني للحريات المدنية «ليبرتي»، خلال برنامج Newsnight: «إذا كان العلم يستطيع توقع هوية من سيرتكب جريمة عنيفة بدقة تامة، فهل من المشروع التحرك قبل ارتكاب تلك الجريمة؟».
لم تتردد تشاكرابارتي في الإجابة فقالت: «في مجتمع ليبرالي خاص بالبشر، وليس الحيوانات، جوابي على سؤالك سيكون: لا».
لكن إذا كان التدخل يستطيع منع جريمة نيوتاون أو دانبلين، فهل يمكن أن يكون أحد متأكداً من إجابته لهذه الدرجة؟ ستبقى الحقيقة مبهمة دوماً لأن أدق جوانب علم الأعصاب لن تنتج يوماً توقعاً مثالياً عن السلوك البشري. لكن في حال وجود احتمال بتكرار الاعتداءات مثلاً، هل سيصبح العلم في مرحلة معينة دقيقاً بما يكفي كي يسمح بإجراء مسح روتيني لمرتكبي الاعتداءات الجنسية؟
يجيب راين: «في الحقيقة، تقوم مجالس الإفراج المشروط بهذا النوع من القرارات المبنية على التوقعات المسبقة يومياً في ما يخص السجين أو المجرم الشاب الذي سيتم إطلاق سراحه في مرحلة مبكرة استناداً إلى أدلة هشة. في الوقت الراهن، تبقى التوقعات مبنية على عوامل اجتماعية وسلوكية وعلى الوضع الاجتماعي وسجل الماضي. لكن لا يتم اللجوء إلى التدابير البيولوجية. مع ذلك، أظن أننا إذا أضفنا تلك العناصر إلى المعادلة الآن، فيمكن أن نحسّن صحة التوقعات بكل بساطة».
يذكر راين دراستين حديثتين عن تصوير الدماغ لدعم هذا الرأي. حصلت الدراسة الأولى في نيو مكسيكو حيث خضع السجناء لمسح دماغي بعد إطلاق سراحهم. يقول راين: «ما يكتشفونه هو التالي: إذا كانت وظيفة القشرة الحزامية الأمامية، وهي جزء من الجهاز الحوفي، أدنى من المستوى الطبيعي قبل إطلاق سراح السجين، يميل الفرد بنسبة مضاعفة إلى العودة إلى السجن في السنوات الثلاث اللاحقة. يكون ذلك المؤشر أكثر دقة من جميع العوامل الاجتماعية الأخرى». تشير دراسة ثانية على ما يبدو إلى أن تراجع حجم اللوزة (جزء دماغي أساسي لتشغيل الذاكرة والعاطفة) عند السجين الذي أُطلق سراحه يعني أنّ احتمال أن يرتكب هذا الأخير اعتداءاً جديداً يكون أعلى بثلاث مرات: «إنها نتائج دراستين فقط ولكنها بدأت تثبت صحة هذا المفهوم: إذا أضفنا العوامل العصبية إلى المعادلة، سنقدم أداء أفضل لتوقع السلوكيات مستقبلاً».

الجريدة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..