في بيتنا جنوبي !ا

في بيتنا جنوبي !!

عبد الباقي الظافر

كنت صغيراً.. أخبرتني أمي أن علينا الاستعداد ليوم (المطعنين).. كنت أعرف أن قريتي (حسين نارتي) كل عام تحتفل بيوم (الميتين).. في هذا اليوم يتوسع أهلي في الخيرات.. يحسنون صنع الطعام لأطفال القرية.. كل ذلك تحت بند صدقات للذين توفاهم الأجل.. كأنما أمي أدركت حيرتي.. بدأت تشرح أن عدداً من أقاربنا قتلوا طعناً في الجنوب.. شرحت حوادث أغسطس 1955.. ارتسمت في دواخلي صورة سالبة للجنوبي الذي لا يرحم.. الجنوبي الذي قتل أعمامي وأخوالي. قريتي الحبيبة كانت متجانسة في تركيبتها السكانية.. الذين شقوا عصا الطاعة على التقاليد وتزوجوا من القرى المجاورة كانت وطنيتهم تحت التساؤل.. كلمة متزوج من (غريبة) تمنحك ألف إجابة لتبرير سلوك مشين ارتكبه فرد من القرية.. رغم ذلك كان من بين ظهرانينا نفر من أهل الجنوب.. معظمهم جاء مع تلك الأسرة التي كانت قد أقامت في مدن الجنوب.. الصورة السالبة التي اختزنتها من يوم المطعنين.. كانت تصطدم بحال هؤلاء الشباب السمر بيننا.. (طالب) لا تميزه عن أبناء القرية إلا بلكنة جنوبية أبت أن تفارق لسانه.. (سايمون) كان يرفع الأذان عند كل صلاة.. (أدر) يستأمنه أهلي على الزرع والضرع.. خميس تزوج من قرية مجاورة.. عاشوا بيننا.. أحبوا القرية كما نحب وأكثر. عندما بلغت الحلم كنت قد زحفت إلى مدينة كوستي.. المدينة التي تحتضن الميناء النهري.. البلدة التي تشقّها شبكة طرق.. وتنشط بين جنبيها حركة السكة حديد.. في الدراسة الثانوية صادفنا إخوة من الجنوب.. طلاب جعلتهم الحرب نازحين.. كان وراء كل طالب قصة محزنة.. همس أحدهم يوماً عن حكاية الحرب التي شبت في أطراف مدينة كوستي.. نزاعاً بين قبيلة نيلية وأخرى بدوية.. لم يكن لديّ استعداد للسمع.. لاحقاً عرفت أن مدينة بابنوسة قد شهدت فاصلا مماثلا وكذلك الضعين. أنا الآن طالب راشد بجامعة الخرطوم.. الجنوب عندي بلد أرضه بكر.. تشقّه أنهار.. كل شيء فيه صالح إلا أهله.. لا تجد حرجاً أن تسمع أحدهم يقول لك ليت الجنرال فلان حرق الجنوب وأهله.. رأيت أرض الحرب.. عجبت من بؤس الحياة.. استغربت كيف يحارب هؤلاء خمسين عاما.. هنالك شيء خطأ.. أيقنت أن الانفصال قد يجلب السعادة المطلوبة.. جعلت بحثي للتخرج في هذه الفرضية.. وكان مثل هذا الحديث وقت ذاك خيانة لدم الشهداء وصفعة للمشروع الحضاري. بعد هجرتي المحدودة لأمريكا.. تمكنت من التفكير بعقل فرد من الأقليات.. البيض كانوا يهيمنون على كل شيء.. التاريخ الأمريكي كان حرباً وظلماً وتفرقة عنصرية.. الآباء المؤسسون أدركوا أن الكراهية لا تبني وطنا.. وأن دولة الظلم عمرها ساعة.. وأن الأقليات لا تنشد إلا الاحترام والمساواة.. الدستور الأمريكي صمم على ألاّ يشعر مواطن أن البلد له خالصة دون سواه.. حتى الخطاب السياسي يحفل بعبارة هذا البلد ( ) في مقاربة (البلد بلدنا). عندما عدت لوطني أدركت لماذا كان سايمون وطالب وتومبي يحبون قريتي.. وجدوا الاحترام فمنحونا الحب.. عندما فكرت في هذه النظرية كان الوقت متأخراً جداً.. في شارع الحرية توجد مكاتب منبر الانفصال.. أكثر الصحف توزيعاً كانت تدعو إلى شقّ الوطن.

التيار

تعليق واحد

  1. سوقنا سواقة الي مهاتراتكم مع الانتباهة الله يخسف بيكم الارض الاتنيين (التيار الانتباهة)

  2. قال أحد الأعراب للنابغة: أريد أن أكون شاعرا.
    قال له النابغة : احفظ ألف ألف بيت ثم اتني
    عاد الأعرابي وقال : لقد حفظتها.
    قال النابغة : انسها .
    عاد الأعرابي قال : لقد نستها .
    قال النابغة : أنت الآن شاعر.

    لست أنا النابغة ولست أنت الأعرابي .
    لذلك أقول لك : اكتب مليون مليون مقال . ثم لا تأتني.
    فربما تصبح كاتبا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..