الثابت والمتحول في النظام والمعارضة.. من لغة “ابو جنزير”الي لغة البندقية

صديق محيسي

في الخامس عشر من يونيو 1995 اجاز مؤتمر مؤتمر القضايا المصيرية المصيرية الذي انعقد بالعاصمة الأريترية اسمرا مشروعية العمل المسلح الذي تقوم به فصائل التجمع الوطني الديمقراطي من اجل اسقاط النظام وفق الآليات التي اتفق عليها. وتم الاتفاق علي تشكل لجنة سياسية عسكرية عليا تقوم بالتنسيق والاشراف عـلى تنفيذ برامج تصعيد النضال واسقاط النظام

جاءت هذه الفقرة في البيان الختامي الذي اصدر يومذاك التجمع الوطني الديمقراطي فاتحا الطريق لأول امام خيار جديد امام القوي السياسية التقليدية ,وهو الخيار العسكري الذي كانت تحتكره فقط الحركة الشعبية .

جغرافيا وبيئيا يختارالجنوبيون الغابة كبيئة نشأوا فيها يدخلونها كلما اختلفوا مع الحكومات الشمالية وطالبوا بالأنفصال , بينما يختار الشماليون ميدان ابو جنزيركرمز سياسي للتعبير عن احتججاتهم , ولكن منذ وصول الجبهة الاسلامية الي الحكم عبر إنقلابها المعروف لم يعد الخيار الثاني مطروحا بعد ان اعتمدت نظرية التمكين وفلسفة القوة في حكم البلاد, وعطلت ادوات الحوار الديمقراطي بعد اطاحة الديمقراطية نفسها, بل ان رئيس النظام يطلب في كل مرة من المعارضة ان تلجأ الي السلاح اذا ارادت استرداد السلطة , وقد اصبحت هذه الدعوة ثقافة ومرجعية للنظام يمارسها في سيرته السياسية ومما يزيد اصرار النظام علي هذا المنهج إ حساسه العميق بان الموافقة علي شروط المعارضة لتفكيك دولة الحزب الواحد هو معناه الإنتحار الأختياري,وهذا ما لم ولن تقدم عليه هذه السلطة حتي لو ادي ذلك الي مزيد من تقسيم السودان والفوز بمساحة ارض تحكمها كمثلث حمدي الذي يلوح في الأفق.ومثلما يكتب علي بعض صناديق البضاعة تعبير قابل للكسر فأن نظام الانقاذ سيكون قابلا لهذه العملية اذا هو وافق علي تفكيك نفسه بشروط ليست هي شروطه.

قلنا في عام 1995وافق التجمع الوطني الديمقراطي علي اعتماد الكفاح المسلح ضمن اجندة سلمية لإسقاط النظام , ولكن هل كانت تلك الموافقة صادرة عن قناعة حقيقية بهذا الأسلوب من العمل السياسي ؟,هل كانت موافقة الميرغني والصادق المهدي ناتجة عن جدوي هذا الإختيار ايمانا منهما بأن ما اخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة ؟وقبل الأجابة علي السؤالين دعونا نفحص تلك المرحلة محليا وإقليميا ودوليا .

محليا كان دخول الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في تحالف مع تنظيم شمالي للمعارضة هي حدث تاريخي وهام بكل المقاييس, إذ لم يحدث مثل هذا التطور طوال تاريخ المعارضات الجنوبية المسلحة للأنظمة الشمالية مدنية كانت ام عسكرية , وطبقا لخصوصية القضية الجنوبية ايديولوجيتها وتطبيقاتها فلم يكن الجنوبيون يحتاجون الي مثل هذا النوع من التحالف لأنهم اصلا لا يثقون في الشماليين وينظرون اليهم كإسياد يحكمون عبيدا ,وهو إحساس باطني عميق لايزال موجودا حتي بعد إنفصالهم وقيام دولتهم ,غير ان مادفع الي ذلك التحالف هو ثلاثة اسباب فيما اري, السبب الأول هو ان مجيء نظام ديني الي الحكم لأول مرة في تاريخ السودان , وفرضه خطابا إقصائيا لغير المسلمين هو الذي عجّل بدفع قرنق الي حظيرة المعارضة الشمالية في اسمرا مشاركا اياها الرؤية الواحدة لخطورة وصول الأخوان المسلمين الي السلطة عبر الإنقلاب العسكري, وفي الوقت نفسه نفي التهمة عن تنظيمه بانه تنظيم اثني عنصري ,وتقديم الحركة الشعبية كوعاء وطني واسع يمكن ان يكون بين صفوفه شماليون , وقبل كل ذلك تغير الخطاب السياسيى لقرنق من تحرير الجنوب كقضية عرقية,الي تحرير كل السودان كقضية وطنية شاملة , او ما اطلق علية هو السودان الجديد,

اما المعارضة الشمالية فقد نظرت الي إنضمام الحركة الشعبية اليها بكونها عنصر قوة عسكرية جديد يمكن ان يعجّل بسقوط النظام, و في عام 1979 ووسط احتفاء كبير في اوساط المعارضة وصل الصادق المهدي زعيم حزب الامة الي اسمرا في عملية هروب عبر الحدود اطلق عليها اسم “يهتدون ” ومن الطابق الثامن في فندق نيالا وفي مؤتمرصحافي مشهور اعترف انه مارس “لجهاد المدني”لمدة خمسة سنوات مع نظام الإنقاذ ولكنه تيقن اخير ان هذا النظام لن يذهب إلا بالعمل العسكري ووجه من هناك ” نداءالسودان”لإنصاره للإلتحاق بالمعسكرات التي اشرف علي اقامتها مبارك الفاضل المهدي وعمرنور الدائم واطلق عليها “جيش الأمة ” ,وفي الوقت نفسه قام رئيس التجمع الوطني محمد عثمان الميرغني بعمل معسكرات مماثلة فجرت عمليات عسكرية محدودة ضد النظام في شرق السودان ,ولكن معظم العمليات الكبري والتي هددت النظام ,قام بها الجيش الشعبي لتحرير السودان وقوات التحالف الوطني التي كان يقودها العميد عبد العزيز خالد بعد ان انسلخ من تنظيم “انا السودان “ذراع التجمع العسكرية الذي كان يرأسه رئيس الأركان الراحل فتحي احمدعلي.

اقليميا ودوليا كان قيام نظام الأخوان المسلمين في السودان وهو الاول من نوعه في العالم الاسلامي يمثل تهديدا لعدد من دول الأقليم ,وكان ابرزهذه الدول اريتريا ورئيسها اسياس افورقي الذي بدأ يرقب العشرات من الاسلاميين الأريتريين يتوافدون الي “دارالاسلام ” ليشكل منهم عرّاب النظام حسن الترابي تنظيم “الجهاد الإسلامي”الأريتري لنقل التجربة الي “أريتريا المسيحية وكذا فعل مع تونس راشد الغنوشي ,والجزائرعباس مدني ,ومصر عمر عبد الرحمن واثيوبيا حركة تحرير الاوغادين ,واوغندا الحركة الاسلامية الأوغندية ,ثم جيش الرب, فتلاقت هذه المخاوف مع الخوف الأميركي الأكبرمن ظهور اصولية جديدة في السودان فتحت زراعيها الي زعيم القاعدة اسامة بن لادن ودشن زعيمها الترابي ذلك بقيام “اممية اسلامية “اطلق عليها المؤتمر الشعبي الإسلامي جلس فيه جورج حبش ونايف حواتمة بجانب عماد مغنية ,وعبد المجيد الزنداني , وقاضي حسين أحمد زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان, في هذا الجو لم تعترض واشنطن علي اسقاط نظام الخرطوم بواسطة العمل المسلح فوجهت الدعوة في عام 97 لكل من عبد العزيز خالد وجون قرنق لزيارة واشنطن وقدمت لهم مساعدات فنية عسكرية.

في هذا المناخ تشكلت اول ثقافة للبندقية الشمالية متجاوزة ميدان ابو جنزيرالرمز الشفاهي الذي اعتادت عليه الجماهير كمكان للأحتجاج السلمي ,وارتفع شعار الكفاح المسلح كأداة جديدة لأل مرة في الريف تحديدا في دارفور بعد ان اكتشفت الطلائع الدافورية المثقفة ان السودانيين من العرب النيليين يضعونهم في مكانة الجنوبيين نفسها بأعتبارهم “عبيدا “مسلمين يحتلون الدرجة الثانية في الهرم الإجتماعي السوداني ,وبعد ان شاهدوا ولمسوا إ ن نظام الإنقاذ لايفهم إلا لغة واحدة هي لغة القوة ,وانه يستلهم مقولة رئيسه الجنسية فيما يتعلق بالمرأة الدرفورية والدرفوريين عموما عندما يكررفي جلساته الخاصة ” عرفنا الجنوبيين عايزين الإنفصال,العبيد ديل كمان عايزين شنو؟ ” .

لم تتطور ثقافة البندقية الشمالية التي رفعت كشعار جديد في التجمع الوطني الديمقراطي, ليس لعدم جدواها ولكن لأن “السيدين”الميرغني والمهدي كانا يجاريان تيار الثورة المسلحة ويتمسحان بمسوحه فقط ,ولكنهما في العقل الباطني يرفضان هذه “البدعة الشيوعية” التي اذا استمرا في خوض اوحالها, فهي حتما ستكون اشبه بأنسان فرنكشتاين الذي افترسه في نهاية الأمر, اي ان الاثنين كانا يعرفان ان تحويل قاعدتي الأنصار والختمية الي قوة مسلحة فأن ذلك سيطيح بهما في نهاية الامر لتظهر قوة ثورية جديدة لن تسمح لهما بقطف الثمار كما كان يحدث في ميدان ابوجنزير في ثورتي اكتوبر وابريل ,وهذا ماحدا بالصادق المهدي مهاجمة الجبهة الثورية في كل مناسبة محذرا من وصولها الخرطوم , فهو مذعور من ان يفقد نهائيا ما تبقي له من قاعدة شعبية في غرب السودان ,وليس الخوف مما يسميه الصوملة والبلقنة هذه المصطلحات التي ادمنها. قلنا لم تنجح تجربة العمل الشمالي المسلح في اطار التجمع الوطني الديمقراطي ,وكاد تنظيم التحالف ان يكون نموذجا لنجاح التجربة لولا الخلافات التي عصفت به فأقعدته عن حمل البندقية مكتفيا بالدخول في منظومة الأحزاب التي توافق عليها السلطة عبر اتفاق القاهرة ,ولكن تاريخيا لا احد ينكرانه المحاولة الشمالية الوحيدة الرائدة والتي ازعجت النظام لدرجة ان منعت الصحف من نشر عملياته العسكرية وحتي اخباره السياسية, وفي سياق الأحداث المتسارعة ادعو المناضل عبد العزيز خالد الذي جري اعتقاله اخيرا إعادة الحياة الي التحالف ,والإلتحاق فورا بالجبهة الثورية ليمدها من خبرته في العمل المسلح فالوقت يمضي والضرب علي الحديد وهو ساخن يساعد علي قولبته .
يتبع

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..