منطق الثورات العربية ومغزاها السياسي

منطق الثورات العربية ومغزاها السياسي

أ.د.الطيب زين العابدين

شهد مطلع عام 2011م ثورات واحتجاجات شعبية عارمة في كثير من دول العالم العربي غير مسبوقة وغير متوقعة، أدت إلى إطاحة ثلاثة أنظمة متجاورة في بضع شهور هي تونس ومصر وليبيا كان يظن أنها أنظمة قوية ومستقرة. وهناك نظامان مرشحان للسقوط في مستقبل قريب هما اليمن وسوريا، وهناك العديد من الأنظمة العربية الأخرى «الجزائر، الأردن، البحرين، العراق، المغرب، سلطنة عمان» التي تشهد احتجاجات كامنة أو متحركة تنذر بتغير محدود أو كامل في تركيبة السلطة القائمة. والأسئلة التي تحير المراقبين لاكتشاف منطق ومنهج الثورات العربية هي: كيف اندلعت هذه الثورات والاحتجاجات فجأة في هذا الوقت، مع أن أسبابها ومبرراتها كانت قائمة منذ سنوات طويلة؟ ولم تستطع أعتى الأجهزة الاستخبارية محلياً وعالمياً أن تتنبأ بهذه الثورات ولا بنتائجها رغم مراقبتها الدقيقة لكل ما يحدث في الشرق الأوسط. ومن أين لهؤلاء الشباب الذين امتلأت بهم شوارع المدن كل تلك الشجاعة والإصرار في مواجهة وتحدي النظام الباطش رغم تصدي الأجهزة الأمنية والبوليسية المتمرسة في قمع الجماهير دون قيود لمحاولة تفريقهم وكسر شوكتهم؟ ولماذا نجحت هذه الثورات بسهولة نسبية في إسقاط النظام في كل من تونس ومصر بتضحيات محدودة، في حين تعطل ذلك في ليبيا وكلف أكثر من أربعين ألف قتيل وخراب واسع للمباني والممتلكات، وتعثر حتى الآن في اليمن وسوريا رغم حجم التضحيات التي بذلها المتظاهرون؟
الإجابة على السؤال الأول يكمن في تجارب سقوط الأنظمة الديكتاتورية على يد انتفاضات شعبية عارمة منذ مطلع التسعينيات في الاتحاد السوفيتي وشرق أوربا وبعض دول أمريكا اللاتينية وباكستان وبنجلاديش، ومن الطبيعي أن يشعر الشباب المكبوت في العالم العربي بأن ما نجح عند الآخرين يمكن أن ينجح أيضاً في بلادهم إذا توفرت الإرادة وصدقت العزيمة. كما أن النقلة الهائلة في وسائل الاتصالات عبر الفضائيات الجديدة وشبكة المعلومات العنكبوتية جعلت أخبار العالم متاحة لمعظم الناس دون مراقبة حكومية ودون تكلفة عالية، وما عادت وسائل الإعلام المحلية التي تسيطر عليها الدولة هي المصدر الرئيس للأخبار والمعلومات والتحليلات السياسية، بل أصبحت محل تندر واستهجان، وتصدرت قناة «الجزيرة» القطرية كل الفضائيات في جذب المستمع العربي، لأنها تكشف بجرأة المسكوت عنه في القنوات الرسمية، مما سبب القلق لكل الحكومات العربية التي حاولت ملاحقتها بشتى الطرق دون فائدة. وصار النظام الديمقراطي وبسط الحريات العامة وحماية حقوق الإنسان يكسب أراضي جديدة في مختلف القارات على مر الأيام، مما جعله يعتمد رسمياً من قبل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية كوسيلة رئيسة لتحقيق الحكم الراشد في أي بلد، ويبنى عليه معاملة ذلك البلد اقتصادياً وسياسياً. وقد ظلت منطقة العالم العربي لسنوات طويلة منذ الحرب العالمية الثانية هي أكثر مناطق العالم استبداداً وكبتاً للحريات وانتهاكاً لحقوق الإنسان، وساعدت الدول الغربية الكبرى كثيراً في حماية الأنظمة الديكتاتورية والحكام المستبدين رعاية لمصالحها الذاتية ومصالح حلفائها في المنطقة. ومن الطبيعي أن ينتبه الشباب المتعلم لهذه المفارقات بين أوضاع العالم المتقدم وأوضاع بلاده المتخلفة، خاصة وهو يعاني من البطالة والفقر ويشهد بعينيه انتشار الفساد والبذخ في الصرف السياسي والأمني، والفوارق الطبقية التي تمارسها النخبة الحاكمة دون أدنى مراعاة لأوضاع عامة الناس وما يقدم لهم من خدمات بائسة. والتغييرات الاجتماعية الكبيرة تأخذ وقتها في النضوج بمعدلات تراكمية طويلة المدى يصعب على المراقب قياسها بدقة، خاصة في مجتمع يعاني كبت الحريات وارتفاع نسبة الأمية والانشغال اليومي بكسب وسائل العيش.
وتتمثل الإجابة على السؤال الثاني في أن هؤلاء الشباب المحبطين في أوضاعهم الحياتية، اكتشفوا وسائل عديدة للتواصل فيما بينهم يصعب رصدها من الأجهزة الأمنية، فقد قويت علاقات الصداقة بين شلل الشباب وكأنها موازية لعلاقة الأسرة الضيقة، وأصبحت تؤثر في سلوك الشباب ربما أكثر من تأثير الأسرة أو المدرسة، واصطنعوا لهم مصطلحات وتعابير خاصة تختلف عما تعارف عليه الآخرون، واستحدثوا مناسبات وملتقيات يتواصلون ويجتمعون فيها. ومن ضمن هذه الوسائل ما عرف بالتواصل الاجتماعي الاليكتروني في برامج «الفيسبوك» و «التويتر» و «الويكليكس» التي لا تخضع لرقابة الأجهزة الرسمية، والتي يستعملون فيها لغة شبابية خاصة قد تختلف من مجموعة لأخرى مما يجعلها فوق أمية رجال الأمن. ولا بد أن من بين تلك المناقشات كانت قضايا السياسة التي هي محل النقد والإحباط الذي يعانون منه، ويكتشف هؤلاء الشباب أن رأيهم متقارب في معظم تلك القضايا، مما يشجعهم على الجهر بها في محيطهم الخاص، ثم ينتقل تدريجياً إلى محيط أوسع حتى يعلن بواسطة قياداتهم في منابر عامة مثل قاعات الجامعات والمساجد والأندية، وتلك مرحلة تحتاج إلى شجاعة وجرأة وفصاحة. وليس من باب الصدفة أن تكون شعارات الشارع المصري الأولى موحدة حول مطالب: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، قبل أن تتطور إلى المطالبة بإسقاط النظام الذي ارتكب جريمة شنعاء بتدبير مؤامرة على قتل المتظاهرين في ميدان التحرير، وحدث شيء مماثل في كل من اليمن وسوريا. والثورة عادة ما تشعلها الأعمال الشجاعة التي تدل على التحرر من الخوف، ومن تحرر من الخوف فقد خرج عن السيطرة مهما بلغت تلك السيطرة. وطالما قال الإنسان إنه لا يوجد أمل فلن يكون هناك أمل، ولكن إذا خرج المرء واتخذ موقفاً شجاعاً فسيكون هناك أمل، ومع الأمل تتولد الإرادة والعزيمة. ويبدو أن التراكم النفسي والاجتماعي في أوساط الشباب المصري وقع بين أبريل 2008م حين دعت الناشطة أسماء محفوظ إلى التظاهر في الشوارع احتجاجاً على سوء الأوضاع، فلم تجد استجابة واسعة. ولكن حين وجهت نفس الدعوة في يناير 2011م كانت الاستجابة ضخمة، ثم صارت مدوية بلغت الملايين في ميادين القاهرة والاسكندرية وعمت كافة مدن القطر. وإذا شعرت الجماهير بعد أن كسرت حاجز الخوف بأنها قريبة من النصر فلا شيء يعيدها مرة ثانية إلى الاستكانة والقبول بالقهر والإذلال مهما كانت التضحيات، بل تصبح التضحيات رصيداً للمزيد من الإصرار حتى لا تذهب دماء الشهداء هدراً، ويمثل هذا الموقف أصدق تمثيل شعار الجماهير المنتفضة في سوريا نهاية الأسبوع الماضي: جمعة الموت ولا الإذلال!
والإجابة على السؤال الثالث هو أن تونس ومصر تتمتعان بمؤسسات حكومية مهنية خاصة الجيش والشرطة والأمن، فهي ترتبط بالنظام القائم إدارياً وسياسياً إلى حد ما وربما مصلحياً، ولكن إذا شعرت بأن الارتباط مع النظام يضر بمؤسستها ووحدتها ومصالحها فستكون على استعداد للتخلي عنه كما حدث بالفعل في البلدين. ويتمتع البلدان بتنظيمات سياسية واتحادات مهنية ونقابات عمالية لها وزنها وتاريخها، وكلها تراهن على التقرب من الجماهير بدلاً من الانقياد إلى نظام يتداعى. أما في حالة ليبيا واليمن فتضعف حالة المهنية لدى القوات النظامية ويقوى الارتباط الأسري والعشائري على وحدات الجيش والأمن، بالإضافة إلى مشاركتها في كل جرائم النظام ضد شعبه في الفترات السابقة. وفي الحالة السورية فإن الارتباط العلوي الطائفي يقوم مقام القبلية في ليبيا واليمن. لذا نجد أن الأنظمة الثلاثة لها فئات عسكرية وأمنية تدافع عنها حتى الرمق الأخير، لأن مصيرها يرتبط بمصير النظام، وهنا ينبغي أن تتجلى عبقرية قيادة الثورات في فك الارتباط بين النظام والمحسوبين عليه من القبائل والطوائف، وطمأنة الأخيرة بأنها ستعيش في سلام وأمان مثل غيرها من المواطنين إن هي تخلت عن النظام الذي انتهت صلاحيته السياسية إلى غير رجعة.
أما المغزى الكبير من الثورات والاحتجاجات العربية، فهو أن الجماهير تشعر لأول مرة منذ عقود بأن لها دوراً مقدراً في التأثير على الأوضاع في بلدها وعلى قرارات السلطة، مثل ما حدث في مصر من محاكمة قيادات النظام السابق ورفض قروض البنك الدولي ومحاسبة إسرائيل على قتل الجنود المصريين في سيناء. وهذا تحول سيبقى مهما كانت نتائج تكوين الحكومات القادمة، وسيعدي دولاً أخرى حتى تلك التي لم تنجح فيها الاحتجاجات. وستتغير النظرة إلى العالم العربي من الدول الكبرى التي كانت تقود الأنظمة الديكتاتورية من أنفها مقابل حمايتها في مواجهة المعارضة الشعبية، وستتعامل الدول الغربية باحترام أكثر مع الحكومات الديمقراطية التي تنشأ في هذه الدول، حتى ولو كانت لا تستلطفها ولا تؤيد سياساتها، مثل ما تفعل حالياً مع تركيا الناهضة، وستعطي وزناً أكبر للرأي العام العربي في علاقاتها مع تلك الحكومات. وستصبح فلسطين مرة ثانية قضية مركزية للشعوب العربية لا يستطيع نظام أن يتجاهلها أو يبيعها في سوق السياسة الدولية، بل ربما وجدت الشعوب شوقاً أكبر نحو شكل من أشكال الوحدة العربية، خاصة بين دول الجوار في تونس وليبيا ومصر. وسيرتفع شعار الإسلام السياسي في كثير من هذه البلاد، نسبة لاضطهاد الحركات الإسلامية دهراً طويلاً من الأنظمة الاستبدادية ولدورها المقدر الذي لعبته في إطاحة تلك الأنظمة، وتواجه تلك الحركات تحدياً كبيراً في أن تتلمس طريقاً معتدلاً ومتوازناً بين مرجعيتها الإسلامية التي تؤمن بها وبين بسط الحريات والعدل ورعاية حقوق الإنسان لكافة المواطنين دون تمييز. وستعاني البلاد المنتفضة من مشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية مما يتطلب في المرحلة الأولى وحدة وطنية بين كل القوى السياسية ينبغي أن تظهر في تشكيل الأجهزة التنفيذية والتشريعية وفي إدارة الدولة حتى تعبر تلك المشكلات في أمن وسلام، وذلك من أجل تأسيس نظام ديمقراطي يستجيب لتطلعات الجماهير والعمل على استقراره دون مزايدة أو تطرف أو فوضى يتسبب فيها هذا الفريق أو ذاك في الساحة السياسية الهشة.

الصحافة

تعليق واحد

  1. والله يادكتور لو اتفقت الحركات الاسلاميه سوا في المغرب العربي ومصر كده نكون دمرنا الوطن العربي كاملا
    اي حركات اسلاميه واي خرابيط واي سوء
    دعونا بالله والله يبدو ان الوضع لما كان بدون شعاراتكم الزائفه والمزيفه ولما كانت البارات وبيوت الدعاره كان الوضع افضل من وضعكم الان
    يادكتور اكتب عن وسخ جماعتك وتمزيقهم للسودان
    اف على منهجكم الوصولي والديكتاتوري
    والاسلام برئ منكم

  2. حتى ولو كانت لا تستلطفها ولا تؤيد سياساتها

    تفتكر يادكتور الاسلاميين النحنا شايفنهم ديل تانى فى ذول بصدقم فى السودان ولا فى اى بقعه فى العالم الاسلاميين فى مصر اول حاجه عملوها ياسيدى اخدو مباركة امريكا

    وتعالو هنا لو فى ذول بفتكر انو الثورات دى ماوراها حاجه يكون واهم اشم رائحة امريكا والسي اى ايه بالمنطق الشكة البتحصل هسي دى وفى وكت واحد انته بتشوفه عاديه من شعوب اتعودت على الاستكانه وشرب الذل والمرار والهوان يستخملو السنسن دى كلها وفجاه يقولو نحنا تعبنا من فترنا من شيل حكامنا وضهرنا اتقرح من جلد السياط

    الموضوع فيه انه وفى حاجه سموها الامريكان الفوضى الخلاقه بعد مالقو اذنابم شابو يعنى هسي خسنى مبارك فضل فيه شنو غير الجسد كلهم لوهبشتهم بتلقاهم رجل فى الدنيا ورجل فى الاخره وخلونا نخت عيونا على الخليج العربي ونشوف السيناريو المرسوم ليه شنو واعتقد ان الغرب حقق جزء كبير من طموحاته فاسرائيل اللان فى خاصرة العرب وتمسك ذمام منابع نهر النيل ووتتقوقع فى منطقه استراتجيه تهدد بها امن مصر والسودان والسودان اللان مهدد بان يتحول لثلاث دويلات وسوريا تمذق واعتقد ان السورى لو اراد انقاذ الموقف فعليه ان يوجه دباباته وطائراته اليوم قبل الغد الى اسرائيل ويسترجع الجولان بدلا من ان يوجه رصاصه الى ابناء شعبه وهو اشرف واكرم له

  3. استاذى د.الطيب
    هل تعتقد حتى الان ان هناك امل فى الاسلام السياسى اما يكفى التاريخ الساسى للدوله الاسلاميه ….والتجربه الحاليه فى السودان و انت من المشاركين فى بداياتها و انا اعلم ذلك وكنت احد طلابك
    تحلى يا استاذى بكثير من الشجاعه واكتب و انت العالم فى التاريخ بظلم الدوله الدينيه من عهد عثمان رضى الله عنه حتى اليوم عهد عمر البشير و شيخه الترابى.
    اكتب عن الدوله المدنيه التى توفر كل شئ لمواطنيها…… التى لم يجوع فيها شخص …لم يفقد التعليم فيها طفل …..ولم يعانى فيها شيخ من تكاليف العلاج والمرض والماوى..
    عزيزى الدكتور انت مؤهل اكثر من غيرك للكتابه عن عجز الدوله الدينيه.. عن فعل شئ لمواطنيها و قدرت الدوله المدنيه لفعل ذلك….من حقوق الانسان والديمقراطيه …و الشفافيه والمحاسبه والمشاركه فى الشان الذى يهم المواطن………سوف يكون اجدى وانفع….من تشجيع حركات الاسلام السياسى فى يعض دول الانتفاضات الوليده و فى السودان اكبر عظة وعبره…..بالرغم من توفر كل اسباب النجاح….للتجربه السودانيه……من حيث الكادر المؤهل والمدرب و الامكانيات التى كانت تملكها الحركة الاسلاميه فى السودان
    واظن يا استاذى لا مفر من الدوله المدنيه و الاستفاده من التراث و التركم الانسانى…وجعل الدين لله و الوطن للجميع

  4. تعرف يا دكتور الخوف كل الخوف ان ياتى هذا التحول فى هذه البلاد بالاسلامييييين وهنا ستكون الكارثة على العالم العربي لانهم سيدمرون بلادهم كما دمر جماعتك السودان ومزقوووه وطبعا عشان امريكا تحقق ده بتساعد فيهم عشان تقدر تنفذ المخطط وانت عارف هو شنو لانه ماشاء الله جماعتك نجحو وطلعو شطااار فى الامتحان وقسمو السودان البداية من الجنوب ثم دارفور كانت الرقم الثانى بس جماعتك قالو عايزين يحققو نجاح باهر قالو نولع النيل الازرق وجنوب كردفان ويمشو مع دارفور فى حزمة واحده حتى بعدين يشوفو الشرق شفت بالله فعائل ناسكم وشطارتهم كيف وطبعا الجزيرة دى القصة الكبيرة ولا انت ماعارف يا دكتور دى قناة الكيزان والله يكفينا شرها وحولينا ولا علينا بس بالله يادكتور الفرق شنو بين ناس بنغازى ودارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق البيخلي ديل كتمرديييين وناس ليبيا ثوار شنو ؟

    بش تاكد يادكتور التاريخ لايعود للوراء والشعب السودانى قادم من كل صوب والانقاذ ذاهبة وسيبقى السودان ولن يتحقق حلمهم فى تقسيم السودان

  5. بالله كل التعليقات التحت دى

    وانت يا بروف اخر زمن سادى دى بطينه ودى بعجينه

    انت ما استاذ جامعه اهه اكيد بتفتح النت والراكوبه

    جزء اساسى لكل متابع للسياسه

    خليك جرىء ورد على الناس ديل عديل بدون لف ودوران

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..