أزمة السودان.. في ذكرى استقلاله

محجوب محمد صالح

في ديسمبر من كل عام يعود السودانيون بذاكرتهم إلى الوراء عقوداً من الزمان ليسترجعوا الوقائع التي حدثت يوم 19 ديسمبر 1955م عندما أجاز البرلمان قراراً بإعلان استقلال السودان ومولد دولة السودان المستقلة في أول يناير عام 1956م بعد ستة عقود من الاستعمار المصري البريطاني الذي اتخذ دستوريا اسم (الحكم الثنائي).

وقد حرصت بالأمس أن أتوقف قليلاً عند أحداث ذلك اليوم الشتوي البارد الذي استقبله أهل السودان بفرحة عارمة، وهم يخطون أول خطواتهم على طريق الاستقلال ويحلمون بمستقبل زاهر واعد وما لبث أن تحول ذلك الحلم إلى سلسلة من الكوابيس وكانت نهاية المسار انفصالاً لربع المواطنين ليؤسسوا دولتهم المستقلة على ثلث مساحته.

كيف جرت أحداث ذلك اليوم، وما التطلعات التي عاشها المواطنون؟ وما الآمال التي عبرت عنها النخب السياسية داخل البرلمان وسجلتها مضابطه؟ لقد كنت شاهدا على ذلك الحدث معايشا للحظة التاريخية بكل تعقيداتها ومناوراتها وحراكها المجتمعي فهي لحظة فارقة في تاريخ الشعوب وكانت جلسة البرلمان ذلك الصباح جلسة إجرائية لإجازة أربعة قرارات تم التوافق عليها خلال اجتماعات مطولة وحوارات مضنية ومناورات حزبية متواصلة ترتفع وتيرتها حينا حتى تهدد بانقسام حاد وتهدأ حيناً، فتقترب من نقطة الالتقاء ثم تنتكس من جديد، وأخيرا في اللحظات الأخيرة تم الاتفاق الكامل على صياغة القرارات الأربعة لإجازتها بالإجماع في الجلسة عندما يتقدم بها نواب من الصفوف البرلمانية الخلفية يمثلون كل أقاليم السودان.

القرار الأول كانت حصيلة مشاورات لم تنقطع على مدى الأيام الثلاثة السابقة بين حزب الأحرار الجنوبي الذي يرفض أن يصوت لصالح إعلان الاستقلال من داخل البرلمان ما لم يوافق الشمال على منح الجنوب الحكم الفيدرالي الفوري، وكان النقاش يدور على خلقية انفجار تمرد الفرقة الاستوائية الجنوبية في توريت الذي تحول إلى تمرد طال معظم مناطق الجنوب وقتل خلاله المئات من الشماليين في مدن شتى، وفي اللحظة التي كانت الأحزاب تتداول حول مطالبة الجنوب بالحكم الفيدرالي كانت المحاكم في الجنوب تصدر أحكامها بالإعدام أو السجن على مئات الجنوبيين المتهمين بارتكاب تلك الجرائم خلال التمرد، وكان رئيس القضاء يعقد مؤتمرات صحافية راتبة يعلن فيها الأحكام التي تم التصديق عليها، ورغم هذا التوتر الذي خلق أجواء غير مواتية للحوار، ثم الاتفاق بعد منتصف ليلة الأحد الثامن عشر من ديسمبر على صيغة توفيقية قبلها الجنوبيون، وقدمت كأول اقتراح للبرلمان في مسيرة الاستقلال لأن إجازتها من البرلمان كانت تمهد الطريق لتصويت الجنوبيين لصالح الاقتراح الثاني الذي يعلن الاستقلال الفوري لدولة السودان، وبذلك يحصل الاقتراح على الإجماع المطلوب لموافقة دولتي الحكم الثنائي.

الاقتراح قدمه عضو من الشمال (النائب ميرغني حسن زاكي الدين) صباح الاثنين 19 ديسمبر 1955م لجلسة مجلس النواب رقم (43) دورة الانعقاد الثالثة، وكان يقرأ (نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعا نرى أن مطلب الجنوبيين لحكومة فيدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث سيعطى الاعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية)، وكان مقدم الاقتراح قد قال: إن هدفه هو (تحقيق رغبة إخواننا الجنوبيين وطمأنة نفوسهم لحرصنا على تمتين الرابطة والصلة بين الشمال والجنوب).

وثنى الاقتراح السيد بنجامين لوكي رئيس حزب الأحرار الجنوبي والنائب عن دائرة ياي، وأشار في حديثه إلى عدم استقرار الأحوال في الجنوب في تلك اللحظات، واعتبر أن تعاون الجنوبيين مع الشماليين داخل البرلمان تحت تلك الظروف الضاغطة (لتحقيق أهداف السودان الكبرى) يعتبر (عملاً شجاعاً، وسيرسل إشارة ثقة وطمأنينة للمواطنين الجنوبيين بأن النواب في الخرطوم يعملون لراحتهم وتحقيق أهدافهم)، وعقب على ذلك زعيم الجانب الحكومي (مبارك زروق)، والمعارضة (محمد أحمد محجوب) مؤيدين وداعمين ومعبرين عن حرصهم على وحدة السودان.

وهنأ النواب أنفسهم على هذا الإنجاز ومن ثم انتقلوا إلى الاقتراح الثاني وهو قرار إعلان استقلال السودان، وقدم الاقتراح عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة- نائب دائرة نيالا، وهو يقرأ (نحن أعضاء مجلس النواب في هذا البرلمان مجتمعين، نعلن باسم شعب السودان أن السودان قد أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة ونرجو من معاليكم (الإشارة إلى الحاكم العام) أن تطلبوا من دولتي الحكم الثنائي الاعتراف بهذا الإعلان فوراً)، وقال مقدم الاقتراح عند تقديمه: (إننا نريد لبلادنا في عهد الاستقلال حكماً ديمقراطياً وعدالة اجتماعية وتكافؤ فرص)، وثنى الاقتراح مشاور جمعة سهل (دار حامد غرب) مبشراً النواب بأن السودان بهذا الاقتراح سيدخل (عهد الحرية والسيادة والانعتاق).

كانت هذه بعض الاقتراحات المؤسسة لدولة الاستقلال في ذلك الصباح الشتوي في ديسمبر عام 1955م، ولو قدر لمقدميها أن يتابعوا مسار الآمال التي علقوها على الاقتراحين والتي عبروا عنها في مداخلاتهم تلك، وأن يقفوا على مدى التردي الذي آل إليه حالنا لأصيبوا بخيبة أمل كبرى، فلا اقتراح الحكم الفيدرالي وجد من الدساتير المتعاقبة (الاعتبار الكافي) الذي وعد به النواب حتى وصلنا لأعتاب الانفصال ولا وجد السودان (الحكم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص) الذي كان مقدم اقتراح الاستقلال يحلم به وقدم به اقتراحه، فقد تحول الحكم إلى كابوس، ومشينا على طريق قادنا إلى أزمة اليوم الخانقة التي لا فكاك منها إلا بإعادة تأسيس دولة السودان من جديد على أسس جديدة ومشروع جديد يخرج بنا من الحلقة الشريرة التي أحاطت بنا إلى رحاب حكم ديمقراطي راشد يعيد لحمة النسيج الاجتماعي التي اهترأت، ويقفل الطريق أمام احتكار السلطة والثروة، ويبني دولة الاستقلال من جديد، الدولة التي يجد فيها كل مواطن نفسه، فهل نستمد من ذكرى ديسمبر زاداً جديداً لمشوار جديد أكثر جدية وعزما وتصميما لا تتحول فيه الأماني إلى مجرد وعود كلامية؟!

العرب
كاتب سوداني
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. مقالك جميل ويا ريد الناس تفهم تاريخها، في الوقت القريب كان جون قرنق ينادي بالسودان الجديد، دوله المؤساسات، واغلب الشعب ينظرون إليه كالشيطان ذو القرنين، واليوم اثبتت كل العوامل إنه علي حق، والشعب عايش علي الهوس الديني ولا يريد ان يعي، لانه مخدر ومغسول المخ هذه هي المشكله الاساسيه والباقي كله عباره عن تنظير في تنظير …….

  2. نرفض تماما محاولات غش لاستعمار دارفور من جديد ..يجب تحرير دارفور من وصايه الشمال ..ولا تعنى لنا شيئا ما يسمى بذكري استقلال السودان ..اننا ندعوا ابناء دارفور الذين لا يزالون يعيشون الوهم بدوله السودان الديمقراطيه ان يصحوا الى واجبهم التاريخى وهو العمل باخلاص لبناء دوله دارفور المستقله….حسن نور

  3. الاقتراح قدمه عضو من الشمال (النائب ميرغني حسن زاكي الدين) صباح الاثنين 19 ديسمبر 1955م لجلسة مجلس النواب رقم (43) دورة الانعقاد الثالثة، ……….. وثنى الاقتراح السيد بنجامين لوكي رئيس حزب الأحرار الجنوبي والنائب عن دائرة ياي،،،،

    الاقتراح الثاني وهو قرار إعلان استقلال السودان، وقدم الاقتراح عبدالرحمن محمد إبراهيم دبكة- نائب دائرة نيالا (والصحيح نائب دائرة عد الغنم/عد الفرسان اليوم)، ……….. وثنى الاقتراح مشاور جمعة سهل (دار حامد غرب) ،،،،

    شايفين يا جماعة الإستقلال جابوه الغرابة والجنوبيين،، وقبل ذلك الغرابة مهروا دماءهم بإنشاء دولة المهدى أول دولة سودانية متكاملة كما نعرفها اليوم،، والجنوبيين ساندوا المهدى أيضا،،

    أين هؤلاء الآخرين الذى إستخدموا مدافع المكسيم لحصد بناة وحماة الوطن؟ فى كررى؟؟

    صار الغربة والجنوبيين أكبر الخاسرين من الإستقلال الذين هم صانعوه ولم يجنوا منها سوى الرصاص والقصف والموت والعنصرية بينما اللصوص يتمتعون بخيرات البلاد.

    لذلك يريد اللصوص إعادة كتابة تاريخ السودان حتى يطمسوا سوءاتهم كما طمس عوض الجاز إختلاسات حسابات البترول عندما تولى وزارة المالية خصيصا لهذا السبب قبل أن يعود لوزارة البترول مرة أخرى ويقلب صفحة جديدة ناصعة البياض،،

    التاريخ لا يمكن إعادة كتابته لكن يمكن إعادة تفسيره بما يستجد من أحداث،،،

  4. الطيبمصطفى بيرى انو دة ما استقلال انما فصل الجنوب هو الاستقلال.. راجع بروق الحنين للتاكد من انو راي ثابت بالنسبة ليهو مش عملية مؤقتة..

  5. كلما يحين موعد نهاية السنة اتذكر الاحتفال بها وحيت نتذكر الاستقلال نقول ليت كان المستعمر باقي فينا بدلا من ادعياء الوطنية والدين لو تلاحظون كل اهل السودان لا يتذكرونه بل الواحد يقول ليك راس السنة والنتيجة معروفة هل سالوا ادخياء الوطنية لماذا نتجة لراس السنة وننسي الاستقلال

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..