تداعي أيديولوجيا التحرير الاقتصادي.

بسم الله الرحمن الرحيم
تداعي أيديولوجيا التحرير الاقتصادي.

بقلم /خليفة السمري ? المحامي.
[email protected]

يشهد العالم في هذه الأيام هياجاً وغلياناً وحركة احتجاجات واسعة تولدت عن تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، ولقد لاحظنا أن هذه الاحتجاجات قد اجتاحت خلال الأيام الماضية أغلب المدن الأوروبية وعشرات البلدان في مختلف القارات وكان أعنفها المظاهرات التي وقعت في إيطاليا، ولا يخفى على المشاهد المتتبع للأحداث أن هذه الاحتجاجات لم تولد من فراغ ، وإنما كانت ثمرة تخطيط مسبق لحركات من مثل حركة “أراد الغاضبون” الأسبانية، ومجموعة “إحتلوا وول استريت” التي استهدفت السلطات المالية العالمية من مثل “وول استريت” في نيويورك، وحي “سيتي” المالي في لندن ، والبنك الأوروبي في فرانكفورت.
وهذه المظاهرات في حقيقة الأمر قد هزت فاعلية النظام العالمي الجديد الذي بشرتنا به القوى الرأسمالية إبان انهيار الكتلة الشرقية، وزعمت أن تبنيه يجيب على سؤال تناقضات الرأسمالية التي تنبأ ماركس في تنظيره وتحليله الجدلي بإنهيارها وقال إن مآلها إلى زوال، إلا أن السيرورة التاريخية في زعم دعاة الرأسمالية سارعت خطاها في عكس هذا الاتجاه “في إشارة إلى انهيار الكتلة الاشتراكية”، وفي غمرة احتفاء القوى الرأسمالية المهيمنة بقيادة الولايات المتحدة بإنهيار الكتلة الشرقية بشرنا منظروا اليمين الأمريكي بأن النظام الرأسمالي الجديد “النيوليبرالية المعولمة” سيخلص العالم من سوءات هيمنة نظام القطبين ، وأنه بتتبني نظريات العولمة الاقتصادية ? حسب زعمهم- ستختفي من العالم وإلى الأبد الأزمات الاقتصادية والصراعات الطبقية وسباقات التسلح وأن الشعوب على وجه البسيطة كافة سترفل في جنان من الحرية والسلام والديمقراطية لم تخطر حتى على بال منظري المدن الفاضلة، وفي سياق هذه الأماني العِذاب طلع علينا فوكوياما بأطروحته ” نهاية التاريخ” التي زعم فيها أن النظام الرأسمالي الليبرالي سيكون خاتم النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولن تأتي البشرية بعده بجديد، بفرية أنه النظام الأنسب والأقدر على إشباع حاجات الفرد المادية والمعنوية، وادعى في أطروحته هذه “نهاية التاريخ” أن كافة التنظيرات والتطبيقات الاشتراكية بكافة مدارسها ما هي إلا انحراف عن مسار التاريخ. وبموجب هذا التنظير الفوكايامي الفطير انطلقت الشركات العابرة للقارات لفرض نفوذها على الشعوب الضعيفة، لتكون بذلك بمثابة الأذرع الطويلة المنفذة لسياسة الهيمنة الأمريكية على العالم، وللأسف انطلت هذه الكذبة البلغاء على معظم صانعي القرار في دول العالم الثالث، فآمن الكثيرون منهم واعتقدوا حد “الهندكة والتبوذ” في منظمة التجارة العالمية والصندوق والبنك الدوليين ، وسبحوا بحمد توصيات هذه المؤسسات الأخطبوطية ليل نهار كمخرج من دوامة الجمود الاقتصادي الذي تولد – بزعمهم ? عن توجيه الدولة للعملية الاقتصادية بدلاً عن الاكتفاء بحراستها، ودارت بنا الأيام ليس لقرون وإنما لعقود قليلة لنشهد بأم أعيننا بطلان السحر المأفون، فاليوم العالم كله مأزوم اقتصادياً، لا من قلة الموارد ، ولكن بسبب الاحتكارات وتوجيه الرساميل إلى المضاربة المالية في البورصات بدلاً عن الإنتاج فأصبح على رأي الخبراء الاقتصاديين، كل دولار يوظف في الإنتاج يقابله ما بين ثلاثين إلى خمسين دولاراً في المضاربات، واجتاحت العالم قاطبة الشركات عابرة القارات يحدوها في ذلك شبقها ونهمها الذي لا يشبع من شفط موارد الشعوب الفقيرة خاصةً النفط، وكل ذلك تنفيذاً لمخططات الولايات المتحدة الأمريكية التي جعلت من دولارها السحري عملة التداول الأولى عالمياً لا بسبب قوة إنتاجها، ولا بسبب ضخامة أرصدتها من الذهب والفضة، فدولارها منذ أوئل السبعينات ظل مكشوفاً، وإنما بسبب هيمنتها على مصادر النفط في العالم، فعلى رأي الأستاذ شوقي عثمان “النفط غطاء الدولار” وما أمريكا إلا حاوي طيلساني يلون بخفة يده الأوراق البيضاء ويصنع منها بسحره الورقة البنكنوتية ،خضراء الدمن التي فتنت العالم.
أطروحة “نهاية التاريخ”، ضللت العالم بأثره حين زعمت أن النظام الرأسمالي الليبرالي قادر على حل تناقضاته بسبب إشباعه لحاجة الفرد في الإعتراف،أو ما سماه فوكوياما ” بالتيموس”، وإذا سلمنا جدلاً بأن الديمقراطية السياسية التعددية في صورتها المثالية تحقق ذلك، فإن تأزم الشق المسكوت عنه في تحليلات فوكوياما – وهو جدل البعد الاقتصادي في النظام الرأسمالي الليبرالي – يبقى قائماً، فالديمراطية السياسية أبداً لن تحل إشكاليات هذا البعد “الاقتصادي” طالما أن هناك تناقضاً بين وسائل الإنتاج ” رأس المال والقوى العاملة”، فمن ناحية تنظيرية محضة قد يوفر الاعتراف السياسي المتبادل حقوقاً متساوية لأفراد المجتمع على الأقل من الناحية النظرية، لكن حتماً سيعجز عن توفير تلك المساواة في الجانب الاقتصادي والطبقي، طالما أنه وفق تطبيقات مبادئ الليبرالية الاقتصادية ظلت مكنات الهيمنة كلها في يد من يملك رأس المال، وهذا ما يمتنع معه وقف الصراع، على عكس ما بشرنا به فوكوياما في تنظيراته المغرضة، التي تبناها اليمين الأمريكي بصورة انتقائية لبسط هيمنتة على العالم، وباسمها تم غزو العراق لتحريره من ديكتاتور اسمه صدام حسين، وباسمها أيضاً تم القضاء على القذافي ، وهو في نظري على سوئه إلا أنه أنفع لأمته من شركات الهيمنة والإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها من الغربيين، الذين لا هم لهم إلا السيطرة على موارد النفط في كل العالم، ومن أجل هذا النفط يمكن تطويع الليبرالية السياسية لتتحالف مع أفظع ديكتاتور على ظهر البسيطة طالما أنه يضمن تدفق أكسير الحياة إلى لوبي الهيمنة الأمريكية.
لكن “ما ربك بظلام للعبيد”، فالناموس الكوني، يظل فاعلاً لإنصاف المظلومين، وبفعل هذا الناموس ستظل الإمبريالية لا الليبرالية هي الكلمة الأخيرة لتنظيرات الرأسمالية ولو تم تذويقها بكل المعاني الجيدة والقيم النبيلة المبثوثة في معاجم الليبرالية، وأظن أن الجميع – حتى من به حصر – قد اكتشف الآن أن حرية الإنسان وكرامته المتباكى عليها في كتابات منظري الحرية الاقتصادية ما هي إلا حصانُ مَيْنٍ كذوب، يمتطى بغرض سلب الشعوب إرادتها وتغييبها حتى تسلم مواردها للأذرع الأمبريالية برضا، وهي تحسب أنها بذلك تحسن صنعا، وبما أنه وفق علوم العمران أن لكل نظام اجتماعي تناقضاته فإن الإمبريالية أبداً لن تكون نهاية التاريخ وإن تدثرت بثياب النيوليبرالية المعولمة، وإنما هي في الحقيقة نهاية فلسفة رأس المال والرأسمالية التي بسطت نفوذها على كافة بلدان العالم، عبر الشركات العابرة للقارات، فصدرت لشعوب العالم الفقر والجوع والمثقبة، وأذلت الإنسان بتناقضاتها السحرية، وعلى رأس هذه التناقضات المفاخرة بالتقدم التقني والمعلوماتي الخادم – بزعمهم- للإنسانية، هذا التقدم في الحقيقة أتعس البشرية وأشقاها وأركبها مركب الحروب والتآمر والتركيع والإذلال، بدلاً من أن يعبر بها إلى بر الوفرة والرخاء والأمن والسلام.
ها نحن اليوم نشهد تناقضات الهيمنة الاقتصادية ونجاحها في إنتاج الأزمات، أزمات اجتاحت كل العالم وأرهقت البشرية في مشارق الأرض ومغاربها بما في ذلك شعوب البلدان المصدرة لهذه الهيمنة، بعد أن رفعت الحكومات باسم الخصخصة يدها عن الضمان الاجتماعي والصحي والتعليمي وأسندت ذلك إلى من يملك رأس المال، لتتكدس الثروات عبر العالم في يد شركات لا يتعدى عدد مالكيها 1% من إجمالي سكان العالم، فكان طبيعياً من باب الشرط وجوابه أن يتمخض هذا التكدس عن استهلال مولودٍ جديد ،خرج من رحم الغيب تحت اسم “مناهضي هيمنة الشركات العابرة للقارات “، ليسجل باستهلاله هذا نقاط كثيرة ضد نظريات النيوليبرالية المعولمة ويكشف عن زيفها وخبث أغراضها، وعن زيف الأدوات الخادمة لها ( البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية )، وغيرها من المؤسسات التي مكنت لوبيات العولمة الاقتصادية من احتكار رساميل العالم أجمع ، وإحكام قبضتها على موارد الشعوب.
لا شك أن استهلال هذا المولود الجديد ” مناهضي هيمنة الشركات العابرة للقارات”، هو بشارة خير تعد المستضعفين على مستوى العالم بالفكاك من هيمنة التنين الأمريكي وأذرعه النافذة على امتداد البسيطة ، فليكن لنا من هذه البشارة تنزلات تعيد للدولة السودانية حيويتها ونشاطها بعد أن أخصاها خدام الخصخصة عن القيام بمهامها في توجيه الاقتصاد وإعادة توزيع الثروة بصورة عادلة بين مواطنيها، ولسنا بهذه الدعوة نقصد تشجيع العودة إلى “لواكة” النظرية الماركسية الصمدية والتشويهات التي لحقت بالاقتصاد السوداني جراء مقاربتها أوان حركة التأميمات الشوهاء التي جرت مع بواكير انقلاب مايو، وأيضاً لا نرمي بهذه الدعوة إلى الارتكان إلى ما يسمى بدكتاتورية البوليتاريا، فما في الديكتاتورية من خيرٍ أبداً سواءً جاءت من اليمين أو اليسار، أو من البرجوازية أو من المهمشين، فمن جرب المجرب حصد الندامة، وإنما ندعو إلى إصلاح الحال بوسيلة التحول الديمقراطي القاصد إلى توليد دولة الرفاه التي توفر الحقوق المتساوية وتكفل الحرية السياسية، ولكنها في ذات الوقت توفر وتكفل ما بات يعرف بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وذلك بخلق توزانات القوة اللازمة لمنع الاستغلال الطفيلي وإنصاف المسحوقين والمهمشين ، “بإصلاح القوانين الإجتماعية والاقتصادية وتقوية فاعلية النقابات والإتحادات العمالية”، فإذا حدث ذلك فإن الدولة هي الأخرى ستكون بمنأى من الإستغلال الدولي المبدد لثروات الشعوب، فما الدولة في الحقيقة إلا اجتماعٌ من البشر، فإن هم تنورا تنورت، وإن هم تقووا تقوت، وإن هم ضعفوا هانت وذلت، فلئن تأبت “الإنقاذ” على نفسها هذا التحول وهذا الإصلاح ? وهذا مبلغ ظني فيها ? فما لنا غير الدنية أو ركوب مركب المناهضة والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل،،،

تعليق واحد

  1. حتى الحزب الشيوعي الامريكى يرى ان لثورات العرب تاثيرها فى احتلال وول استريت.
    ولكن ارى ان هذا صحيح الان فقط ,غير انه سرعان ما ينقلب الوضع .فلو اخذنا بالمغزى سنجد ان وول استريت هو الدليل والقائد لكل الثورات التى ستاتي لاحقا حتى فى مصر وتونس نفسهما.
    المغزى:
    ان الصراع الحق هو بين الفقر والاحتكار.
    وستنتهي الثنائيات الوهمية
    مثل شيعة ضد سنة
    اسلام ضد يهود او نصارى
    عرب ضد افارقة
    وتعود الاديان رحيمة ببعضها وبمعتنقيها
    وقد برات من توظيف الساسة لها فى الشقاق والنزاعات .

    ربما ان هذا الحدث هو اخطر ما شهد العصر الحديث.
    ارجو ان تقوم لدينا مؤسسة لدراسة هذا الحدث.

  2. الأستاذ السمرى بمناسبة الاحتجاجات العالمية ضد عيوب النظام الرأسمالى فى المجتمعات الغربية, وددت مشاركتكم بهذا المقتطف (مترجم) من خطاب القاه القس الراحل مارتن لوثر كينج فى مدينة نيويورك يوم 4 ابريل 1967.
    ان الشفقة الحقيقية لهى اكثر من رمى درهم لمتسول. لقد حان الأوان للإلتفات الى المؤسسة التى تصنع المتسولين و التى هى فى حاجة لإعادة بنائها. عما قريب فإن إحداث ثورة حقيقية فى القيم سوف يبدو من الصعوبه فى ظل الفارق الفاضح فى المقارنة بين الفقر و الثراء. سوف تبدو الصورة بالنظر فيما وراء البحار و رؤية الأفراد من الرأسماليين الغربيين يستثمرون كميات ضخمة من الأموال فى آسيا وافريقيا و امريكا الاتينية فقط لإستخراج الأرباح الى خارج البلاد دون اعتبار للتطور الإجتماعى لتلك الأقطار, لقد حق القول: "هذا ليس عدلاً." الصورة لسوف تبدو بالنظر الى تحالفنا مع الطبقة العليا مالكى الاراضى فى امريكا الاتينية تسثحق القول: " ان هذا ليس عدلاً." فان احساس الغرب بالغرور بانه لديه كل شئ لتعليمه الآخرين و انه ليس للآخرين ما يتعلمه الغرب منهم فانه ليس بعدل. الأمة التى تستمر عاماً بعد عام تنفق الأموال على الدفاع العسكرى اكثر من الإنفاق على برامج النهوض الإجتماعى فإنها تقترب من الموت الروحانى.
    (من كتاب الإيمان و الفيزياء و علم النفس: اعادة التفكير فى المجتمع و الروح الانسانية, للكاتب جون فيتزقيرالد مدينا, صفحة:338.)
    للحصول على النص الكامل باللغة الانجليزية للخطبة يمكنكم زيارة الرابط
    التالى :
    http://mlk-kpp01.stanford.edu/kingweb/publications/speeches/Beyond_Vietnam.pdf
    للحصول على نبذة عن حياة مارتن لوثر كنج على الرابط التالى:
    http://ar.wikipedia.org/wiki/ظ?ط§ط±طھظ?_ظ?ظ?ط«ط±_ظ?ظ?ط¬
    or:
    http://en.wikipedia.org/wiki/Martin_Luther_King,_Jr.

  3. الاستاذ السمرى مقال ممتاز بارك الله فيك
    نعم ان استغرب فى شيئ واحد لماذا نحن طبقنا قانون الخصخصة هذا من الاساس!!!
    و استغرب: هناك فى الغرب رغم المظاهرات هذه فان تعليمهم مجانى وعلاجهم مجانى وحتى يعطون العطالى مصاريف— نعم ان ماياخذونه هذا حقوق من الدولة عليهم ولكن يدرون ان هناك لوبيات تحتكر المال وتلقى بالفتات- فاذا هم يسعون الى عدل اكثر وتقسيم حقيقى للثروة-
    اما نحن كيف يطبق فينا هذا النظام من الاساس– ماذا يمكن ان يفعلوا هؤلاء المحتجون اذا جئنا بهم الى هنا او ماذا سنفعل اذا بدلنا معهم وذهبنا نحن الى هناك

    يا نور الدين: اعتقد انو الهندكة والتبوذ هما من الهندوسية والبوذية
    وليس الحندكة والبوز او مد القدوم ورينا يا السمرى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..