جنوب السودان : وعود زاهية وواقع قاتم

محمود الريماوي

لا شك في أن متابعين كُثُر قد أخذتهم المفاجأة من تطورات الأحداث الداخلية في دولة جنوب السودان، فهذه الدولة الوليدة ما زالت في طور اجتذاب دول العالم، وبالذات في القارة الإفريقية للتعاون معها، باعتبارها آخر الدول التي حظيت بكيان مستقل عن الدولة الأم، في ظروف من التفاهم بين قادة الدولة الناشئة من جهة وقادة حكومة الخرطوم التي كانت مركزية لعموم البلاد، وإعمالاً للحق في تقرير المصير، وهو حق ترعاه المواثيق الدولية، واستناداً إلى استفتاء الشعب المعني وهو من أكثر التدابير سلمية، وأكثرها قبولاً من حيث المبدأ .
وعلى مدى ثلاثة عقود مضت، فقد طبع الصراع بين الشمال والجنوب طابعه باعتبار أن الصراعات في هذا البلد الشاسع، الذي لم يعرف الاستقرار منذ نحو نصف قرن مع افتتاح عهد الانقلابات العسكرية والحكم الشمولي في الخرطوم، وقد بدت بقية النزاعات ومنها النزاع في إقليم دارفور، وكأنها رجع صدى للصراع بين الجنوب والشمال الذي يتغذى من إرث الصراع المسلح بين إثنيات وأعراق شمالية وجنوبية .
كما سادت انطباعات متراكمة بأن انتهاء الصراع بين الشمال والجنوب حتى لو أدت إلى انفصال الجنوب وصيرورته دولة مستقلة، سوف يؤدي إلى إطلاق نموذج جديد في السودان لدولة عصرية أو شبه عصرية تقوم على التعددية السياسية والثقافية وعلى حكم القانون والتداول السلمي للسلطة، وذلك بالنظر لما كان يبديه قادة الجنوب في خطابهم السياسي من تميز واختلاف عن الحكم القائم في الخرطوم، رغم أن بعض هؤلاء شاركوا في الحكومة المركزية في الخرطوم، وعلى أعلى المستويات ومنها منصب نائب رئيس الجمهورية وحقيبة وزارة الخارجية .
ها هي التطورات منذ مطلع العام الجاري 2014 في جوبا تسفر عن مفاجآت، من قبيل أن النخبة الحاكمة المتحدرة من “الجبهة الشعبية لتحرير السودان” التي قادت الصراع المسلح مع الخرطوم ورفعت لواء تقرير المصير والاستفتاء، ونسجت علاقات وثيقة مع الشرق والغرب وقامت بتبديل هويتها الأيديولوجية بين يسار ويمين، وفقاً لاتجاه الرياح العقائدية على الساحة الدولية، وخلافاً لما أشاعته عن نزعتها التقدمية العابرة للجهوية والقبلية والمتصلة مع روح العصر، ها هي تكشف عن وجه سياسي آخر من ابرز ملامحه التنازع الدموي على السلطة، وتعريض المدنيين لأفدح المخاطر، والانهماك في الاستقطاب المناطقي والقبلي للفريقين المتنازعين المتحدرين من أرومة عقائدية وسياسية واحدة .
وواقع الحال أن هذا الانتقال يستعيد إرثاً من الاقتتال بين فصائل جنوبية، كما يستنسخ صراعات داخلية شمالية ولكن بوتيرة أعلى من تلك التي شهدها الشمال، وقد تراجعت بذلك الوعود التي ارتسمت طويلاً في أفق الاستقلال عن عهد جديد ينتظر الجنوبيين تسوده الوحدة الوطنية الداخلية والتنافس السلمي بين التيارات السياسية في إدار من الديمقراطية التداولية بما يميّز حسب تلك الوعود بين الشمال والجنوب لمصلحة هذا الأخير . إن الواقع يكاد يختلط فيه الهزل والكارثة حين تنهمك الدولة الوليدة في نزاع متجدد مع الشمال حول الحدود وعائدات مرور النفط، ثم تنغمس في الوقت ذاته في صراعات ذات طابع تناحري داخل هرم السلطة الأعلى، ومن دون أن يلحظ أحد وجود مجتمع سياسي جديد تم التبشير ببزوغه ما أن يتحقق الاستقلال، أو أن يتم الاحتكام إلى الدستور والبرلمان والقضاء لحل النزاعات والتثبت من الاتهامات بحق هذا الفريق أو ذاك كما هو معمول به في الأنظمة الديمقراطية التي تضبط التنازع السياسي الداخلي وفقاً لمحددات القانون وضوابط الدستور مع تجريم الاحتكام إلى العنف وحيازة السلاح لغير القوة الأمنية الوطنية .
والآن فإن ما آل اليه انفصال الجنوب السوداني يمثل نموذجاً سالباً للآفاق الموعودة نظرياً . فأمراض دول العالم الثالث تتربص بمثل هذه التجارب من النزعة العسكرية للحكم، إلى فساد النخب، إلى تسعير الاختلافات الاثنية والجهوية وتسخير المدنيين كوقود للحرب واستنزاف الثروات وطرح هدف التنمية الشاملة جانباً واستدراج التدخلات الخارجية . وكل ما من شأنه تخريب الوحدة الوطنية وطعن السلم الأهلي، وتهتيك النسيج الاجتماعي، وزرع بذور نزاعات مستدامة تحرم الأجيال الجديدة من فرص النماء والرخاء، والتطلع لمستقبل أفضل . وفي وقت يشهد فيه العالم انكفاء النزعة التدخلية الدولية في الصراعات باستثناء ما يمس المصالح المباشرة للدول الكبرى وهو ما يجعل الجنوبيين متروكين أمام أنظار العالم كي يجدوا هم وبأنفسهم حلولاً شافية للتناحر ما بين زعاماتهم .
التطورات الكارثية في جنوب السودان، تفتح الأعين والأذهان على وعود استقلالية أو انفصالية يبشر بها “جنوب” عربي هو جنوب اليمن الذي كان بالفعل دولة قائمة بذاتها و”جمهورية ديمقراطية” في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي . وبينما قادت الثورة اليمنية التي اندلعت منذ نحو ثلاث سنوات في سياق موجة الربيع العربي إلى ارتسام أفق تصحيح العلاقة بين شطري الشمال والجنوب، وإعادة تقسيم الولايات والمحافظات (محافظتان في الجنوب) فإن القوى النازعة إلى الانفصال ما زالت متمسكة بمطالبها، رغم انهيار الحكم في صنعاء الذي كان متهماً بضم الجنوب بالقوة، وما آلت اليه الثورة الشعبية الأخيرة من تقريب اليمنيين إلى بعضهم بعضا، وانفتاح آفاق إقامة نظام أكثر عدلاً من النظام السابق . خيار الانفصال يبدو أكثر إغراء من خيارات سياسية أخرى، لكنه في الوقت ذاته من أشدها اشتمالاً على مخاطر التفتيت والتنازع، والإرث السياسي في البلد وبالذات في الجنوب ناهيك عن تعقيدات الوضع الحالي زاخر بالشواهد على تلك المخاطر الداهمة .

الخليج

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..