جنوب السودان ورد الاعتبار لحق تقرير المصير

من الضروري رد الاعتبار لمبدأ الحق في تقرير المصير، والاعتراف بـ«الآخر» القومي أو الديني أو المذهبي أو السياسي، مع البحث عن أفضل السبل والآليات للاستجابة لمطالب هذا «الأخر»، في ظل دولة تكون لكل مواطنيها.

بقلم: فيصل علوش

تنقسم النخب العربية والإسلامية في تعاملها مع قضية جنوب السودان إلى فريقين، الأول منها، ويبدو أنه هو الأغلب، سواء على الصعيد الرسمي أم على صعيد المعارضة، يتسم موقفه بطابع الانفعال والغضب والتباكي على الانفصال، مع قدر كبير من التخويف والتهويل منه، والتحذير من انتقال عدواه إلى دول أخرى وما قد يستجره ذلك من ويلات. ويحمّل هذا الفريق الخارج المسؤولية الأولى عن الانفصال، مستحضرا «المؤامرة الكبرى» التي تجري ضد العرب والمسلمين، وتستهدف تقسيم دولهم إلى دويلات وطوائف، كما كان قد حصل في زمن الاستعمار الفرنسي والبريطاني (سايكس ـ بيكو)، ولكن برعاية أميركية هذه المرة.

وهي مؤامرة «إمبريالية غربية ـ صهيونية» في نظر بعض دعاة الخطاب القومي، تستهدف تفتيت الوطن العربي وتحريك أقلياته الإثنية والقبلية للمطالبة بكيانات مستقلة لها. ومؤامرة «صليبية ـ يهودية»، لدى أصحاب الخطاب الإسلاموي عموما، حيث يشترك الغرب (المسيحي) ويهود العالم في دعم المسيحيين في جنوب السودان ضد الحكم الإسلامي في الشمال. وعلى ذلك، أصدر 70 من علماء الدين فتاوى «تحرّم التصويت لصالح انفصال الجنوب حفاظا على الكيان السوداني الموحد»، علما أن الرئيس السوداني «المسلم والذي شدد على تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود الشرعية»، كان أعرب بنفسه عن استعداده للاحتفال مع الجنوبيين بدولتهم الجديدة إذا كان ذلك خيارهم، وذلك خلال زيارته الأخيرة لجوبا.

ووصل الأمر لدى البعض من هذا الفريق إلى حد تشبيه انفصال جنوب السودان المتوقع، بإنشاء الكيان الصهيوني، وبأن خطره على الأمتين العربية والإسلامية قد يفوق خطر قيام الدولة العبرية. وصار تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، لا ينفصل عما يحصل في جنوب السودان، بل يعد جزءا من «المؤامرة المرسومة»، لأنه يستهدف «تحريض أقباط مصر على إحياء النزوع للانفصال والمطالبة بدولة مستقلة لهم»، مع ما يوحي به ذلك من أن ثمة جهة أو جهات خارجية هي التي نفذت التفجير أو تقف وراءه!

كما بات سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وقبل ذلك تعبير هذه العاصمة الغربية أو تلك عن قلقها حيال «الاستخدام المفرط للقوة» من قبل السلطات التونسية ضد المتظاهرين والمحتجين على البطالة والفساد من أبناء الشعب التونسي، هو جزء من المؤامرة أيضا، و«يشكل تدخلاً في شؤون الدول العربية وسيادتها»!

أما الفريق الثاني فقد رأى أن جوهر القضية والمشكلة المطروحة يحتاج إلى قدر من الروية والعقلانية والاهتمام أكثر بتفاصيل القضية المطروحة، وهذا يتطلب، في نظره، تسليط الضوء على النقاط والعوامل التالية:

1ـ تشكل القضية في أحد جوانبها الرئيسة تصفية لتركة ثقيلة خلفتها القوى الاستعمارية في إفريقيا، منذ مؤتمر برلين الشهير بين عامي 1884 و1885، الذي تم خلاله وضع حدود عشوائية بين الدول بطريقة لم تأخذ في الاعتبار الفروق والاختلافات الإثنية والثقافية والسياسية. وفي حال السودان، مثلا، يغلب على شماله الطابع الإسلامي ـ العروبي، في حين تغلب في جنوبه القبائل الإفريقية بمعتقداتها الأرواحية الخاصة إلى جانب المسيحية والإسلام. وقد درجت الحكومات المتعاقبة في الخرطوم، منذ عهد الجنرال عبود، وحتى عهد «الإنقاذ» الحالي، مرورا بعهد الرئيس جعفر النميري، على محاولة تغليب الهوية والثقافة «العربية ـ الإسلامية» على حساب سائر الهويات والثقافات الأخرى، متوسلين في ذلك عملية توحيد قسرية بين الشمال والجنوب، وبين مختلف أقاليم وجهات السودان، على قاعدة الهوية والثقافة الواحدة.

2ـ نجم عن ذلك نشوب حرب أهلية مديدة بين الشمال والجنوب، استمرت على هذا النحو أو ذاك، منذ ما قبل استقلال السودان، وذهب ضحيتها ملايين السودانيين، فضلا عن كلفتها الاقتصادية والمالية الباهظة جداً. وعلى سبيل المثال، أدت هذه الحرب في جولتها الأخيرة، التي استمرت على مدى 22 عاما، حسب العديد من التقديرات، إلى قتل نحو مليوني سوداني، معظمهم من الجنوب، إضافة إلى تشريد ملايين آخرين في الدول المجاورة، أفلا يكفي هذا، حسبما يقول هذا الفريق، للتفكير في ضرورة وقف هذه الحرب العبثية، أم أن رقم «مليوني» سوداني قضوا ضحايا لها، لا يكفي لتحريك عقولنا وضمائرنا، في وقت ما زلنا نتغنى فيه حتى الآن، محقين بكل تأكيد، بثورة «المليون» شهيد في الجزائر التي طردت الاستعمار الفرنسي؟!

3ـ الحرب الأهلية المديدة والمآل الكارثي الذي انتهت إليه عملية التوحيد القسري، ذلك كله تم في ظل حكومات فشلت في إدارة التنوع العرقي والثقافي والديني، وعجزت عن إرساء وحدة وطنية داخلية، على قاعدة التعددية الثقافية والديمقراطية السياسية، وتحقيق المساواة التامة بين المواطنين، بعيدا عن أي تمييز، وبما يكفل لهم، على اختلاف أجناسهم وأديانهم وثقافاتهم، الحق في الحرية والكرامة والشعور بالانتماء إلى وطن واحد. وهذا لا يصح إلا في إطار دولة مدينة حديثة، علمانية وديمقراطية، تكون لجميع مواطنيها، وتتسع لهويات وثقافات متعددة ومختلفة.

كما تم ذلك، في ظل حكومات أخفقت أيضا في تحقيق تنمية متوازنة، تسد الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الأقاليم، على نحو لا تشعر فيه بالإهمال والتهميش، وبأن مشاركتها في حياة البلاد لا تتناسب أبداً مع حجمها وثقلها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

ويذكّر أنصار هذا الفريق بأنه حتى قبل سنوات قليلة من توقيع اتفاق نيفاشا، (الذي توصل إليه، الشمال والجنوب، بعد أن أدركا بأنه لا طائل من استمرار التطاحن في الحرب)، لم يكن الجنوبيون يطالبون بأكثر من حكم ذاتي وتنمية متوازنة، ومشاركة في السلطة والثروة، بيد أن ما فعلته حكومات الخرطوم، برفضها المستمر لمطالبهم وتغليبها للخيارات العسكرية، دفعتهم تدريجيا لتغليب خيار الانفصال والمطالبة بحق تقرير المصير.

4ـ ضرورة رد الاعتبار لمبدأ الحق في تقرير المصير، والاعتراف بـ«الآخر» القومي أو الديني أو المذهبي أو السياسي، مع البحث عن أفضل السبل والآليات للاستجابة لمطالب هذا «الأخر»، في ظل دولة تكون لكل مواطنيها، فهذا وحده ما يشكل عامل جذب نحو العيش المشترك والوحدة الوطنية الطوعية والاختيارية. أما الاختباء وراء فزاعة «المؤامرة» والتهويل من مخاطرها، والهروب، في الوقت نفسه، من مواجهة مشاكلنا وأزماتنا الداخلية الكثيرة، كما يقول هذا الفريق، فهذا كله لن يجدينا نفعا. ويطالب هذا الفريق دعاة الخطاب القومي والإسلامي بضرورة الأخذ بمبدأ الحق في تقرير المصير تجاه عدد من القوميات الأخرى التي تعيش في عالمنا العربي (كرد، أمازيغ،..) ملاحظا أن الأحزاب والقوى السياسية السودانية، على اختلاف تلاوينها وبرامجها، بما فيها حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم، انتهت جميعها تقريبا إلى الإقرار بحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم، إما انطلاقا من المأساة المعاشة، والبحث عن آلية تكفل عدم تجدد الحرب الأهلية التي أرهقت السودانيين، ومنعتهم من الاهتمام الجدي بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، والنهوض بمشاريع تنموية تلبي تطلعاتهم وحاجاتهم، وإما انطلاقا من ثقافة سياسية متقدمة، تتفوق على نظيراتها في الكثير من البلدان العربية.

5ـ هذا كله لا ينفي، حسب اعتقاد هذه الفريق، وجود تدخلات خارجية، بما فيها حتى الإسرائيلية، ودعم إقليمي ودولي لمطالب الجنوبيين، بل يرى أن السودان بات أشبه بساحة مغرية للتدخل لكل من هبّ ودبّ، وخصوصا بعد تدويل أغلب نزاعاته وتحوّله إلى ما يشبه «رجل إفريقيا المريض»، محركا أطماع وشهية الجميع، لكن ومع ذلك، فإن جوهر المشكلة، كما يضيف هذا الفريق، لا يكمن هنا، بل ينبغي تلمسه في الأسباب والعوامل الداخلية أولاً، لأن العوامل الخارجية ليس بوسعها أن تكون أكثر من عوامل مساعدة، معجّلة أو مؤخرة، لحدوث هذا الأمر أو ذاك. وليست سببا أساسيا فيه.

ويخلص أنصار هذا الفريق إلى القول بأنه ليس أدعى للكسل الذهني والبلادة الفكرية والسياسية من الركون إلى وصفة «المؤامرة»، في تفسير الأحداث والمجريات، لأنها تعفينا من البحث والتساؤل، ومن إعمال الفكر والاهتمام بالتفاصيل، وأقله السؤال عن كيفية تنفيذها، ولماذا تكاد لا تنجح في تحقيق مآربها إلا عندنا وحدنا؟! معتبرين أن المؤامرة تكاد تكون هي هي منذ «سايكس ـ بيكو» وحتى الآن، مكشوفة ومفضوحة دائما، ومع ذلك فإنها تحاك وتنفذ بكل يسر وسهولة، فيما يجلس العرب والمسلمون في مقاعد المتفرجين عليها، لا يفعلون شيئا إزاءها، بل يتسلون بها، حتى وهم يزعقون ويحذرون منها، مؤامرة.. مؤامرة!

ميدل ايست أونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..