مظاهرات صاخبة بالمحافظات المصرية تطالب بإسقاط الحكومة وحل البرلمان..كلينتون تدعو إلى ضبط النفس وتعتبر أن الحكومة المصرية «مستقرة»

خرج ألوف المصريين أمس في مظاهرات احتجاجية في الكثير من المحافظات، وهم يهتفون في الشوارع والميادين العامة، مطالبين بـ«الإصلاح السياسي والاقتصادي» وإسقاط الحكومة وحل البرلمان، وهم يشيدون بالانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي قبل أسبوعين. وغاب التنظيم عن المظاهرات الاحتجاجية المصرية التي يقدر عدد المشاركين فيها بعشرات الألوف، على الرغم من ظهور قيادات فيها من عدة تيارات وحركات، منها جماعة الإخوان وتيارات حزبية معارضة من اليساريين والليبراليين.

إلى ذلك، دعت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أمس كل الأطراف في مصر إلى «ضبط النفس»، إلا أنها قالت إن واشنطن تعتبر أن الحكومة المصرية مستقرة. وصرحت للصحافيين قائلة: «نحن ندعم الحق الأساسي في التعبير عن النفس والتجمع لجميع الناس، ونحث جميع الأطراف على ممارسة ضبط النفس وتجنب استخدام العنف». وأضافت في مؤتمر صحافي مع نظيرها الإسباني ترينيداد جيمينز: «ولكن الانطباع لدينا هو أن الحكومة المصرية مستقرة».

واندلعت مظاهرات أمس دون الحصول على ترخيص من السلطات، للاحتجاج على «الفقر والبطالة والقمع»، بعد أن دعا إليها نشطاء على الإنترنت تحت اسم «يوم الغضب»، واختير له يوم العطلة الرسمية بمناسبة عيد الشرطة أمس الثلاثاء، ولوحظ انخراط مواطنين عاديين في المظاهرات، في ظاهرة نادرة الحدوث في مصر، التي تمنع فيها السلطات التظاهر من دون ترخيص، وقال شهود عيان ونشطاء إن مواطنين عاديين هتفوا: «تونس.. تونس يا أبية إحنا وراكي للحرية»، بعد أن انضموا إلى المظاهرات في مدن القاهرة والإسكندرية، ومدن بالدلتا وعلى قناة السويس (شمالا) وبعض مدن الصعيد (جنوبا).

وفي القاهرة، خرج الألوف في مظاهرات حاشدة احتجاجا على أوضاعهم المعيشية. وبدأت الاحتجاجات في العاصمة عند الساعة الواحدة ظهرا بالتوقيت المحلي، عندما تجمع عشرات النواب السابقين، غالبيتهم من جماعة الإخوان، أمام دار القضاء العالي في قلب القاهرة، إلا إن قوات مكافحة الشغب حاصرتهم ولم تسمح لهم بالحركة، لكن مئات الشباب الغاضب الذي ظل على بعد خطوات منهم، استطاع كسر الطوق الأمني، وسريعا ما التحم المتظاهرون مع نحو ستة آلاف متظاهر آخرين كانوا قادمين من شارع الجلاء القريب، وهم يهتفون «باطل.. باطل»، في إشارة للنظام الحاكم.

وتوجه عدة آلاف، يقودهم قياديون من أحزاب ليبرالية، منها الوفد والغد باتجاه المقر الرئيسي للحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم)، على كورنيش النيل. وقاد المنافس السابق للرئيس المصري في الانتخابات الرئاسية في عام 2005 الدكتور أيمن نور، المتظاهرين باتجاه المبنى الرسمي للتلفزيون المصري المطل على النيل، الذي يبعد عدة مئات من الأمتار عن مقر الحزب الحاكم، ثم توجه المتظاهرون إلى ضاحية بولاق الشعبية عبر شارع 26 يوليو الحيوي بوسط القاهرة، الذي اكتظ بنحو عشرة آلاف محتج.

وفي منطقة شبرا، قام المتظاهرون باختراق عشرات الحواجز الأمنية البشرية، التي حاولت منعهم من التقدم. ولم تستخدم قوات الأمن في تلك الضاحية الواقعة بشمال القاهرة العنف، مما دفع الحشود إلى تحية قوات مكافحة الشغب والهتاف لهم وتوزيع الورود عليهم.

وفي ميدان التحرير، أكبر ميادين القاهرة، ضربت قوات الأمن حصارا مكثفا وأغلقت كل الشوارع المؤدية إلى الميدان، واشتبك المتظاهرون مع قوات مكافحة الشغب التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع، وكان لافتا أن تم استخدام أسطح المنازل لإلقاء القنابل، في محاولة للسيطرة على حركة الحشود التي حاولت كسر الطوق الأمني والانضمام للمتظاهرين أمام دار القضاء العالي التي انطلقت منها مظاهرات أمس، والتي كانت تهتف بسقوط الحكومة.

وفي ميدان محطة الرمل الشهير بشرق الإسكندرية (نحو 200 كلم شمال غربي القاهرة)، وأطلقت قوات الأمن قنابل مسيلة للدموع في مواجهة نحو عشرة آلاف متظاهر، وقال شهود عيان إن مظاهرات اندلعت في عدة أنحاء بالمدينة الواقعة على البحر المتوسط، وأشاروا إلى أن نشطاء من عدة أحزاب وحركات قادوا المتظاهرين في الإسكندرية، منها أحزاب الجبهة الديمقراطية والغد والكرامة، وكذا حركات كفاية وحشد والعدالة والحرية والحركة الشعبية لدعم الدكتور محمد البرادعي.

ورفع المتظاهرون لافتات طالبوا فيها بإصلاحات اقتصادية لتحسين أوضاعهم المعيشية، منها لافتة كتب عليها «مطالبنا وظيفة ولقمة عيش نظيفة». وألقى مدير أمن الإسكندرية اللواء محمد إبراهيم كلمة للمتظاهرين في محاولة لتهدئتهم وإقناعهم بالانصراف لتيسير حركة المرور في ميدان الرمل، إلا أن المحتجين لم ينصاعوا، وواصلوا تحركهم للطواف بالمدينة، مما دعا قوات الأمن لقذفهم بقنابل مسيلة للدموع.

وقال ناشطون وشهود عيان إن المظاهرات اندلعت في الإسكندرية في أحياء أخرى، منها العصافرة التي اندلعت فيها مظاهرة تضم ألفين، بدأت من أمام مسجد «هدى الإسلام» والتقوا مع مسيرة احتجاجية أخرى ضمت نحو خمسة آلاف، ليتجهوا بعد ذلك إلى كورنيش الإسكندرية على البحر، رافعين علم مصر.

وفي منطقة محطة القطارات الرئيسية بالإسكندرية المعروفة باسم «محطة مصر» ردد نحو ثلاثة آلاف محتج شعارات منددة بالحزب الحاكم، مطالبين بإسقاط الحكومة، ورفعوا لافتات كتبوا عليها: «البرلمان باطل.. الحزب الوطني باطل».

وتحركت مسيرة احتجاجية أخرى في شارع بورسعيد الحيوي بالإسكندرية أمام مكتبة الإسكندرية الشهيرة في منطقة الأزاريطة، انضم إليها في وقت لاحق المستشار محمود الخضيري، القريب من جماعة الإخوان، وقال شهود عيان إن الخضيري، وهو قاض سابق، قاد هذه المسيرة في اتجاه منطقة مجمع الكليات النظرية التابع لجامعة الإسكندرية.

وطالب الخضيري المتظاهرين بالاستمرار في مظاهراتهم والصمود لعدة أيام لممارسة ضغوط على الحكومة المصرية للاستجابة لطلباتهم، وعلى رأسها مطالب الإصلاح السياسي والمطالب السبعة للتغيير التي سبق أن أعلنت عنها الجمعية الوطنية للتغيير، التي أسسها البرادعي، وتعضده فيها عدة حركات، على رأسها جماعة الإخوان.

وشاركت أعداد أقل في عدة مدن بالدلتا في شمال العاصمة، حيث تظاهر نحو ألف محتج في مدينة المنصورة، وعدة آلاف في مدن دمياط وطنطا والمحلة الكبرى. وقال شاهد عيان إن المتظاهرين في المحلة الكبرى، وهي مدينة عمالية، كانوا يهتفون، مطالبين بتحسين أحوالهم المعيشية.

وفي مدن قناة السويس وشبه جزيرة سيناء، التي تشهد توترا منذ عدة سنوات بين الشرطة والمواطنين، قال شهود عيان: إن المئات من أهالي شمال سيناء خرجوا للتظاهر، استجابة لدعوة قوى المعارضة، وأغلق المحتجون الطريق الدولي «رفح ? العريش» بالإطارات المطاطية المشتعلة، وأضاف الشهود أن المئات من البدو يستقلون شاحنات صغيرة توجهوا إلى منطقة قريبة من مطار الجورة، وهو قاعدة القوات الدولية بسيناء، للضغط على الحكومة، لتحسين أحوالهم المعيشية.

وفي الإسماعيلية، اندلعت مظاهرات بميدان الفردوس بمشاركة ما يقرب من 600 من النشطاء وأحزاب المعارضة وسط حراسة أمنية مشددة من قوات مكافحة الشغب والأمن المركزي، ووضع المحتجون ملصقات على جدران المباني تدعو لإقالة الحكومة وحل مجلسي البرلمان (الشعب والشورى) ووقف تصدير الغاز لإسرائيل.

وشهدت مدن بالصعيد مظاهرات أقل صخبا، ففي مدينة أسوان في أقصى الجنوب المصري، نظمت أحزاب التجمع والوفد والناصري وحركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير، مظاهرة في ميدان المحطة، ضمت أكثر من ألف متظاهر، وسط إجراءات أمنية مشددة، رفعوا خلالها اللافتات المطالبة بالتغيير.

وقال جمال فاضل، منسق الجمعية الوطنية للتغيير بأسوان، إن المتظاهرين حددوا بعض المطالب، وهي منع التوريث، ومنع التعذيب في أقسام الشرطة، وإلغاء جهاز أمن الدولة والمطالبة بالتغيير. وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «المظاهرة شهدت لأول مرة استجابة كبيرة من مواطني أسوان من مختلف المراكز، إلى جانب القوى السياسية، على الرغم من التعرض لمضايقات أمنية، كانت نتيجتها القبض على 5 أشخاص من أعضاء حركة كفاية واحتجازهم في قسم الشرطة».

وبث موقع الحزب الحاكم على الإنترنت تصريحات لأمناء الإعلام به من عدة محافظات، قالوا فيها إن الأوضاع مستقرة، ولم يحدث ما يعكر صفو الأمن العام فيها، وإنه من غير الصحيح إطلاقا قيام المواطنين بالاستجابة للدعوات الهدامة التي أطلقها بعض مروجو الفتنة والتخريب للتظاهر في يوم الشرطة أمس.

الشرق الاوسط

تعليق واحد

  1. كيف انتصرت الثورة التونسية
    بقلم السيد زهرة
    كيف تطورت حركة الاحتجاج في تونس، والتي بدأت حركة محدودة، الى ان وصل الامر في النهاية الى لحظة سقوط بن علي ومغادرته تونس؟
    الاجابة عن التساؤل مهمة ليس فقط لأي مهتم بتاريخ انتفاضات وثورات الشعوب ومهتم بفهم الثورة التونسية نفسها، ولكنه مهم لسبب آخر ايضا. الاجابة هي في الحقيقة تعين كثيرا في الجدل الدائر حول تاثيرات الثورة عربيا وهل من الممكن ان تندلع ثورات عربية شبيهة ام لا.
    بات معروفا بالطبع ان الشرارة التي اشعلت الثورة واطلقت بدايتها كانت اقدام الشاب بوعزيزي على احراق نفسه بعد ما تعرض له من اذلال واهانة على يد المسئولين ورجال الامن.
    غير ان هذا الحادث الفاجع لم يكن الا لحظة البداية، ولم يكن هو وحده بالذات الذي قاد الى تطور الثورة وحتى انتصارها.
    هذا الحادث لم يكن الا لحظة واحدة تلتها اربع لحظات، او محطات اساسية اخرى، هي في مجموعها معا التي تفسر انتصر الثورة.
    اللحظة او المحظة الثانية، كانت عندما تفجر الغضب الشعبي احتجاجا على فاجعة احراق بوعزيزي نفسه، وهو الاحتجاج الذي بدا محدودا في البداية ثم سرعان ما توسع وامتد ليشمل تونس كلها من اقصاها الى اقصاها.
    ورغم اتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية، كان من الوارد جدا ان تهدأ وتخف حدتها بالتدريج، لولا ما حدث بعد والذي يشكل المحطة الثالثة.

    كانت هذه اللحظة هي لحظة اقدام النظام على استخدام القناصة والقوات الخاصة التي اطلقت النار الحي على المتظاهرين، وبدأ الشهداء يسقطون.
    كان رهان النظام كما هو واضح على ان سقوط عدد من الشهداء بالرصاص، سوف يرهب المتظاهرين ويردعهم، ويلقي الرعب في قلوبهم ويدفعهم لمغادرة الشوارع والعودة الى بيوتهم.
    لكن الذي حدث هو ان هذا القمع الدموى للمتظاهرين اتى بعكس النتيجة التى ارادها النظام تماما. سقوط الشهداء امام المتظاهرين بكل هذه الوحشية، جعلهم ببساطة يعبرون نهائيا حاجز الخوف من النظام. بانكسار حاجز الخوف، لم تتواصل الانتفاضة فقط، بل دفع هذا القمع الدموي باتجاه تحول كبير في مطالب المتظاهرين وموقفهم من النظام.
    لنلاحظ انه قبل سقوط الشهداء، كان المتظاهرون يرفعون مطالب بسيطة من وحي فاجعة بوعزيزي، تتتعلق خصوصا ببطالة الشباب.
    بعد سقوط الشهداء، حدث تحول جذري. اصبحت مطالب حركة الاحتجاج تتجاوز هذا بكثير. اصبحت تطرح شكلا من اشكال القطيعة مع النظام، وترفع مطالب اخرى سياسية على نحو ما بات معروفا.
    ورغم وصول حركة الاحتجاج الى هذا الحد، كان من الوارد، نظريا على الاقل، امكانية احتوائها، لو ان النظام تصرف بشكل فوري حكيم ومسئول.
    لكن الذي حدث ان راس النظام، أي زين العابدين بن على، وفي الخطابات التي القاها حينئذ، وفي الوقت الذي كان يظن فيه انه يهديء الشارع، كان من حيث لا يدري يدفع الى العكس تماما. كان في الحقيقة يحفر قبره بيده.
    وكانت هذه هي اللحظة او المحطة الرابعة.
    كانت حركة الاحتجاج في ذروة اشتعالها، وكان المتظاهرون يوارون شهداء الانتفاضة الثرى، ويتدفقون الى الشوارع. وكان بن علي يصف هؤلاء المتظاهرين بانهم " ارهابيون" و"مخربون " ويتوعد بعدم التسامح معهم.
    كان هذا اكبر بكثير جدا مما يمكن ان يتحمله التونسيون او يتسامحوا معه، سواء في ذلك الذين يتظاهرون في الشوارع او الجالسين في بيوتهم.
    كان حال التونسين بالضرورة هو : هذا نظام يحتقرالشعب ولا امل في ان ينصلح حاله.. هذا نظام اياديه اصبحت ملطخة بدماء الشعب.
    دماء الشهداء كانت اعلانا للقطيعة مع النظام. اصبح بين الشعب وبين النظام ثأر.
    وبن على في مواجهة الوضع المشتعل المتفجر، كان يتخبط، يتخذ قررات متسرعة ارتجالية، ويجهد في تقديم التنازلات.. اقالة بعض المسئولين والوعد بتوفير 300 الف فرصة عمل.. الى آخر ما هو معروف.
    المهم هنا ان بن علي ظهر امام الشعب، ورغم الدموية في التعامل مع المتظاهرين، خائفا مرتبكا مرتعدا، لا يعرف ماذا عليه ان يفعل بالضبط.
    وكانت هذه لحظة او محطة اخرى في مسيرة الثورة.
    احد المحللين الغربيين عبر عن هذه اللحظة بقوله : بن على الذي حكم التونسيين بالقهر، كان قد اصبح امام التونسيين " امبراطورا لا يرتدي أي ملابس"
    وعند هذه اللحظة، عندما تيقن التونسيون ان " الامبراطور" اصبح هكذا خائفا مرتعدا، تدفقت الوف اخرى الى الشوارع. ولم تعد حركة الاحتجاج تتحدث عن اصلاحات تريدها.. اصبح للحركة مطلب وحييد.. رحيل بن على.
    ورغم كل هذا. رغم وصول حركة الاحتجاج الى هذه الذروة، لم يكن يخطرر ببال احد لا في تونس ولا في خارجها، ان اللحظة او المحطة الاخيرة سوف تأتي بهذه السرعة.. لحظة سقوط بن على فعلا ورحيله خارج تونس.
    حتى الآن، لا احد يعرف بالضبط وعلى وجه اليقين، ما الذي جرى خلف الكواليس في تونس، وقاد عمليا الى هذه اللحظة.. لحظة رحيل بن علي.
    الروايات هنا كثيرة جدا، وكل يوم تقريبا نقرأ رواية جديدة. هناك من قالوا ان قائد الحرس الرئاسي هو الذي القى الرعب في قلب بن على بحديثه عن اقتحام وشيك للقصر ودفعه للهروب سعيا لتدبير انقلاب لحسابه الخاص. وهناك من تحدثوا مثلا عن ادوار لعبتها بعض الدول العربية في هذا الشأن ولاقناعه بالرحيل. وهناك من تحدثوا عن دور امريكي وفرنسي غامض. وهكذا.
    لكن وسط كل هذه الروايات التي لا يعلم احد من المراقبين مدى صحتها من عدمه، فان الرواية الاقرب الى الصحة والتصديق تتعلق بالدور الحاسم الذي لعبه الجيش التونسي.
    الجيش التونسي الذي انحاز الى الشعب ورفض اطلاق النار على المحتجين، هو على الارجح الذي اجبر بن على الرحيل. اما كيف حدث هذا، فلا احد يعلم بالضبط.
    اذن، ومنذ الشرارة التي انطلقت باحراق بوعزيزي نفسه، وحتى رحيل بن على، ورغم ان عمر الاحتجاجات قصير لم يتجاوز شهرا واحدا، فقد مرت الثورة بهذه اللحظان او المحطات الخمس. ولا يمكن تفسير انتصار الثورة الا على ضوء تأمل هذه المحطات معا لا التوقف عند لحظة او محطة واحدة.
    اذا كان هذا هو تقديرنا لانتصار الثورة والتطورات التي قادت مباشرة الى ذلك، يبقى السؤال الأهم والاعمق هو: لماذا اندلعت الثورة اصلا؟.. بمعنى، ماهي العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي قادت الى تفجر الثورة؟
    ***

    اللغز
    بالنسبة لكثير من المحللين والمراقبين في العالم، يعتبر اندلاع حركة الاحتجاج الشعبي في تونس على هذا النطاق الواسع، ناهيك عن نجاحها في الاطاحة ببن على، يمثل لغزا بحاجة الى تفسير من زاوبة محددة.
    هذا اللغر سببه بالنسبة الى هؤلاء المحللين والمراقبين ان الاوضاع الاقتصادية في تونس في عهد بن على كانت جيدة بصفة عامة. ليس هذا فحسب، بل ان تونس كانت تعتبر في العشرين عاما الماضية احد النماذج الناجحة في التنمية، وفقا للمعايير العالمية المتعارف عليها. بل ان التونسيين، وفيما يتعلق بالأحول المعيشية بصفة عامة، لم تكن اوضاعهم اسوأ من الدول العربية الاخرى، بل هي عموما افضل من اوضاع شعوب عربية اخرى في الحقيقة.
    احد المحللين الغربيين مثلا، ويعمل في احد المنظمات العالمية لحقوق الانسان، عبر عن هذا بالقول بأن اصدقاءه التونسيين كانوا يقولون له باستمرار في السنوات الماضية ان الانفجار الشعبي يمكن ان يحدث في أي وقت. ويقول انه لم يظن ابدا ان ما يقولوه يمكن ان يكون صحيحا.
    ام السبب، فيشرحه هذا المحلل على النحو التالي. يقول:" هذا البلد لم يكن ناضجا ابدا للثورة. أي احد اتيح له ان يسافر الى مختلف دول المنطقة، كان بمقدوره ان يلاحظ ان التونسيين يتمتعون بمستوى للمعيشة افضل، وحياة افضل، نسبيا مما هو الحال في دول كثيرة. كان متوسط دخل الفرد اعلى من دول كثيرة. وتونس حققت بالمعايير الدولية معدلات عالية في تخفيض مستويات الفقر، وفي الارتقاء بالتعليم، والتحكم في معدلات النمو السكاني، والارتقاء بأوضاع المرأة. استطاعت تونس بناء طبقة وسطى عن طريق العمل وليس عن طريق اموال نفط مثلا. والسياحة قطاع مزدهر للغاية".
    محلل غربي آخر عبر عن نفس الفكرة، وكتب يقول : " رغم ندرة الموارد الطبيعية، فان سكان تونس يتمتعون بمستويات معيشة جيدة نسبيا، في مجالات الصحة، والتعليم، والخدمات العامة الاخرى. وايضا مستويات عالية من امتلاك المساكن. واقتصاد تونس مندمج في الاقتصاد العالمي، ويجذب الاستثمارات، والصناعات وخدمات الاوفشور، والسياحة، وينمو الاقتصاد بمعدلات سنوية تبلغ نحو 5% طوال العقدين الماضيين".
    وفي نفس هذا الاتجاه، كانت تقارير كل المنظمات الدولية تتحدث دوما عن تونس. كانت تعتبرها نموذجا ناجحا للتنمية.
    لنتأمل مثلا ما جاء في تقرير اخير للبنك الدولي عن تونس. يقول التقرير :" حققت تونس نجاحا ملحوظا في تحقيق النمو المتوازن بمحاربة الفقر، والوصول الى معدلات تقدم اجتماعي جيدة. فقد حقق الاقتصاد التونسي نسبة نمو 5% على امتداد العشرين عاما الماضية، مع زيادة مضطردة في معدل دخل الفرد، وزيادة مضطردة في رفاهية سكانها، مما ادى الى تقليل معدلات الفقر الى 7%، وهو من اقل المعدلات في المنطقة".
    ويمضي تقرير البنك الدولى قائلا:" والزيادة المضطردة في دخل الفرد كانت العامل الاساسي في تخفيض معدلات الفقر.. وكان للطرق الريفية اهمية خاصة في مساعدة الفقراء في الارياف على التواصل مع الاسواق والخدمات الحضرية. وبرامج الاسكان حسنت الاحوال المعيشية للفقراء، وساعدت ايضا على " تحرير" الدخل والمدخرات لانفاقها على الغذاء والمواد غير الغذائية، مما نتج عنه تأثيرات ايجابية في التخلص من الفقر"
    اذن، على ضوء مثل هذه التحليلات والتقديرات للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس، يتضح لماذا اعتبر البعض ان اندلاع الثورة في تونس، ناهيك عن انتصارها، هو لغز بحاجة الى تفسير.
    فبحسب هذه التقديرات، لا يوجد في الظاهر ما يبرر الثورة. اذا كان مثلا 7% فقط من التونسييين هم الذين يعانون من الفقر، و93% احولهم على مايرام في مجالات الغذاء، والاسكان، والصحة والتعليم، فأين الأزمة اذن؟.. ولماذا اندلعت الثورة"
    ***

    الفساد والقهر
    ما هي اذن، اوجه الخلل في تونس والتي قادت الى تفجر الثورة؟
    الجواب ببساطة يتمثل في امرين اساسييين:
    الأول : انه في تونس، وفي أي بلد، المشكلة ليست في تحقيق معدلات تنمية اقتصادية عالية بحسب المعايير العالمية، ولا ان تزدهر قطاعات اقتصادية معينة.. المشكلة، من المستقيد الاول من ثمار التنمية.. هل نصل ثمار التنمية الى عموم الشعب ام لا؟، ام ان اقلية محدودة هي التي تحتكر ثمار عملية التنمية؟
    بعبارة اخرى، لا معنى لتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية، مع غياب العدل الاجتماعي في المجتمع.
    والثاني : انه حتى لو استفادت بعض قطاعات الشعب من بعض ثمار عملية التنمية، كما حدث في تونس بالفعل، فان هذا وحده لا يكفي. القضية هي في ظل أي نظام سياسي واجتماعي بالضبط يحدث هذا؟
    وينقلنا هذا مباشرة الى جوهر ازمة تونس في عهد بن على، وازمة نظامه. الأزمة تتلخص في كلمتين هما، الفساد، والقهر، السياسي والاجتماعي.
    اما عن الفساد، فلقد كتب الكثير جدا بعد الثورة عن صور ومظاهر الفساد في تونس، مما لا يحتاج الامر معه الى تفصيل هنا.
    لكن الذي لا بد من التنويه به هنا، هو ان الفساد في تونس بلغ درجة من التوحش لا مثيل لها في أي بلد عربي آخر على الاطلاق.
    لقد وصل الامر كما بات معروفا الآن ان مقاليد الاقتصاد، والاعلام ايضا والسياسة بالتالي في تونس، وبالتالي كل مقدرات النظام، بيد عشرة افراد فقط، هم بن علي وزوجته الثانية ليلى الطرابلس وافراد العائلتين.
    وبحسب ما ذكرته صحيفة لوموند الفرنسية، فان بن علي وعائلته وعائلة زوجته، سيطروا على 40% من الاقتصاد التونسي، والتي قدرت ثروتهم بما يقرب من 15 مليار دولار.
    الكارثة ان هذا الفساد المتوحش في تونس لم يستثن احدا على الاطلاق، ولم يترك لنظام بن على أي حليف اجتماعي، بما في ذلك حتى طبقة رجال الاعمال التونسيين والمستثمرين الوطنيين.
    نتأمل مثلا هذا الذي قاله احد رجال الاعمال التونسيين. قال :" بالطبع كان على ان اشرك احد افراد الطرابلسي، حتى من دون ان يطلب هذا". واعتبر ان هذا الامر هو " ضريبة على ان ادفعها، وحين ادفعها لم يكن على ان ادفع الضرائب الاخرى"
    وكان احد المظاهر الكبرى لهذا الفساد استئصال المنافسين وازاحتهم من الحياة الاقتصادية بقسوة وبلا رحمة. انظر مثلا الى ما جرى لمحمد البوصيري بوعبد لي، المستثمر التونسي، الذي عاد من فرنسا وانشأ مدارس وجامعات خاصة ناجحة، ثم لم تتردد ليلى بن على في تدمير مشروعه حين ارادت انشاء مدارس خاصة تابعة لها.
    مؤسسة " جلوبال فاينناشيال انتجرتي " قدرت في تقرير لها قبل اسابيع ان " كمية الاموال غير القانونية التي تفقدها تونس سنويا بسبب الفساد والرشوة والابتزاز والانشطة الاجرامية والتلاعب بالأسعار، بلغت مليار دولار سنويا خلال الفترة من 2000 الى 2008"
    اما عن القهر السياسي، فحدث ولا حرج، وهو امر لم يعد ايضا بحاجة الى توضيح.
    كما هو الحال مع الفساد، فان قهر الشعب التونسي سياسيا واعلاميا بلغ ايضا حدا رهيبا من التوحش.
    اذكر قبل سنوات، كيف تحدث صحفي تونسي لاحدى وكالات الانباء، دون ان يجرؤ على ذكر اسمه طبعا، قائلا : انني لا اجرؤ حتى عن ان اتحدث عن ارتفاع اسعار البصل، فلو فعلت لا اعرف ما الذي يمكن ان يحدث لي.
    احد المحللين الغربيين لخص الوضع هنا بقوله " المثقفون والناشطون السياسيون تم اقصاؤهم تماما من الحياة السياسية منذ مطلع التسعينات. بعضهم ايد الحكومة خوفا من الاسلاميين. والآخرون لم يجدوا جدوى من الانضمام للمعارضة، حيث كان الثمن الذي عليهم ان يدفعوه عاليا جدا.. الملاحقة البوليسية، والطرد من العمل، والمنع من السفر.. الخ".
    وبالطبع، كان الشباب التونسي هو الضحية الاكبر لهذا القهر والاستبداد. هذا الشباب المتعلم، والذي يعرف العالم وما يجري فيه، والعاجز في نفس الوقت عن مجرد ان يرفع صوته او يعبر عن نفسه.
    هذا اذن هو الوضع الذي قاد الى الثورة في تونس. هذا الخليط المرعب من الفساد المتوحش والقهر والاستبداد، لم يترك للشعب، وخصوصا الشباب أي بارقة امل في المستقبل.. هذا هو الخليط الذي قاد الى الانفجار الشعبي، ولم يشفع للنظام أي معدلات تنمية اقتصادية عالية.
    ***

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..