حيدر إبراهيم علي: المثقف الملتزم

محمد محمود
إن جوهر الأزمة تحديدا هو أن الماضي يحتضر والجديد ليس بقادر أن يُولد
قرامشي
عندما أنظر للساحة الفكرية في السودان اليوم فإنه لا يخالجني شكّ أن الدكتور حيدر إبراهيم على هو أبرز المثقفين الذين أثْرُوا حياتنا الفكرية على مدى ربع القرن الأخير بدءا من كتاباته الاجتماعية وكتابه الرائد أزمة الإسلام السياسي: الجبهة الإسلامية القومية في السودان نموذجا وانتهاء بكتابه الديمقراطية السودانيه: المفهوم، التاريخ، الممارسة الذي يمثّل أعمق استجابة فكرية سودانية على مستوى التنظير والتوثيق حتى اليوم لمشكلة توطين الديمقراطية في الواقع السوداني. وبالإضافة لإنجازه الفكري والأكاديمي فقد قدّم حيدر إبراهيم علي إنجازا آخر متميزا وهو صرح مركز الدراسات السودانية الذي تعهده بهِمّة لا تعرف الكلل وعزيمة لا تعرف التراجع منذ أن كان بذرة صغيرة إلى أن أمسى شجرة وارفة الظلال طيبة الثمار.
وعندما نتأمل مسيرة حيدر إبراهيم علي على مدى كل هذه السنوات ومساره الحالي وهو يتجرّد للبحث والكتابة في منفاه القاهري، يصحو مبكرا ليواصل رحلة البحث والتنقيب والكتابة ويهجع وهو منشغل الفكر واللبّ، فمن الطبيعي أن نتساءل: ما الذي يحرّكُ الرجل ويُخْرِجُ منه كل هذه الطاقة؟ لقد كان من الممكن لحيدر إبراهيم علي أن يفعل ما فعله الكثيرون من أبناء جيله وغير جيله وينصرف لإغراء حياة الوظيفة السهلة الرغدة وخاصة أنه صاحب مؤهل عالٍ، إلا أنه اختار أن يركب الدرب الصعب. ما الذي يفسّر ذلك؟ هل تذكرون تلك الجملة الشهيرة التي ختم بها ماركس أطروحاته عن فيورباخ عندما قال إن الفلاسفة قدّموا تفسيرات مختلفة للعالم إلا أن القضية هي تغيير العالم. إن ماركس كان في واقع الأمر يتحدّث أيضا عن نفسه وعن التزامه كفيلسوف وكمثقف، وكان عندما كتب أطروحاته قد حسم أمره وأصبح منحازا لصف من يريدون تغيير العالم. وملاحظة ماركس الثاقبة هذه امتد ظلها إلى كل النقاشات من وقتها إلى يومنا هذا حول المثقف ودوره. وهكذا فإن قرامشي عندما تحدّث لاحقا عن “المثقف العضوي” وسارتر عندما تحدّث عن “المثقف الملتزم” فإنهما كانا في واقع الأمر يتحدثان عن مثقف ماركس الذي يريد تغيير العالم بدلا من الاكتفاء بتفسيره.
إن حيدر إبراهيم علي هو أكثر مثقف سوداني كتب عن المثقفين ودورهم وأزمتهم وهو في هذا لم يكن مجرد أكاديمي يستهلكه الانشغال التفسيري من زاوية علم الاجتماع وإنما كان مثل ماركس منشغلا بالقضية الكبرى، قضية تغيير العالم، وكان قد حدّد سلفا انحيازه. وإذا نظرنا للهمّ التغييري لحيدر إبراهيم علي على مدى العقدين السابقين فإننا نجده قد تركّز من ناحية على تأصيل الديمقراطية والعلمانية ومن ناحية أخرى على نقد المشروع الإسلامي (خاصة في تبدّيه كدولة أو كـ “إسلام سياسي”). ولا شك أن الهمّين متداخلان، وهو ذلك التداخل الخلاّق بين الهدم والبناء، بين التفكيك وإعادة التركيب، بين الإزاحة والإحلال، بين التجاوز وتحقيق البديل — إذ لابد من إزاحة وتجاوز الواقع القديم من أجل إحلال وتحقيق الواقع الجديد البديل.
وفي تجرّده لمشروع التغيير فقد جسّد حيدر إبراهيم علي المثقفَ الملتزم خير تجسيد (وأنا استخدم هنا تعبير الالتزام بمعناه السارتري الذي لا يفصل فعل الكتابة عن فعل تغيير العالم، وهو مفهوم عبّر عنه إدوارد سعيد فيما بعد عندما تحدّث عن “المثقف العام”). ولأن فعل الكتابة عند حيدر إبراهيم علي لم ينفصل عن فعل “تحريك الكتابة” فقد بادر في إطار مشروع مركز الدراسات السودانية بإنشاء وتحرير مجلة كتابات سودانية والتي أصبحت من أنشط ساحات مناقشة قضايا التغيير على كل المستويات ومنبرا فعّالا من منابر تأسيس خطاب جديد ديمقراطي وعلماني وتقدمي يتجاوز الخطاب الإسلامي السائد (ولعلها أطول المجلات السودانية الفكرية عمرا إذ صدر منها حتى الآن ثلاثة وخمسون عددا).
ومما يميّز حيدر إبراهيم علي جدّيته التي تبرز في مثابرته البحثية واتساق مواقفه. فالبحث والكتابة همّان مقيمان لديه لا ينقطع عنهما. وسواء كتب دراسات ذات طبيعة أكاديمية أو كتابات موجهة للقاريء العام فإن الأرضية المشتركة التي تجمع بينها هي أرضية الاتساق الفكري المستند على التزامه بالتغيير، إذ أن الكتابة عنده ليست ترفا ذهنيا أو استعراضا أكاديميا وإنما مساهمة فاعلة تشارك في دفع التغيير.
أما اتساق مواقف حيدر إبراهيم علي فإن ما يفسره في تقديري هو أن التزامه كان دائما من نوع الالتزام ذي البعد الأخلاقي. فرغم أنه ذو موقف سياسي واضح، وأن السياسة عنده لا تنفصل عن الموقف من العالم إلا أنه ابتعد وعن قصد عن الانتماء السياسي بمعناه الحزبي الضيّق وفضّل التعبير عن موقفه من موقع استقلاله الفكري. وهذا الموقفُ موقفٌ لا ينفصل فيه السياسي عن الأخلاقي — فالدفاع عن قيم مثل الحرية والمساواة والعدل ورفض استغلال الإنسان للإنسان هو في نهاية الأمر موقف أخلاقي سابق على السياسة ومحيطٌ بها. وهذا الاستناد على موقف أخلاقي أصيل هو ما يحيل الفعل السياسي لفعل تحرير حقيقي بدلا من أن يكون فعلا يكرّس القهر والاستبداد.
هذا التحرير للوعي والإرادة ظل هاجس حيدر إبراهيم علي وهمّه المقيم الذي يصحو ويهجع وهو منشغل به، وما بين الصحو والهجوع يكتب ويكتب بهدف خلق وعي جديد، إذ أنه من الذين يؤمنون بأن “الظلم أو الفقر ليس سببا في قيام الثورات ولكن الوعي بذلك هو السبب”.
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
[email][email protected][/email]
مثل الدكتور حيدر لايجب ان يكون فى الخارج…فلقد اوفى وابدع فى التغيير النظرى ..واعتقد ان هذا يكفى…المطلوب الان..معرفة امكانية تطبيق كل الذى تكلم عنه ..ليتحول الى قيادة شعبه..الى الانعتاق والحرية والعدالة….فيتحول الى قيادة ملهمة..لامة محتاجة لكل بنيها .. فى هذة اللحظة المفصلية
من أجمل ما قرأت عن الأستاذ حيدر …
ولكني أتساءل عن مدى قدرة المثقف على التغيير في مجتمعاتنا
عندما كان سارتر يكتب لفرنسا لم يكن المجتمع مكون من قبائل ومجموعات
إثنية متناحرة. عندما كتب سارتر كانت الدولة قد تجاوزت إشكال الدين والدولة بل
كانت دول حديثة متنافسة فيما بينها رغم ما أدى إليه هذا التنافس من حروب ودمار !
المغير الآن في الساحة السياسية هم حملة السلاح في الصراع الدائر ..المثقفون يحاولون اللحاق بركب الأحداث
او هم كنت يحاول إجراء عملية قيصرية لهذه الولادة المتعسرة جداً .
لك شكري وتقديري
لقد اخذ مقابل ذلك الكثير من الخواجات حيدر على يعيش عيشة الامراء فى الخارج ولايستطيع غيره فعل ذلك كفايه كذب كفايه اوهام اترك الامر لفطنة القارى
مقال اكثر من رائع ولو انه لم ولن يوفي حق الدكتور حيدر ابراهيم مهما كتب من مقالات او كتب لان الرجل من العلامات القليلة النادرة والناصعة في بلادي يدهشك بعلمه الغزير وتواضعه الجم المثير، اول مرة التقيت به كانت في مكتبه العامر في مركز الدراسات السودانية في العام 1995 ومنذ ذلك الحين وانا في حالة إنبهار من ذلك الرجل الامة إذا جاز لي ان اعبرعن ما بداخلي من تقدير وعرفان لشخصه الكريم أطال الله لنا في عمره ومتعه بالصحة والعافية ليتحفنا من فيض عطائه الثر وليثري لنا الساحة الفكرية والسياسية الادبية بمزيد من الكتب والمقالات.
نرجو ارسال هاتفك يا عادل امين عبر راسلنا
لك التقدير
ليس سبايا في قيام الثورات ولكن الوعي بزلك هو السبب
+ عريض التحية والتقدير الى كليهما: حيدر ابراهيم ومحمد محمود معاً.. فهما من أفضل الأكاديميين والمثقفين السودانيين في العقود الأخيرة .. وضمن التاريخ العام للمثقفين السودانيين !!
+ كلاهما ينطبق عليه توصيف الالتزام وتعبير المثقف العضوي !!
+ فكلاهما متجرد وعميق وشجاع وشديد الاهتمام بقضايا شعبه وقضايا الانسانية بشكل عام .. وكلاهما يعول كثيرا على سلاح الفكر وفاعليته.. حتى ان لم يكن على المستوى القريب, فحتما على المستوى البعيد.. والعمل الفكري والسياسي عموما غالباً ما تأتي نتائجه بعد حين…!!
+ ومن أم ما يتميزان به أنهما عرفا كيف يشتغلان بفاعلية وعمق بعيد عن التحنيط الفكري الثابت والقولبة الأيدولوجية الثابتة !!
+ وكلاهما معنيان بقضية التنوير في مجتمعاتنا.. كلا حسب قناعاته.
+ فقط أقول أن ايقاع محمد محمود يبدوا سريعا جداً .. وأن حيدر ابراهيم به حدة أحياناً وهناك ملاحظات حول تعميماته الأخيرة الخاصة بالتحول من “نقد النظام” الى نقد “العقل السوداني” .. وبعض الفرضيات ضمن هذا التوجه الجديد !!
من اسوا ممارسات النظام الراسمالي تغير كل المفاهيم الحياتية من حيث الفكر والفلسفة والثقافة عموما ، المثقف ،العالم، والسياسي الكل يبحث عن كيفية تحسين اوضاعه الحياتية والتى بكل اسف ليست لها سقف محدد في هذا الزمن ،في سبيل تحقيق تلك الغاية يفعل الانسان مايشاء من اساليب ، والقصد من تلك البداية اثبات عدم اهمية الفكر في مخيلة مخلوق هذا القرن ، والدكتور حيدر ابراهيم من حيث التنظير في مشاكل الواقع السوداني قدم الكثير من الدراسات التحليلية ولكن بكل اسف قلة من يتابعها وذلك لاسباب كثيرة من اهمها قوة اعلام تغبيش الوعي بتوصيل رسالته المشوه لصورة العقول المستنيرة امثال الدكتور وغيره من المثقفين ،،،
..تحية لكاتب المقال ..كلام جميل عن ألاستاذ حيدر ..فالمساهمة فى الوعى شئ سامى..وقد كانت أجابة المفكر الشهيد عبد الخالق محجوب عند سئل وهو يواجه الإعدام أمام المحكمة العسكرية عما قدمه للشعب ؟ أجاب وعى الشعب بقدر ما عندى !.. التحية لجميع المساهمين بالوعى..نور وهاج يضى ظلمة الحياة ويساعد على رفع الظلم..عن كاهل..*محمد أحمد المسكين!…نحن رفاق الشهداء..الصابرون نحن..
الدكتور حيدر له مؤلفات عديدة لكنه لا يقبل النقد وإختلاف الأراء والدليل على ذلك مقاله الأخير فى الرد غير المباشر على مصطفى البطل كذلك دكتور حيدر يحسب عليه قبوله تحويله مركزه للعمل من داخل الخرطوم فى فترة معينة وقد أعطى دون أن يدرى قبلة الحياة للحكومة خاصة أن الحكومة لاترحب باى مركز يعمل ضدها .
لماذا قبل د.حيدر فتح مركزه داخل الخرطوم فى ظل هذه الحكومة التى تكبل الأراء مع ملاحظة حدة حيدر فى المعارضة حين تم قف مركزه ..
أشاطرك الرأي . لا أجد في الساحة الفكرية السياسية السودانية من هو أكثر ألتزاما واكثر عطاءا من الدكتور حيدر و طالما تحسرت على انه لم يجد التقدير الذى يستحقه في هذا الوطن الضائع …
سبحان الله حيدر ابراهيم!!!!!سوف تروا الحقيقة بعد فوات الاوان …