أخبار السودان

كانوا كبارا فتركوا لنا وطنا كبيرا ..

كانوا كبارا فتركوا لنا وطنا كبيرا ..

محمد عبد الله برقاوي ..

كثيراً ما تستهويني الكتابات الموسوعية بقلم إبن البلد الأصيل الأستاذ شوقي بدري أمد الله في أيامه وكنت أتمنى أن يكون لي مثل ذاكرته اللاقطة تلك مع فارق التجارب طبعا والمعايشات التي طبعت في نفس الرجل من الذكريات ما أفاد به أجيال الحاضر عن حقب ربما كانت تفاصيلها غائبة على الكثيرين منهم ..!
فهو يكتب من على البعد في بلاد تموت طيورها وحيتانها من الصقيع ولكنك تتابع سطوره وكأنه خطها وهو جالس عند لبخات أبوروف أو من خلال رحلة صيد في راجا أو منبطحا في رمال الأبيض الخريفية …هو فعلا داخل الوطن متجولا في كل زواياه .. على عكس الكثيرين من مثقفينا الذين نجدهم خارج الصورة وهم يكتبون من داخل الوطن ..إما هم مغيبون عن أزماتنا لإندغامهم في مسببات تلك الكوارث وإما مترفعين أو قل يعيشون في حالة فصام بين نرجسيتهم المعرفية وبين خوفهم المجاهرة بما يختزنون في ذاكرتهم عن العوامل التاريخية والآنية التي صنعت تلك الأزمات !
فأقزام السياسة أن جاز لنا وصف القادة الشموليين من العسكر الذين إبتلى الله بهم هذا الوطن لا يمكن أن تكبر سطوتهم إلا حينما يستهدفون الكبار من أصحاب القيم الوطنية والمبادي السياسية وطهارة اليد وصفاء النية ويقربون اليهم المتلمظين للمكاسب الذاتية ولو كانت على حساب الحق العام .. وتلك واحدة من مصائب الكثير من دول المنطقة التي يتصاعد حريقها الآن في هشيم تلك الأنظمة التي ساندها أولئك النفر وقفزوا عنها بعيداً قبل أن يلامس اللهيب حللهم البهية !
مخطئون هم الذين يظنون أن الجنوب قد ذهب عنا لآن أهله إستجاروا بنار الإنفصال في عهد المؤتمر الوطني الذي أهداهم سانحة تقرير المصير على طبق الوهم التي حملته الحركة الشعبية هرباً من رمضاء الوحدة غير الجاذبة ..فهنالك يد أخرى هي التي بدأت مبكراً في تخريب ما بنته هي نفسها .. فحينما إستعصى الجنوب وكان كبيراً في مكونه الإداري على سيطرة جعفر النميري التسلطية .. عبث بتلك الوحدة وفتتها ومن هنا كانت مهمة الإنقاذ سهلة حينما لم تجد الى تركيع الجنوبيين بفوهة البندقية سبيلا وأستعصت خضرة غاباته على سياسة الأرض المحروقة !
مشروع الجزيرة هو الآخر كانت الإنقاذ مكملا لما بدأته سلطة نميري الذي حقد على أهل الإقليم كله وقد وقفوا صناديدا كالألف الأحمر في وجه ديكتاتوريته .. فاستهدف الكبار من قادة إتحاد المزارعين واستبدلهم بأخرين ..لكنهم والحق يقال كانوا أيضا من الإخلاص ونظافة الأيد بالقدر الذي لا يستطيع أحد أن يقدح في أمانة أحدهم أو ينعته بسبة الفساد أو الثراء على حساب أهلهم رغم موالاتهم لمايو ولكن بالقدر الذي لم يدفعهم للتأمر على المشروع بهذا المستوى الذي فعله من صنعتهم الإنقاذ .. فخربوا لها مثلما أرادت بل وأكملوا ناقصة مايو ولكنهم قبضوا الثمن فادحا من شرايين الوطن وقد أحرقوا زرع المشروع وقطعوا ضرعه بعد أن رضعوا لبانة أبنائه سحتاً ..!
من منا لا يذكر نزاهة الشيخ عبد الرحيم أبو سنينة أو جسارة الأستاذ عبد الجليل حسن عبد الجليل .. نعم ساندوا نميري ولكنهم ما أضروا بفساد أو ماتوا وهم أثرياْ وغيرهم كثر طيب الله ثراهم!
نعم منذ العهود الأولى للمشروع تقلب فيه أداريون وطنيون عدة على مختلف سياساتهم ورؤاهم .. منهم الخبير المختص أو التنفيذي الكفء .. لكنهم لم يختلفوا أبداً حول بقائه كبيراً أو في أهميتة كثروة قومية مقدسة ولم يفت في عضد إخلاصهم ولائهم لحزب بعينه ولا باعوه لمصلحة حاكم متسلط أو نظام متجبر ..حتى قادة إتحاد المزارعين الذين كانوا يأتون بإرادة أهل الحق على إختلاف أحزابهم ومشاربهم السياسية ومناطقهم كانوا كبارا في خلافاتهم مثلما كانوا خلصاء في عطائهم .. فلم نسمع أن الراحل الشيخ الأمين محمد الأمين اليساري النهج قد أساء يوماً لا بالتصريح ولا بالتلميح للشيخ أحمد بابكر الأزيرق الأنصاري العقيدة أو طعن في عفة لسان أو نظافة يد ذلك المزارع المثقف الشيخ محمد عبد الله الوالي الإتحادي المخلص .. !
كما نجد الكثير من ابناء ورجالات الجزيرة الأطهار الذين نفضوا يدهم من الحركة الإسلامية مبكراً حينما إتبعت هوى المال وانزلقت في وحل السلطة وأستشعروا بدنو الخطر على المشروع .. فاثروا الموت على مبادئهم بدلا من تلويث صحائفهم الناصعة بسبة تدمير الوطن ومشروعه فهناك الشيخ العالم الورع مولانا محمد حامد التكينة وشقيقه الشيخ عبد الرؤوف عليهما الرحمة ..!
تصغر الأوطان وتتجزأ حينما يغيب العمالقة ويصعد الأقزام فوق أكتاف الغفلة …وتبكي الشعوب حينها بلاداً تساقط ترابها قبل تبرها من بين الأصابع التي لم تضمها الى كفها جيداً ..فتنائرا وتلقفتهما أفواه الجوعى للسلطة و الملهوفين على المال .. وليتهم شبعوا وتركوا الفتات للجوعى للطعام المنتظرين في طوابير الموت ..!
نعم لكل إنسان أخطاؤه في الحياة وربما أخطأ أولئلك الكبار قليلاً فهم بشر في النهاية ولكنهم أصابوا كثيرا كمخلصين لهذا الوطن ومشروعه الرائد فتركوه لنا كبيرا موحدا منتجا مرفوع الرأس به بين الدول لذا فإن كتاب التاريخ سيمجدهم دوماً ويخلدهم بالذكر الحسن .. ولكن وا .. حسرة من يلعنهم ذلك التاريخ وهو يتأفف منهم وهم في أحضان مزابله ..!

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. مع التحيات يرجى تعديل إسم كاتب المقال في الواجهة .. حيث نسب للزميل كمال الهدي .. مع الشكر ..
    برقاوي

  2. في السبعينات 1974 كان موقفه من السكة الحديد كويس جدا وقام باتفاق لتوريد القاطرات من المانيا وامريكا والان كلها معطلة لعدم توفر الاسبيرات
    ولكن في اخر ايامه غضب علي ناس عطبرة وقرر ينقل السكة حديد وقسمها الي اقاليم وفشل في نقل السكة الحديد وقفل عطبرة فشلا دريعا
    اما في عهد الانقاذ فقد تم تحطيم السكة حديد مع رصيفاتها من بحري و جوي ونهري ومشروع الجزيرة والمخازن والمهمات والنقل الميكانيكي
    ونهوا السودان نهاية مرة
    لانه هذه كانت المؤسسات التي ورثناها من المستعمر ولم يتم تطويرها بل تدهورت في عهد انقاذ

  3. لك التحية أستاذ/محمد عبدالله برقاوي. لقد أوفيت الموضوع حقه. فقط أضيف أن الدمار الذي لحق بمشروع الجزيرة من قيل الحكام الحاليين تجاوز ما فعلته مايو أضعافاً كثيرة.

  4. في عهد الرئيس نميري
    في السبعينات 1974 كان موقفه من السكة الحديد كويس جدا وقام باتفاق لتوريد القاطرات من المانيا وامريكا والان كلها معطلة لعدم توفر الاسبيرات
    ولكن في اخر ايامه غضب علي ناس عطبرة وقرر ينقل السكة حديد وقسمها الي اقاليم وفشل في نقل السكة الحديد وقفل عطبرة فشلا دريعا
    اما في عهد الانقاذ فقد تم تحطيم السكة حديد مع رصيفاتها من بحري و جوي ونهري ومشروع الجزيرة والمخازن والمهمات والنقل الميكانيكي
    ونهوا السودان نهاية مرة
    لانه هذه كانت المؤسسات التي ورثناها من المستعمر ولم يتم تطويرها بل تدهورت في عهد انقاذ

  5. وانت ايضاً الاستاذ محمد عبدالله برقاوي كبيرا وستظل من الكبار الذين يذكرهم التاريخ كل لما ذكر الكتاب والصحافة لانك رجل غيور بكتاباتك القيمة علي هذا الوطن المجروح ودمه ينزف بفعل تجار الدين الفاسدين الكلاب ، ورحم الله الاستاذ الكبير الطيب صالح ومقولته المشهورة ( من اين اتي هؤلاء )

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..