العلم والسياسة? هنالك فرق

العلم والسياسة? هنالك فرق
عبد اللطيف عوض الضو
إذا تأملنا ملياً في أعراض ما اعترى الواقع الاجتماعي والسياسي ومن خلال رصد ذلك يمكن ان يثور السؤال التالي .. ما هو الدور المطلوب من المثقفين فيما يخص قضايا المجتمع ، وبالنحو الذي يسهم في عملية البناء الداخلي للمجتمع ، وبالنظر للواقع الاجتماعي والسياسي ومنذ أكثر من عقدين من الزمان نستطيع ان نتلمس حالة التراجع الثقافي الكبير ، هذا التراجع يمكن تجسيده في ان المثقف بات يستهلك الثقافة ويروج لها دون الارتباط بقضية معينة ، وذلك للسبب الاساسي الذي يواجه فيه المثقف المزيد من الدفع نتيجة الى التأثير الموجه من السلطة الحاكمة ، بغرض إلغاء فاعلية المثقف المتميز بعمق المعرفة والمسئولية الواعية ، وهذا ما يرتبط على مستوى التاريخ باجهاض المشاريع الوطنية ، مقابل نشر حالة اعلامية مهترئة تعمل على تبديد الثروة الثقافية الوطنية ، وتتبدى المشكلة بوجهها السافر ، والتي تعتمدها السلطة القائمة من خلال حديثها على الاهتمام بالعقل الثقافي ، أو في استفاضتها بالحديث عن الغزو الثقافي والاعلامي ، ولا تفعل شيئاً تجاهه سوى التخويف منه ، او عندما تنتقد التطبيق الثقافي والسياسي مع اسرائيل في الوقت الذي تضطهد فيه المثقف ، هذا الواقع جعل من قضية القمع والاستلاب الثقافي اكثر قساوة في ظل الصراع الاجتماعي السياسي الراهن .
إن قضية استغلال العنصر الثقافي جنباً الى جنب مع العنصر الاقتصادي لأجل السيطرة على مقومات ومقدرات البلد يعد عقبة ضخمة امام عجلة التطور والتنمية الاجتماعية . إن ما يجري وصفه بأنه ثورة تعليمية الغرض منها انتشار التعليم ومحو الأمية أضحت جسوراً لأجل تحقيق السيطرة الطفيلية عبر الاستجابة للإيحاءات الاستهلاكية والسلوكية التي يتم الترويج لها ، والمفارقة المكشوفة تكمن في اختيار المناهج التعليمية المتبعة ، التي تعمل على تعطيل العقل وتزعزع مبادئ العمل وقيمه ، وبالمقابل تعزز التوجه الآيل الى قمع التفكير العملي والحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية ، وبالدرجة التي تجعل الانسان يقف بعيداً عن قضايا مجتمعه ، مما ينطوي وينعكس على عملية الاصلاح السياسي وتغيير العلاقات الاجتماعية والنهوض بالوضع الاقتصادي ، وبالتالي التغلب على النزاعات والحروب القبلية التي تدور ، لذا يمكن ملاحظة أن واقع نقص الثقافة الوطنية يقابله عدم استعداد لنشر التعليم الاجتماعي القائم على اكتساب المعارف الثقافية الوطنية ، وتبقى النتيجة الحتمية لذلك هي ان واقع المستوى الثقافي قد انعكس على التطور الاجتماعي ، ان الثقافة المتحضرة هي في الواقع مزيج من المعرفة في شتى العلوم الانسانية والاجتماعية ، وهي جزء من المقومات المؤثرة في مجرى حياة الشعب ، وتظهر بصورة جلية على أنماط سلوكية افراد المجتمع تحت تأثير ما يمتلكه المجتمع من مناهج فكرية توظف في إطار تهذيب السلوك البشري ، وبالتالي خلق امكانية التنمية والتطور ، ولذلك يبقى العلم هو المرتكز الاساسي الذي يقوم عليه البناء الثقافي العام ، ويشكل إطاراً للعلوم المتخصصة التي تعتبر اساس الارتقاء الصناعي والزراعي والخدمي للمجتمع ، بمعنى أن التخصص المعمق في مختلف الجوانب العلمية يشكل حالة من الدينامية المتفاعلة بين التطورات العلمية والمجتمعية الطبيعية ، إن العلم كمعرفة بدأ منذ بدء التاريخ البشري كعمل موثق استطاع الانسان أن ينقل به وبشكل مباشر تجربته للمجتمع ، وأن يخلدها عن طريق توريثها الى الاجيال القادمة.
إن المعرفة هي انتاج انساني شامل وهي فوق حدود الزمان والمكان ، إن تخصصية العلم تدفع به نحو التطور وتجعله اكثر فاعلية في خدمة الانسانية ، فالعلم ومن خلال مساراته المختلفة محكوم بآلية جدلية ، فتطور الفروع العلمية يدفع بالآفاق الفكرية نحو التفتح والنمو واكتشاف الحقائق كاملة ومجردة ، عليه فإن العلم عنصر اساسي في تكنيك الانتاج ، فهو يلعب دوراً هاماً في مسألة تقدم الحياة وتطورها وفي تحديد درجة سائر أنواع الوعي الاجتماعي الذي يختزنه المجتمع في عقله الجمعي لإدارة قضاياه الحياتية .
إذن لابد من خطة شاملة للنهوض بالعمل والتعليم انطلاقاً من التماسك بين السياسات العلمية والمرافق المؤسسية والقيم الاجتماعية والتطورات الاقتصادية والاهداف الشخصية ، ويجب ان يراعي هذا التماسك عناصر تنوع السلوك ووحدته على حد سواء .
إن القضية المحورية التي تتشكل في أفق الممارسة السياسية الراهنة هي العلاقة بين العلم والسياسة ، أو بين المثقف والسلطة فهي التي من خلالها ، أي جدلية العلاقة القائمة يتم الادراك الحقيقي لماهية التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يتناغم مع بعضه البعض في ظل تلمس وتبيان معالم الحريات وفتح المجاري اللازمة لتطور الممارسة الديمقراطية ، وكل ذلك يساهم وبدرجة قصوى في إعادة صياغة تصوراتنا لذاتنا ، استدراكاً للقضايا المصيرية التي باتت تهدد مستقبل هذا البلد وتجره جراً الى هاويات التلاشي والانهيار ، غير أن الرهان الاساسي يظل قائماً على طرق المعرفة في دعم الثقافة الاجتماعية تسخيراً لانسياب سلطوية العلاقة في صراعها المتعمق والمتجذر ، استنهاضاً لقيم المجتمع في نطاق حركة التاريخ .
الميدان