الجبهة السودانية للتغيير : البرنامج السياسي (وثيقة الحل)

الجبهة السودانية للتغيير

البرنامج السياسي
(وثيقة الحل)
مقدمة:
إن الأزمة السياسية المتمكنة، والتي تصاعدت تياراتها في ظل النظام الحالي قد عمقت الآثار السالبة التي شملت مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، بصورة لا يمكن مقارنتها بما كان عليه الحال في أي وقت مضى ـ من قبل وبعد الاستقلال ـ الذي تحقق في مطلع يناير عام 1956. قد أوصلت البلاد إلى حافة الإنهيار ولم يتبق لها إلا السقوط الشامل في مستنقع التشرزم والتفكك.
لقد وضعت التجربة الاسلاموية ودولتها الشمولية، القائمة على نظرية الإسلام هو الحل، تلك النظرية التي أدخلت البلاد في مأزق تاريخي مفصلي. وأنتجت تيارات وأساليب من العنف الممنهج لم يعرف له الشعب السوداني مثيلا على مختلف حقب تعاقب أنظمة الحكم عليه. وهو عنف غطت مساحاته، كل أنحاء البلاد وتجاوز الأفراد إلى الجماعات والمناطق، فكانت نتائجه إزهاق أرواح كثيرة لا تحصى من الشعب السوداني، وهدد أمن المواطنين وأجبر عشرات الملايين منهم على النزوح والهجرة والتهجير واللجوء. وهكذا، إتسعت دائرة الهوامش وتعطلت حركة نماء وتقدم البلاد ووصلت تيارات النزوح والهجرة درجات قياسية مما جعل السودان واحدا من أكثر الدول الطاردة لمواطنيها. غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد إذ أن من أخطر ما أنتجت التجربة الإسلاموية الشمولية فقدان البلاد لجزء عزيز منها، وهو الجنوب، ووضعت البلاد كلها أمام خطر تمزق قد يصعب تداركه، كما وسعت مساحات الحروب والدمار، وأدخلت أساليب منافية لأبسط قواعد الإنسانية، تمثلت في أساليب التعذيب واغتصاب النساء والرجال وقتل الأطفال. لقد أنتجت تجربة الإسلامويين في الحكم القائمة على التمكين والكسب غير المشروع والفساد بمختلف أوجهه، الذي تجلى في العديد من مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمثلت في إفساد الحياة السياسية وذلك بإدخال المالي السياسي لتفكيك الأحزاب وشرزمتها، والانهيار الاقتصادي الكامل، ومظاهر التفكك المجتمعي فأصبحت المناطقية والجهوية والقبلية والعنصرية قيم لها مؤسساتها.
وإن كانت بعض جذور الأزمة السودانية على إطلاقها تعود لأسباب متعددة، تواترت منذ الفترة الأستعمارية، ثمّ تطورت في مراحل ما بعد الاستقلال، إلا أن تجربة الجبهة الإسلامية القومية في الحكم قد أعطت كل ذلك أبعاداً جديدة ومدمرة لم يتعارف عليها أهل السودان. الأمر الذي أدى إلى طمس العديد من عناصر هوية الشعوب السودانية ومكوناتها الثرية والمتنوعة، والتي تعايشت وما زالت تتعايش في السودان، وغيرت من عناصر خصوصياتها التي ميزت تجربتها الإنسانية عن تلك التي شملت من جاورها في المحيطين العربي والإفريقي. لقد أصبح واضحاً أن السبب الرئيسي وراء كل ذلك، هو أن تيارات تلك الأزمة، قد تحولت من تجربة التعايش المتداخل للكيانات الإنسانية السودانية، إلي صراعات ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية أكبر من أن تديرها عقلية وبرامج الدولة المركزية، التي توارثتها النخب الحاكمة في تحالفاتها المدنية والعسكرية التي تولت مقاليد حكم البلاد منذ الاستقلال. ولكي نقف على مجمل تلك الأسباب لابد لنا أولاً من استعراض خطوات تكوين الدولة في السودان.

تاريخ تكوين الدولة السودانية:
* لقد تميزت تلك الرقعة الجغرافية التي صنعها التحالف السوداني على مدى العصور على نماذج متعددة للدولة التي قامت على أساسها الممالك السودانية النوبية المختلفة في نبته ومروي لتليها الممالك المسيحية المتمثلة في مملكة نوباتيا وعلوة وسوبا من بعد، لتبرز تجربة جديدة ساهمت في تشكيل شخصيتها المتميزة، التي كان لهجرة القبائل العربية وما تحمله من ثقافة إسلامية دورها الذي ساهمت به في تقوية أواصر القوى الاجتماعية التي كونت ممالك وسلطنات الفونج والفور وتقلي والمسبعات. فالدولة السودانية الحديثة لها ما يشابه وما يخالف غيرها من الدول العديدة التي أستعمرت من قبل. لقد خضع السودان لأكثر من نظام إستعماري واحد. تنوع في شكل ومضمون كل من تلك النظم. فقد تم وضع حدود السودان الجغرافية الحالية بواسطة المستعمر الأول، محمد على باشا، في عام 1821، ثم توسعت بواسطة إبان فترة استعمار الحكم الثنائي عندما انضمت منطقة دار مساليت في أقصى غرب البلاد طوعاً للسودان في عام 1925 واكتمل رسم الحدود الجغرافية في عام 1932 عندما تمكنت الإدارة البريطانية في السودان أن تسيطر على قبائل الدينكا والنوير والتبوسا في الجنوب، فظلت الحدود الجغرافية مصطنعة وهشة، تلك الحدود التي لم يكن لأي من الممالك والسلطنات المذكورة آنفاً يد فيها، كما لم يكن بالضرورة أن الحدود الجغرافية تلك تمثل الحدود التي تمثلها التجربة الإنسانية السودانية. لذلك تشكلت الدولة السودانية الحالية تاريخياً من عدة عناصر عرقية وثقافية متعددة.، قد تبدو متمايزة ولكنها في الأصل تنتمي للتجربة الانسانية في تنوعها الثري.
* هذا ومن جهة أخرى وفي تطور مغاير فقد قاومت البلاد ومنذ اليوم الأول، الاحتلال الأجنبي ممثلاً في الغزو والحكم التركي المصري، والذي جاءت الثورة المهدية ضده كتتويج للنضال المشترك للسودانيين من أجل استقلال بلادهم.
* لقد جمعت الثورة المهدية الغالبية العظمى من السودانيين، شماليين وجنوبيين ومن الشرق والغرب والوسط والمناطق المحيطة، فتحولت بذلك من ثورة ذات توجه ديني محدود إلى ثورة تحررية وطنية كبرى. رغماً عن ذلك فإن أفق الدولة المهدية المحدود والقابض بالقوة العسكرية والشمولية القائمة على فكرة دينية ضيقة كان له أثره العميق على مآلات وتطورات الأمور. وبذلك لم يتمكن المشروع المهدوي في تطوره اللاحق من الانتقال بالدولة إلى مراق تلك الروح الوطنية، ومن ثم أدخلت البلاد في مرحلة استعمارية جديدة، أي في مرحلة استعمار داخلي. وبذلك كانت لنا التجربة الأولى لنموذج مزج الدين بالدولة وما تبعها من قهر وتسلط وعنف وإقصاء.
لقد بنى حكم الدولة الثنائي قواعده على تراث المركز والهوامش الموروث من الحكم التركي. الذي تُعتبر حملات دولة محمد علي، من أهم نتائجه، إذ أنها حولت بعض أجزاء وأجواء البلاد إلى مساحة يحكمها نظام مفتوح لصيد واسترقاق الإنسان السوداني، والبعض الآخر يتكون من فضاء واسع، يحكمه نظام مقفول أنهكته الضرائب ونهب الثروات. من هنا جاءت وتوطدت البناءات الأساسية للهامش الجغرافي والبشري ووضعت قوائم المركزية الصارمة.
وزاد عليها بأن كوًن دولة شمولية يحكمها العسكريون البريطانيون بقيادة ونجت، فالحكم الثنائي لم يستعمر البلاد وحده بل إستعمر الديانات المرعية من إسلام ومسيحية وإفريقية. وبذلك كانت لنا أول تجربة في مزج الشمولية بالدولة.
هذا ومن واقع تطور الحكم فقد نمت قطاعات جديدة من خريجي المدارس النظامية دُربت لخدمة الدولة الاستعمارية ومقاصد من أسسوا لها. هذا وقد اندمجت تلك الجماعات وترعرت في ظل نظام إداري عسكري شمولي في البداية، يقوم على القهر والاستغلال ونهب موارد وخيرات البلاد من مال ورجال ومعادن ثمينة، وقسم الوطن إلى هوامش متعددة أساسها مناطق مقفولة وأخرى مفتوحة ومركز.
* لم تكن الخطط الإدارية للاحتلال تساعد كثيراً في مشروع بناء الدولة في السودان وتطوره رغم استخدام دولة الاحتلال للنسيج الاجتماعي للإدارة الأهلية، التي استعانت فيها برجال القبائل والطوائف لتعضيد مشروع الاحتلال، الذي استثمرت فيه جماعات المتعلمين والخريجين الذين استخدم بعضهم الاحتلال لإجهاض حركة اللواء الأبيض 1924 بقيادة علي عبد اللطيف ورفاقه. وقد شكلت حركة اللواء الأبيض محطة نضالية مهمة في تاريخنا الوطني الحديث، إذ أكدت على أن مشكلة السودان ليست قائمة على أساس شمال وجنوب، أو دين أو عرق، وإنما أساسها تصادم المصالح الوطنية مع مصالح الاحتلال، والقوى المرتبطة به التي سعت بكل ما أوتيت من قوة، وما حصلت عليه من دعم ظاهر وخفي، لتعطيل وتقويض مشروع بناء الدولة الوطنية القائم على أساس التعاقد الاجتماعي والديمقراطية والعدل والمساواة والاستنارة والتحديث.
ولصالح مشروع هدم الدولة وتقويض مفهومها القائم على حقوق المواطنة وحقوق الانسان، فقد كانت الدولة الاستعمارية الحاضن للثورة المضادة والتي تضافرت لها بعض طوائف الرأسمالية الطائفية المحافظة، ويد الدولة الاستعمارية الباطشة وقوانينها المعادية لحقوق الإنسان، ووجود الإدارات الأهلية المساعدة ليتم في المقابل خلق هامش عريض. ومما تقدم فإن القطاعات الحاكمة في السودان، ومنذ تاريخ الإستقلال في عام 1956، وضعت منهجاً محكماً، ليس فقط كيف تُحكم البلاد، لكن أيضاً بمَن تحكم. ووفقاً لذلك تبنت سياسة إحتكار السلطة السياسية والإقتصادية في أيدي فصائل بعينها للتواصل بأشكال منتظمة لمشروع المستعمر في إقصاء سكان الأطراف من المشاركة الفعلية في السلطة السياسية، والإسهام الأصيل في الحياة الإجتماعية، والاستنفاع الحقيقي من ثروات البلاد الإقتصادية، وأحد الشواهد علي ذلك، الانقلابات العسكرية التي استأثرت بأكثر من ستة وأربعين عاماً من فترة الاستقلال الوطني، والتي كانت تخريباً للمشتركات الوطنية وهدماً لجسور التواصل التاريخي بين أبناء الوطن الواحد، حيث أفلحت في خدمة مخططات سلطات الاحتلال وقدمت لها المسوغات والذرائع لتحقيق أطماعها المشتركة بين النخب والاحتلال في تفتيت السودان على أسس دينية وعرقية.
* هذا ما أدى إلى أن تأتي الإنقاذ التي جمعت بين شموليات مزجت ما تراءى لها بأنه يمثل مزج الدين بالدولة ومزج الدولة بالشمولية. وبذلك فقد جمعت تلك التجربة الطويلة كل مشروع بناء الدولة على مفترق طرق، وبالتالي ظل السودان طوال الستين عاما الماضية دولة بحدود وحدود بلا دولة، وهذه هي المفارقة التي وضعت البلاد علي مفترق طرق، ودليلنا على ذلك هو انفصال جنوب السودان وتكوين دولته المستقلة كنتيجة حتمية لسياسات المركز التي قامت علي إقصاء الآخر وفرض الرؤية الأحادية في إدارة البلاد.
ولنا هنا أن نفرق بين المركز الرسمي الذي نمى من سياسات تسخير الدولة من أجل قطف ثمار وموارد البلاد، والمركز الشعبي الذي نمت في قلبه القضية الوطنية ومسعاها من أجل التحرر والحقوق، متمثلاً في ثورة 24، وقيام مؤتمر الخريجين عام 1938، وتأسيس الأحزاب والنقابات والصحافة الحرة وثورتي أكتوبر وإبريل، كل ذلك تناغم ايجاباً مع كل الحركة النضالية التي دافع عن مشروعها الأجداد وروتها دماء الشهداء من الشمال والجنوب والشرق والغرب، ليصبح وطناً يسع تطلعات جميع أبنائه، أساسه الديمقراطية والحرية، إستمكالاً لمضامين الاستقلال الوطني التي أفرغته تجارب الحكم بشقيه العسكري والمدني طوال حقبة ما بعد الاستقلال وحتى الآن.
* تري الجبهة السودانية للتغيير أن من أهم أسباب الأزمة السياسية في بناء مشروع الدولة في السودان، انعدام مشروع ثقافة بناء دولة المواطنة والمؤسسات ذات النهج السياسي الواضح لإدارة دفة الحوار الوطني الساعي إلى بناء نظام الحكم عن طريق جهد المواطنين الفكري والسياسي من أجل بناء وطن يسعد فيه أهله ويزودون عن أمنه ونمائه وحريته. لقد سعت قوى الثورة المضادة بالتحالف مع القوى الظلامية لإجهاض المشروع الوطني منذ فجر الاستقلال أو قبل ذلك، وخير شاهد على هذا، هو المشروع المشترك الذي قامت عليه الانقلابات العسكرية مجتمعة من عدم احترام لإنسانية المواطن السوداني وحريته وحقه في الحياة الكريمة. وتتمثل في رأس قائمة هذا البرنامج الانقلاب العسكري الذي وقع في العام 1998 والذي أدخل البلاد في نفق الحروب في كافة جهاتها الأربع، والتي ضاعفت من معدلات الفقر للحد الذي وصلت نسبته 95 % من فئات الشعوب السودانية، مضافاً إليها مأساة دارفور التي تمثلت في أبرز مآسي الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والملايين من النازحين واللاجئين، أضف إلى ذلك مأساة جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق التي راح ضحيتها الآلاف من قتيل ومشرد ولاجيء ومنزح ونازح.
* باستعراضنا لماضي وحاضر مشروع الدولة في السودان، نصل إلى قناعة مفادها فشل كامل لتجارب الحكم الماضية، ولا سيما العسكرية منها بشكل خاص والمدنية بشكل عام، وذلك إما لاجهاضها للديمقراطية في الأولى أو لفشلها في الحفاظ على الديمقراطية في الثانية. ويتمثل ذلك الفشل في عجزها عن إقرار دستور دائم وبناء مؤسسات قادرة على تحمل مسؤولياتها على النحو الأفضل، لاسيما أنها قد سعت وبتخطيط ممنهج لإلغاء دور بناء مشروع الدولة السودانية الوطنية الحديثة التي تقوم على مقتضيات حقوق وواجبات المواطنة والحرية واحترام حق المواطن في أن يختلف وأن يختار وأن يدير حواره الوطني عبر مؤسساته وفق إرادته السياسية والتشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية.
* لقد استطاع المواطن السوداني في مراحل تاريخية بعينها أن يتقدم بمبادرته المبتكرة خارج أطر الدولة الساعية نحو تغيير المناخ العام للحوار الوطني ليتضمن التحرير الكامل من ربقة الاستبداد. لقد استطاع علي عبد اللطيف ورفاقه تحرير الخيال القومي من ربقة الاستعمار، وأكدوا على حق المخيلة الجماعية لأهل السودان في تصوير ماهية واختيار رؤاها لقيام أمة تقوم على أساس الحرية والمواطنة. هذا ومن جهة أخرى فقد أعطت الثورتان الشعبيتان في كل من أكتوبر 1964 ، وأبريل 1985 المجال العام للسلطة في قيادة حركة التغيير. كما أن مؤتمر المائدة المستديرة وميثاق الدفاع عن الديمقراطية ومشروع “السودان الجديد” وفق رؤاه المتعددة خاصة تلك التي تقدم بها الدكتور جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، وباركها المركز الشعبي في أول زيارة له للخرطوم بعد التوقيع على أتفاقية السلام. كل هذه ستظل من النماذج السودانية المتقدمة والملهمة والتي يمكن تطويرها في المستقبل الذي يمكن أن يقود فيه المجال العام إلى حركة التغيير الاجتماعي الذي نسعى إليه بكل عزم وإصرار.
* ورغم تحميلنا للجزء الأكبر من الفشل الذي صاحب بناء مشروع الدولة في السودان بعد الاستقلال للنظم العسكرية وبخاصة نظام انقلاب حكم الإنقاذ الجاثم على صدر البلاد، إلا إننا لا نجهل تقصير وتفريط الحكومات الديمقراطية في تحمل مسؤولياتها من جهة وذلك بممارساتها التي اتسمت بالمكايدات والمزايدات والتآمر على بعضها البعض، وانشغالها بقضاياها الخاصة بدلاً عن الاهتمام بقضايا الوطن الأساسية، وعلى رأسها تأمين الديمقراطية والتنمية المتوازنة في كل أرجاء الوطن كقاعدة للاستقرار السياسي والاجتماعي، ومن جهة أخرى غياب وانعدام الرؤية السياسية الواضحة التي تتمثل في برنامج وطني يخاطب جذور الأزمات السودانية ويضع لها الحلول الناجعة ليقطع الطريق أمام كل المقامرين والمغامرين بمقدرات الوطن، مما يثبت حقيقة الحاجة الملحة لقيام الجبهة السودانية للتغيير والتي يمكن تعريفها بأنها:-
جبهة سودانية جعلت شعارها التغيير الذي يصنعه وترتضيه الشعوب السودانية، للوصول إلي دولة المواطنة المدنية الديمقراطية التي تفصل الدين والعرق عن الدولة والطائفة عن الحزب، وتجعل من المواطنة وحدها دون غيرها أساساً للحق والواجب. وآليتها في ذلك هو برنامجها الذي يحمل رؤية وطموحات الشعوب السودانية، بأن تعيش حرة وكريمة في وطن تسوده قيم العدالة والاستقرار والسلام، وهي في هذا تلتقي مع أبناء وبنات الشعوب السودانية والقوى السياسية الوطنية والحركات الثورية الحاملة للسلاح التي تحمل نفس برنامجها الوطني وترى أن لا سبيل ولا مناص لتحقيق هذا البرنامج إلا بالاحجام والقطيعة التامة لكل دعاوى الحوار الزائفة التي تطيل من عمر النظام وتمنحه الوقت لترتيب أوراقه ليستمر في السلطة، وكذلك بالعمل الدؤوب والمثابر لاسقاط نظام الجبهة القومية الإسلامية وتعرية وكشف زيف المشروع العروبي الإقصائي والإسلام السياسي التمكيني.
تري الجبهة السودانية للتغيير أن الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية كبيرة وعميقة، تحتاج منا جميعاً اتخاذ خطوة وطنية صادقة وإرادة سياسية لا تعرف اللين والمهادنة لتصحيح أخطاء الماضي، باستحضار المكونات التاريخية لشعوب السودان، والتعامل مع الحراك الوطني في كل جوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وذلك لسبر غور الأزمة التي تحتاج إلى إرادة الشعوب في السودان الحالي بمختلف مكوناتها الفئوية، التي تنحو منحىً إنسانياً خالصاً يعني بقضايا الاستقرار الاجتماعي والسياسي والتنمية الإنسانية والبشرية المستدامة، وكذا قضايا السلام والديمقراطية والحرية والتقدم للحاق بركب الأمم المتحضرة التي تجعل رفاه وتقدم الإنسان هو واجبها.
للإجابة والتفاعل العملي مع هذه الأهداف السامية، لابد أولاً من الإحساس التام بعظمة المسؤولية التي تقع علي عاتق الجميع دون إقصاء لأحد. لذلك ومن أجل الإيمان بمبدأ الفكر المستنير، قامت الجبهة السودانية للتغيير بتنظيم مؤتمر فكري في شهر إبريل 2013، في القاهرة، جمع كوكبة من أبناء وبنات البلاد الوطنيين من مختلف الإنتماءات الفكرية، قدموا وناقشوا بحوثا في شتى جوانب الحياة التي تهم المواطن أينما وجد، شملت المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والتربوية والثقافية والصحية والزراعية … إلخ. وبالتالي أصبحت الجبهة السودانية للتغيير سباقة في تبني برامج توحيد الرؤى السياسية والسياسات البديلة لمستقبل البلد دون تدخل خارجي، مستخدمة سلاح الفكر وتمكينا لهذا المفهوم الفكري المتقدم يقوم مشروع الجبهة السودانية للتغيير على الحداثة والتنوير لاكتساب المعرفة واشاعتها كغاية ووسيلة في آن واحد واطلاق العنان لاستقلالية العقل والتفكير والدفاع عن قضايا الحق والعدالة والدعوة إلى مفهوم جديد يقوم على الحرية والتسامح والعمل من أجل الآخرين وهذا يخالف الفهم المنغلق على نفسه الذي يقوم على التعصب والخوف ونبذ الآخر المختلف.
مبادئ الجبهة السودانية للتغيير:
من المنطلق أعلاه تقف الجبهة السودانية للتغيير على رؤية سياسية وطنية تتلخص في المبادئ والمرتكزات التالية:-

الحرية
هي حق الإنسان الأزلي التي لا تحدها إلا حقوق وحريات الآخرين. فالحرية وفق مفهوم الجبهة السودانية للتغيير تعني ضمناً كفالة حقوق الإنسان كافة، كما هو منصوص عليها في المواثيق الدولية والإقليمية، وهذه الحقوق لا يمكن تحقيقها ما لم تتحقق حرية الأفراد والجماعات من الفقر والمرض والجهل والخوف والتبعية.
الديمقراطية
وفق مفهوم الجبهة السودانية للتغيير، هي الديمقراطية التعددية والتي تقوم على حرية الممارسة السياسية والثقافية وأسلوب الحكم من خلال مشاركة جماعية تعددية، إما مباشرة أو عن طريق ممثلين منتخبين إنتخاباً حراً مباشراً من أجل ممارسة نظام اجتماعي يعيش في ظل التعايش السلمي، ومن ثم تداول السلطة والفكر والمنافع جميعها بما فيها الإقتصادية والاجتماعية. فالجبهة السودانية للتغيير تطالب بالديمقراطية ليس فقط كأسلوب للتداول السلمي للسلطة أو اعتماد التعددية نظاماً وخياراً وحيداً للشعب فحسب، وإنما كقيمة عليا وسلوكاً حضارياً في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ تتجسد فيها مفاهيم الحقوق الأساسية للإنسان، لتحكم العلاقة بين السلطة والمجتمع وبين تكوينات المجتمع المختلفة بعضها ببعض. كما تطالب الجبهة السودانية بالديمقراطية، من أجل إدارة الحوار الوطني وتحويل الاختلاف إلى عامل قوة في إطار تطوير القضية الوطنية، وتفعيل منابر ومؤسسات إدارة الحوار في جميع وجوهها حتى يكون الحوار هو المتفق عليه في حل القضايا الخلافية لا القتال أو التنازع.
والديمقراطية التي نسعى إلى تحقيقها، تتفتح على كل المنجزات البشرية التي خبرتها وساهمت فيها الشعوب المختلفة بخبرات متراكمة منذ الماجنا كارتا التي تعني الميثاق الأعظم للحريات التي أعتمدت عام 1225، والثورة الفرنسية العام 1789، مروراً بعصر النهضة الأوربية وتجربة حركات التحرر الوطني العالمية في نضالها ضد الاستعمار، وضد الهيمنة الاقتصادية. كما عززتها تجارب الشعوب السودانية بمختلف مكوناته في نضالها ضد الاستعمار وضد الاستبداد الديني والدكتاتوريات العسكرية والتهميش والاستغلال الاقتصادي، مؤكدين أن السودان ككيان إثني وثقافي وديني واجتماعي متميز ومتعدد ومنتمي إلى دوائر حضارية متداخلة وله ظروفه الاقتصادية والاجتماعية الخاصة وتقاليده السياسية المتجذرة خاصة فيما يتعلق بالتأكيد على قيم العدالة والتضامن والحرية التي أصبحت جزءً من إرثنا الثقافي والاجتماعي ووجداننا ولذلك نحن قادرون على إثراء وإغناء التجربة المشتركة للإنسانية باستشراف التجارب المضيئة في تاريخ شعبنا وذلك باستلهامها وتهيئة ظروفها.
أثبتت التجربة التاريخية والعالمية أن إحقاق وتعضيد الديمقراطية وإزدهارها هو صمام الأمان لصون السلام وتحقيق التنمية المتوازنة والتقدم الاجتماعي. والديمقراطية كمضمون اجتماعي ومنهاج تفكير وسلوك هي ممارسة يومية تطال جميع مناحي الحياة، والتي تشمل:-
(1) حرية الاعتقاد والضمير والتفكير والبحث العلمي والتعبد واحترام الأديان والمعتقدات.
(2) حرية التعبير والتنظيم بما فيها تنظيم المنظمات والجمعيات والنقابات والأحزاب بشكل مستقل تماماً عن السلطة السياسية والتنفيذية.
(3) حرية الصحافة والمطبوعات والنشر بعيداً عن تدخل ورقابة الأجهزة الإدارية والتنفيذية.
(4) كفالة حرية المشاركة في اتخاذ القرار والتشكيل الديمقراطي للأجهزة المختلفة بما فيها استقلال الجامعات ومؤسسات البحث العلمي والمجالس المهنية التخصصية.
لا تستكمل الديمقراطية بدون محو الأمية الشامل لأن محو الأمية وإشاعة المعرفة شرطان ضروريان وأساسيان لإحقاق الحقوق ولمحاربة الجهل والخرافة والتضليل والدجل والشعوذة وشرطان أساسيان لتحقيق الحرية الفردية.
ولن تتحقق الدييمقراطية دون تحرر المرأة الكامل، وذلك بتحريم كافة القوانين المحطة لكرامة المرأة وإزالة كافة أشكال التمييز تحقيقاً لضمان الحقوق والفرص المتساوية ? وكذلك تميزها إيجابياً في بعض الحالات لتحقيق ذلك الهدف.
لن تكتمل الديمقراطية دون صيانة حقوق الإنسان المتكاملة بما فيها حق العمل وحق الحياة والنظم التي تصادر الديمقراطية وتستأثر بالسلطة وتقوم بقمع الآخرين بالضرورة تنتهك الحقوق الأساسية للمواطنين.
 إن الممارسة الديمقراطية هي الجانب الأكثر أهمية لأنها تنظم العلاقة بين سلطات الدولة والمجتمع ببناء نظام نيابي يقوم على الإنتخابات العامة الدورية والنزيهة ونظام حكم يقوم على مبدأ حكم الأغلبية مع الإحترام التام لحقوق الأقلية ووضع الضمانات الكافية التي تحول دون تركيز السلطات واحتكارها وإقامة الدكتاتورية المدنية ? كما لا تقوم الديمقراطية بدون سيادة حكم القانون واستقلال السلطات “التشريعية والتنفيذية والقضائية” تحت رقابة المجتمع المدني.
 التعريف الكلاسيكي الذي يحصر الديمقراطية على الممارسة النيابية أو التمثيلية (وبالرغم من القيمة الحقيقية لذلك)، يظل قاصراً وعاجزاً فلا يجب أن ننظر إلى الديمقراطية كمجرد مجموعة من المؤسسات (البرلمان) أو الممارسات السياسية (التصويت) لأن الديمقراطية السياسية لا تستقيم بدون الديمقراطية الاقتصادية والتوزيع العادل للثروة لأن ذلك هو القوة الحقيقية والمعنى الأشمل للديمقراطية ولا يتحقق ذلك إلا بالإلتزام بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
 الديمقراطية كذلك تقوم على التوافق على القيم الجوهرية للمجتمع وأركان ثقافاته المتعددة وما تلعبه الأديان وكريم المعتقدات في تكوين وجداننا الثقافي والأخلاقي وما تلعبه كذلك المواثيق الدولية المتطورة في مجال كفالة وضمان حقوق الإنسان الأساسية.
 الديمقراطية ليست مفهوماً مبتسراً أو تعسفياً كمفاهيم الديمقراطية الشعبية أو الموجهة التي استخدمت كتمويه وغطاء لممارسات شمولية وتسلطية بعيدة كل البعد عن جوهر الديمقراطية ولذلك يجب أن نتخذ موقفاً واضحاً ورفضاً قاطعاً لتجربة حكم الحزب الواحد مهما كانت دعاوى ذلك ويجب إقتلاعها من الفكر والتجربة والممارسة ? كما يجب إشاعة وممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب والمنظمات الجماهيرية لأن فاقد الشيئ لا يعطيه.
 الديمقراطية تقتضي الوعي التام بأهمية المجتمع المدني ومنظماته واستقلالها فكراً وممارسةً، كما أن فصل المجتمع المدني عن هيمنة الدولة هو المفتاح البنوي لقيام الديمقراطية، ولكن المجتمع المدني ليس جنة للتصالح، بل هو ميدان للصراع الفكري والثقافي والاجتماعي، ولكنه صراع يُدار على قاعدة التنوع والتسامح وقبول حق التعبير والدفاع عن الرأي الآخر.
 كذلك يجب الوعي بأهمية المجتمع الأهلي ورعايته وتطوره ونقد التجربة السالبة في الحل المرتجل للإدارة الأهلية، لأن المجتمع السوداني في أغلبه منقسم اجتماعياً إلى جماعات متباينة (مجتمع ما قبل الحداثة تسوده العلاقات والتنظيمات القبلية والعشائرية والأسرية القائمة على روابط الدم أو أشكال قديمة من العصبيات التي ما تزال قائمة وهي تشكل في جوهرها وجوداً مستقلاً عن الدولة.
إننا نعتبر أن تحقيق الحد الأدنى من النهوض الاقتصادي والثقافي والمجتمعي شرط ضروري لمواصلة وتنمية التجربة الديمقراطية حتى تكون ذات معنى وذات قابلية للازدهار. وفي ذلك فإن أي نظام ديمقراطي يفقد جانباً مهماً من ضرورته وفعاليته إن لم يتمكن المجتمع من الانطلاق النهضوي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإحداث قطيعة نهائية مع الفقر والتخلف.

الدين والدولة
لقد عاش السودانيون خلال تاريخ تجاربهم المشتركة مراحل صعبة ومريرة من نماذج الحكم القائمة على القول بالمزج بين الدين والدولة. ولعل الذاكرة التاريخية قد حفظت لنا كيف تحولت الثورة المهدية من ثورة تحررية قومية جامعة إئتلف والتف حولها أهل السودان من جنوب وشرق وغرب وشمال ووسط البلاد دون فرز بين مسلم وغير مسلم أو تفضيل طبقة أو عرق على آخر إلى دولة ضيقة الأفق بطشت بالسودانيين ومزقت وحالت دون تطور وحدتهم. كما أن تجربة نظام الانقاذ القائمة يمكن أن تكون أكبر مثال للخطر الأكبر والعبء الثقيل والاستبداد الذي نتج وعانت منه الشعوب السودانية بجميع تكويناتها، وفي جميع أنحاء البلاد خلال ربع قرن من الزمان تطبيقا لشعار برنامح “الإسلام هو الحل” أو برنامج الانقاذ المسمى بـ “المشروع الحضاري”. لم يسلم حتى الإسلاميون أنفسهم من ويلات بطش الدولة المستبدة التي قامت على هذا المنهج. وبالتالي فإن فصل سلطة الدولة عن الدين يعتبر شرطاً ضرورياً لتوفير الحرية للمواطنين، وذلك أن القول بأن الدولة تستمد سلطتها من الدين سيضع عبئاً ثقيلاً علي ضمائر الأفراد الذي سيعيقهم من رؤية الدولة علي حقيقتها وكيف يمكن أن تتحول الى راعية لنظام شمولي لا يبقي ولا يذر. لهذا فالفصل بين الدين والدولة ليس أمراً أيديولوجياً أو عقيدة بقدر ما هو طريقة وأسلوب يُقيم الحكم باعتباره من صنع ومسؤولية المواطنين أفراداً وجمعات. ويعظم الدين ودوره في هداية البشرية بأن لا يجعله مطية لهوى أو مصلحة جماعة أو فرد.
لقد قصًر العلمانيون في طرح فكر عقلاني لمواجهة تصاعد الدعوات الإسلاموية والسلفية القائلة بأن الحكم الإسلامي هو الحل السياسي، حتى رأى الجميع من واقع التجربة المباشر الخطر الداهم الذي عم البلاد ومواطنيها ووحدتها ومس بالضرر أمن وسلامة وإنسانية مواطنيها أجمعين. لذا ترى الجبهة السودانية للتغيير أن الوقت قد حان لمواجهة الفكر بالفكر لإثبات ما نادت به الحركة الوطنية في عهدها الأول بأن الدين لله والوطن للجميع، لأنه بدون ذلك لا يمكن أن نحقق سلاماً وتنمية مستدامين.
إن قضية فصل الدين عن الدولة هي قضية محورية ومركزية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بمسألة الصراع السياسي في السودان وما آلت إليه بلادنا من دمار وتمزق وانهيار منذ الاستقلال. بالرغم من أن نشوء الحركة الوطنية من صلب مؤتمر الخريجين وبدايات الحركة السياسية والصراع السياسي اتخذ طابقاً عقلانياً وديمقراطياً توج بدستور الاستقلال عام 1956 الذي كان دستوراً علمانياً بكل ما تحمله الكلمة والمعنى. “إلا أن الأحزاب السياسية التي تمخضت عن مؤتمر الخريجين نشأت وترعرت ثم شاخت في كنف ورحم الطائفية، وهكذا تم وأد مؤتمر الخريجين وحلت محله أحزاب وزعماء أصبحوا بمثابة الوكلاء السياسيين للزعامات الطائفية”. كما ذكر د. محمد إبراهيم خليل. إن تجربة الإسلام السياسي في السودان وبما يفوق الخمسين عاماً تؤكد أن القوى السياسية تستخدمه وتستغله كغطاء أيديولوجي لتحقيق مآربها الدنيوية وأغراضها الشريرة، وتقف تجربة النميري والجبهة القومية الإسلامية شواهد على ذلك. كما تم إجهاض ثورة أكتوبر بتحالف يميني-رجعي تحت برنامج ديني يلتحف بالإسلام حيث تمت تصفية مكتسبات أكتوبر بالعصي والحراب والمليشيات الجهادية. هذا الحلف اليميني سار على طريق الانتقاص من الديمقراطية بحظر الحزب الشيوعي من داخل البرلمان وعدم الامتثال لقرار المحكمة الدستورية. واستمر هذا النهج في محاولة فرض الدستور الإسلامي والجمهورية الرئاسية 1966 ? 1969. بدأ التطبيق الفعلى للقوانين الإسلاموية في عهد جعفر نميري وعرفت بقوانين سبتمبر 1983، التي وصفها من يدعون إلى تطبيق برامج الصحوة الإسلامية بأنها لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به لما شاب تطبيقها من همجية وانتقائية لتصفية الحسابات السياسية وترهيب الخصوم فخلفت العشرات من ضحاياها، ويقف إعدام شهيد الفكر محمود محمد طه دليلا على بشاعة هذه القوانين. إلى أن انتهى بنا الحال بقيام الدولة الدينية الإستبدادية في عهد الإنقاذ. وتقف جرائم النظام دليلا على فظاعة وصلف وعسف الدولة الدينية.
في مواجهة هذه الهجمة الشرسة نجد التراجع المستمر للقوى الديمقراطية، وللقوى التي ترفض الدولة الدينية. هذا التراجع المستمر والاستسلام والتقهقر الفكري والسياسي أدى إلى محاولة بعض هذه القوى إلى إضفاء غطاء ديني على بعض المواقف السياسية كتبرئة التجربة الإسلاموية واعتبارها بعيدة عن الدين الإسلامي، أو محاولة أسلمة بعض البرامج السياسية … إلخ. أدى ذلك إلى إزدياد شراسة قوى الإسلام السياسي في هجومها على الحريات العامة والشخصية بفرض مزيداً من التشريعات والقوانين التي تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، كما تحط من قدر الإنسان وآدميته (المرأة مثالاً). فالدولة الدينية تكرس الاستبداد والتخلف وتنسف وحدة البلاد (انفصال الجنوب مثالاً آخر) وفي دول مثل “السودان وإيران واليمن وباكستان” لا يكون الصراع سياسياً والخلاف حزبياً وإنما يدور بمنطق الإيمان والشرك. عندما ندعو لفصل الدين عن الدولة أو السياسة ننطلق من حقيقة أن القضايا السياسية هي قضايا إنسانية ونشاط بشري حيث لا يوجد برنامج سياسي مقدس أو منزل. ولذلك يجب أن يكون الصراع السياسي حول قضايا التنمية والتطور الاقتصادي والثقافي ويستند على التجربة الإنسانية والعقلانية وعلى العلم والمعرفة. وهذا لا يتم إلا في جو ديمقراطي يعترف بحق الاختلاف وقبول واحترام الرأي الآخر. فصل الدين عن الدولة ليس كفراً وزندقة أو إلحاداً، كما وأنه ليس نفياً للأديان عن الحياة العامة، وهذا لا يعني أن السياسيين لن يستلهموا قيمهم الدينية والروحية في رسم ملامح سياساتهم ? ولكن هذا الاستلهام ليس قطعياً، بل قابل للمناقشة وللخطأ والتصويب.

الإصلاح المجتمعي
إن موضوع التعايش السلمى بين الثقافات والاثنيات والعرقيات والأديان لابد له من إرادة سياسية ومشروع سياسى قائم على فكرة المواطنة كعظمة ظهر للحفاظ على المنظومة الوطنية ومن ثم إقامة الدولة الوطنية المتماسكة. بمعنى أن أى تطرف أوعدم حياد فى التعامل مع هذه التباينات سيؤدى عاجلا أم آجلا الى تناحر اجتماعى يفاقم ويعمق هذه التباينات. فتجربة نظام الجبهة الإسلامية القومية فى السودان اوضح دليل عندما تم استغلال الدين الاسلامى للوصول للسلطة ومن ثم البقاء فى سدتها لاكثر من ربع قرن على حساب التعدد الدينى فى المجتمعات السودانية. والإسلاميون يرفعون شعارات الإسلام السياسي للمتاجرة بها واستخدامها في أمور دنيوية كما أثبتت التجربة المريرة التي عاشتها الشعوب السودانية طوال فترة حكمهم ليتصدر المشهد السياسي الفاسدون في أنفسهم والمفسدون لغيرهم، ويصبح اليمين غموسا والدجل صنعة والشعوذة موهبة والنفاق سلعة والكذب والرياء شهادة رافعة لتبوء أعلى المناصب العامة.
ونتيجة لذلك الانحطاط السلوكي انتشرت ظاهرة التدين الشكلي في بعض فئات المجتمع السوداني وأخذت طابع الشكل والمظهر الذي يستمد قدسيته من إطالة اللحى وحف الشوارب وإظهار زبيبة الصلاة وحمل المسبحة ولبس النقاب والحجاب لتكون بمثابة هوية دينية تتصادم مع الآخر المختلف لتضعه في خانة الأعداء، فاستباحة عرضه وماله وحتى قتله يصبح واجبا دينيا مقدسا.
كما أن اعتقاله وسجنه وتعذيبه عبادة يؤجر من يقوم بها. وصار التدين الشكلي يتسم بسطحية مخاصمة لكل المضامين الروحانية التي أتت بها الأديان السماوية لخلق التوازن الروحي في المجتمع السوداني المتعدد الديانات والاثنيات والأعراق والثقافات لتنسجم مع الأخلاق والسلوك القويم للفرد.
إن التسامح الديني الذي كان سائدا بين المجموعات المختلفة سواء أن كانوا صوفيين، أنصارا، ختمية، مسيحيين، أرواحيين أو لا دينيين ..الخ. كان العامل الحاسم في تماسك الدولة السودانية ونسيجها الاجتماعي دون تدخل مباشر من الإدارات السياسية المختلفة، إلا أن تجربة اختطاف الدين واستغلاله من قبل جماعات الإسلام السياسي أدى إلى خلخلة تماسك هذه المجتمعات المتباينة ووسع الفجوة بين الاثنيات والعرقيات المتعددة خاصة بعد اتساع رقعة الحروب الجهادية في محاولة لفرض هذا المشروع الديني الفاشي. وعليه فلا مناص من تحييد الدين، أى دين فى الصراع السياسى باعتباره سلوكا فردىا بين الفرد والمعبود، وباعتباره مُختلفا على تفاسير محتوياته. كما أن الإرادة السياسية التي تحاول فرضه كحالة ثقافية جمعية تنسف كل عناصر التعدد والاختلاف.
إن حياة التشوه الأخلاقي التي أصابت المجتمع السوداني في قيمه ومثله ومعتقداته، لا سبيل إلى إصلاحها إلا بتعرية وكشف زيف الخطاب الديني، الذي أتى به دعاة الإسلام السياسي، لاقصاء وقمع الآخر، لتسود قيم التسامح والتعايش بين أصحاب الديانات والمعتقدات المختلفة في وطن ينعم بقيم السلم الأهلي والسلام الاجتماعي. كما أن الطريق نحو الدولة الديمقراطية التي تفصل الدين عن الدولة ليتساوى فيها الجميع وتكون المواطنة هي الأساس لا يمر إلا على أنقاض الدولة الدينية التي أحيت العقوبات والحدود واستخدمتها أداة لارهاب وترهيب الخصوم.
لهذا ترى الجبهة السودانية للتغيير أن إعادة بناء وهيكلة أجهزة ومؤسسات الدولة السودانية لا يتوقف على البرامج السياسية المبنية على أسس علمية رصينة والمستندة على آليات عملية وتوفير موارد مالية لتنفيذها فحسب، بل يتطلب مجتمعا سليما معافى تحكمه قيم الصدق والأمانة والشفافية والنزاهة ليقوم بتنفيذ هذه البرامج. وهذا لا يتأتى إلا بالآتي من خطوات:ـ
أولا: وقف أدلجة وتمذهب الناشئة، ونبذ روح العصبية والانغلاق الفكري وسطهم، ووقف عملية التلقين باتباع الأسس العلمية والتربوية المعمول بها في الدول المتقدمة لتربيتهم على التسامح والاخاء والمحبة ونشر روح الخلق والإبداع والابتكار وهذا يتطلب التعديل الجذري للمقررات المدرسية.
ثانيا: عدم استغلال المساجد ودور العبادة لبث روح الكراهية والفتن والعداء والعنصرية، وعدم السماح قانونا باستغلالها لنشر الأهداف والآراء السياسية التي تدعو إلى الفرقة أو المساس بعروض الناس أو قناعاتهم أو عاداتهم أو معتقداتهم مع توجيه استخدام دور العبادة إيجابيا من أجل الدراسة والتربية السليمة والأغراض الاجتماعية والدينية.
ثالثا: مراجعة وإلغاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية وكشف التلاعب وسرقة أموال الحج والأوقاف والزكاة، والعمل على قيام مجلس أعلى مستقل للشؤون الدينية، يتم فيه تمثيل كل الديانات واصحاب المعتقدات على أن تقف مؤسسات الدولة على مسافة واحدة من جميع الديانات والمعتقدات.
رابعا: منع الاستغلال البشع في مفهوم الزكاة وجبايتها برفع يد الدولة عنها باعتبارها فريضة دينية شخصية تؤدى على ذمة الفرد.
خامسا: مراجعة كل المؤسسات الدينية والتعليمية وتوجيه رسالاتها نحو خدمة المجتمع مع مراعاة عدالة توزيع ميزانياتها.
سادسا: السماح لأصحاب كل الديانات والمعتقدات أن يمارسوا حرياتهم الدينية وطقوسهم الروحية في جو من الحرية والتسامح.
سابعا: على الدولة أن تنظم عمل الدعاة وخطباء دور العبادة ولا يتم ذلك إلا تحت إشرافها وبشهادات علمية معتمدة من مؤسساتها وأن يقتصر عملهم على شؤون الدعوة والوعظ.

العدالة الجنائية والسلام
من البداهة، معرفة أن الظروف التاريخية والبيئية والنفسية والإجتماعية هي مصدر الاستمرار في كون الإنسان سليم الفطرة بالأصل، كائن محب للخير، وهذه الظروف هي ذاتها اللاعب الأساسي في إنتاج الإنحراف والنزوع نحو الشر، فالسلام يجد فلسفته في التربية القويمة المعتمدة على الاستقلال الفكري والمادي دونما تجاهل للواقع، حيث تنتج هذه التربية إنساناً مستوعباً لاستقلالية الآخرين، وبالتالي لا مناص للعيش الكريم إلا في ظل سلام مستدام. كما يقوم السلام على الوصول إلى ابتكار الحلول الناجزة لكل القضايا العالقة جراء غبن تاريخي أو نزاعات جديدة قد تظهر قبل أن تتحول إلى إنفجارات مسلحة أو حروبات جديدة. وتقوم فلسفة الجبهة السودانية للتغيير على أن العدالة الجنائية لابد أن تسبق السلام لتحققه وتحافظ عليه بعكس العدالة الانتقالية التي قد تأجج الصراع وتزيد من أمده بما تتضمنه من حلول سياسية توافقية قد ترفضها الأطراف المتضررة وتعتبرها خصما على الاستقرار والسلام وتحقيق العدالة.
ويمكن تعريف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة الأساليب والآليات التي يستخدمها مجتمع ما لتحقيق العدالة في فترة انتقالية من تاريخه، تنشأ هذه الفترة بعد اندلاع ثورة أو انتهاء حرب يترتب عليها انتهاء حقبة من الحكم الدكتاتوري والمرور بفترة انتقالية تنتهي بالتحول الديمقراطي، ويمكن تعريفها أيضا بالمجمل بأنها مرحلة ما بعد الأزمات، وتهدف إلى التعامل مع إرث الانتهاكات بطريقة واسعة وشاملة تتضمن العدالة الجنائية والعدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية إضافة إلى السياسة القضائية التي يجب أن تتضمن تدابير ترمي إلى هدف مزدوج وهو المحاسبة على جرائم الماضي ومنع وقوع الجرائم في المستقبل وهي بهذا المعنى مفهوم حديث بدأ تطبيقه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وطبقته كثير من الدول كل دولة بحسب واقعها وظروفها.
وبانزال هذا المفهوم على الواقع السوداني نجد أن مفهوم العدالة الجنائية هو الأنسب لتحقيق السلام والمحافظة عليه لأسباب منها: أن العدالة الانتقالية تتطلب تعاون الطرف الآخر وهذا الشرط ينتفي بتصلب مواقف هذا النظام الذي يرفض أي دعوة ترمي للحل السلمي. 2ـ اتساع نطاق الانتهاكات التي شملت كل شعوب الدولة السودانية الأمر الذي يتطلب محاكمات جنائية عادلة. 3ـ إن الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها هذا النظام من الجسامة والوضوح حيث أن الجاني معلوم والضحية أيضا. 4ـ أن الإجراءات الجنائية قد بدأت بالفعل ومعظم قادة النظام من عسكريين ومدنيين قد أصبحوا محل اتهام. 5ـ إن تطبيق العدالة الانتقالية بشقيها القضائي والسياسي تعتبر تسوية مجحفة بحق الضحايا إذ تعتبر بمثابة الدعوة للإفلات من العقاب بالنسبة لبعض المتهمين.

وترى الجبهة السودانية للتغيير أن تحقيق السلام في كل المناطق التي تأثرت بالحروب الجهادية. والحروب تحت ذريعة بسط سلطة وهيبة الدولة. وضحايا مشاريع التنمية العبثية عديمة الجدوى الاقتصادية، وما يرتبط بها من عملية نزع الأراضي المملوكة حكرا للمواطنين. وضحايا الاقتتال القبلي الذي تصنعه الدولة وتهيء أسبابه خطوة لابد من أن تسبقها عدالة جنائية كي تحفظ هذا السلام وتؤدي إليه، والسلام كمفهوم إيجابي واسع من وجهة نظرنا يفترض المصالحة الوطنية وتقديم المتهمين للعدالة بكافة أشكالها، ومن ثم وضع أسس جديدة لثقافة السلام، ولا يتم ذلك إلا بتفكيك بنية العنف التي تعتبر الخطوة الأولى لمعالجته.
إن العنف الذي يحدث في السودان لا يقتصر على الحروب والاقتتال الذي تصنعه وتغذيه دولة المركز ضد الهوامش والأطراف فحسب، بل يتمظهر في أشكال عدة تكون هي نتيجة وسببا في إشعال تلك الحروب، منها:
1ـ جرائم القتل الواسع النطاق وما ينتج عن ذلك من عمليات هروب ونزوح جماعية واسعة، وإرتباط جرائم القتل والترويع والإبادة بحرمان الأفراد والمجتمعات المحلية من أن تكون منتجة ومساهمة في العملية الانتاجية القومية، ويتم بذلك تحويلهم إلى مجرد متلقين للإعانات والإغاثات مما يضعف روحهم المعنوية لمقاومة الظلم والتهميش المفروض عليهم. وهذا ما يعرف بالعنف الاقتصادي.
2ـ جرائم العنف الجنسي وما يرتبط بها من جرائم الاغتصاب التي استخدمتها الحكومة المركزية المتمثلة في نظام الجبهة الإسلامية كسلاح لكسر إرادة مناوئيها، وتكون نتيجة ذلك الحتمية تحول العنف ضد الأفراد والتجمعات إلى عنف عرقي واثني شامل يستبيح تلك القوميات ويمارس ضدها سياسة الأرض المحروقة تكريسا لعملية إحلال المستجلبين الجدد خدمة لثقافته وقيمه وأيديولوجيته، وما ينتج عن ذلك من سياسة عنصرية تأخذ طابع المؤسسة الرسمية لتكون مبررا كافيا على استهداف تلك القوميات وقتل أفرادها على السحنة والهوية.
3ـ العنف الثقافي، يتمثل في الإبادة الثقافية التي تمنع تلك الأعراق والاثنيات من التعبير عن خصوصياتها الثقافية، يتبعه تجريف معرفي في فرض اللغة العربية عليهم ومنعهم من استعمال لغاتهم الأصلية ومحاربتها.
4ـ العنف ضد المرأة، وما يتبع ذلك من سن للقوانين القمعية التي تجعل منها متهمة حتى تثبت العكس، وما يلي ذلك من إعلاء قيم الثقافة الذكورية وتمجيدها.

كل أشكال ذلك العنف التي حدثت وما زالت تحدث في دارفور وجبال النوبة وجبال الإنقسنا وغيرها من مناطق البلاد المختلفة يجب التصدي لها ومعالجتها، لا معالجة أعراضها التي قد توقف العنف وتحقق السلام في شكله السلبي الذي يمكن أن يتحول لأي سبب لاشعال الحروب وإعادة انتاج مآسيها من جديد.
إن العنف المفرط من قتل واغتصاب وتهجير وتنزيح الذي مارسه نظام الجبهة الإسلامية ضد المواطنين في جنوب البلاد وغربها وشرقها ووسطها وعاصمتها لم يترك مجالا للجدل الفلسفي العقيم الذي يدور حول ثنائية السلام والعدالة أيهما يأتي أولا؟.
لهذا ترى الجبهة السودانية للتغيير أن تطبيق العدالة وتحقيقها يأتي أولا، ـ وذلك بمحاكمة كل من أجرم أو شارك أو ساهم أو حرض أو تآمر بالصمت أو بالتواطؤ وهو في موقع المسؤولية ـ وهذان هما شرطان لازمان لتحقيق السلام وتعزيزه، حتى يري ذوو الضحايا أن العدالة بكل وجوهها قد تحققت، ويري الذين يمكن أن يتعرضوا لمثل تلك الانتهاكات في المستقبل بأنهم أصبحوا في منأى من تكرار الحروب وما يرتبط بها من مآس وويلات مرة أخرى.
يتفق اتجاه الجبهة السودانية للتغيير مع المبدأ الذي تبنته دول العالم، وهو “المسؤولية عن حماية المدنيين”، فأقرت هذا المبدأ لحماية الشعوب من جرائم دولية سمتها على سبيل الحصر وهي جرائم الإبادة، جرائم الحرب، التطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية، وهذا المبدأ يمثل مسؤولية دولية جماعية عن الحماية، يمارسها مجلس الأمن الدولي بما له من سلطات، بأن يأذن بالتدخل العسكري كحل أخير عند حدوث إبادة جماعية أو عمليات قتل أخرى واسعة النطاق أو حدوث تطهير عرقي أو انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، إذا ثبت أن الحكومات المتورطة في ارتكابها عاجزة عن منعها أو غير راغبة في منعها.
كل تلك الجرائم المذكورة أعلاه قد تم إرتكابها في دارفور وغيرها من مناطق البلاد المختلفة، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية بواسطة إدعائها العام مذكرات جلب واحضار بحق كبار المسؤولين عنها. هذه الخطوة ورغم أهميتها ترى الجبهة السودانية من وجهة نظرها أنه لابد من تأهيل القضاء الوطني وإعادة تشكيل هيكلته ليستوفي معايير الأمم المتحدة، ليكون قادرا على محاكمة المتهمين المتورطين في تلك الجرائم والذين لم تشملهم اتهامات القضاء الد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..