الاستقلال الحقيقى للسودان يستوجب بيريسترويكا مدروسة

الاستقلال الحقيقى للسودان يستوجب بيريسترويكا مدروسة

د. عبد الرحمن السلمابي
[email protected]

فى اليوم الأول من شهر يناير منذ عام 1956 م وحتى 2012 م يصدح المذياع بصوت المطرب محمد وردى “اليوم نرفع راية استقلالنا * ويسطر التاريخ مولد شعبنا”. وقد طلب من وردى فى حفل خاص بليلة الاستقلال لهذا العام أن يتغنى بها. فذكر لهم بأن ليس هذا هو نفس السودان الذى تغنى له عند الاستقلال فى 1956 م. والبعض قد يتحدث بأنه كل ما مضى عام نتفائل بأن راية استقلالنا الحقيقى يتم رفعها فى اليوم الأول من شهر يناير،،،، وهكذا لمدة 56 عاما لم نصل بعد لذلك الاستقلال الحقيقى الذى كلنا يصبو اليه. فصار ذلك مثل دعوة صاحب المطعم فى ديباجة معلقة أعلى الباب تشير الى أن “غداً الغداء مجانى” ،،، وعندما يحضر الزبون الغشيم على أمل أن يكون غداً الغداء مجانى يجد بأن الغد لم يحن بعد، وهو كذلك الى ما لا نهاية،،،، وهكذا هو حالنا.
البرسترويكا كلمة روسية تعنى مصطلحيا اعادة هيكلة البناء عبر إصلاحه شاملاً اسلوب منهجية التفكير وكذلك وسائل وأساليب وطرق البناء نفسه. واعادة الهيكلة هذه ان لم يستصحبها تفكير استراتيجى عميق ومنهجية علمية حديثة وفق قيد زمنى مناسب تؤدى الى تحطيم البناء ذاته. وهذا ما حدث لمنظومة الاتحاد السوفيتى السابق عند نهاية الثمانينات من القرن الماضى.
-2-
وقبل أن نسهب فى تفسير معنى مصطلح “البروسترويكا” أكثر وكيفية أن تكون مدروسة لابد من أن نستفيد من دروسنا السابقة والتى أبرزها التداعيات التى أدت الى انفصال الجنوب عن الشمال ومن ثم تقليص حجم السودان بمقدار الثلث. لقد كان رهن وحدة الشمال مع الجنوب بشخصية جون قرنق الذى وصفه الكثيرين من المقربين منه بأنه شخص وحدوى وفق رؤية مغايرة وشكَّل حركة مسلحة وحزب سياسى و نجح فى إستقطاب الكثيرين من أبناء السودان شماله وجنوبه وحتى د. منصور خالد وغيرهم. والأخطر من ذلك هو رهن كل اقتصاد البلاد بما فيها البترول على استراتيجية الوحدة الجاذبة.
ولكن ذهب جون قرنق بكل اطروحاته وطموحاته وتلاشى الحلم بالوحدة وبالحزب و بالسودان الجديد وبالتنمية الاقتصادية للمهمشين وغيرهم. البعض يعتقد أن موت د. قرنق تم قضاءاً وقدراً ، والبعض الآخر يعتقد بأنه ربما كان نتيجة تآمر دولى يعمل ضد مصالح وحدة السودان وتنميته…. ولكن الأهم هو ارتهان وحدة السودان واختزالها فى شخص واحد يتمتع بكرزما عالية و هذا مكمن الخطر لتحقيق الاستقلال الحقيقى للسودان.
لقد تغيرت استراتيجية الوحدة التى حلم بها د. قرنق وسعى الى تحقيقها و نجح اقلاه فى تحقيق مبدأ الكونفدرالية التى تم إنزلها على أرض الواقع قبل الإنفصال. و من بعده تحولت الحركة الشعبية لتحرير السودان الى هدف آخر وهو تحرير جنوب السودان. وصار الحزب الموحد سابقاً تحت شعار السودان “الجديد” الموحد بعد د. قرنق و بعد الإنفصال عبارة عن تشرزمات قبلية تضم قبائل الجنوب دون أى اهتمام أو مبالاة لغيرهم من سكان الشمال بكافة قبائلهم أو أهدافهم السياسية و كذلك فيما دون استراتيجية تجمعهم كما أراد لها د. جون قرنق. فصارت الحركة الشعبية تضم تجمعات حركات قبلية مسلحة و غير منضبطه فى جنوب كردفان والنيل الأزرق، و صار الحزب يحتوى على بعض من منسوبى ما يعرف بقطاع الشمال، و صار معظمهم ينهشون فى ما تبقى من وحدة الشمال.
و الآن توحدت معظم الفصائل المسلحة و ذات الانتماءات العرقية المختلفة فى اقليم دارفور مولفه من الزغاوة والفور وغيرهم فى حركة التحرير والعدالة، وتوصلوا الى اتفاق الدوحة الأخير أملاً فى حل مشكلة اقليم دارفور تحت زعامة د. التيجانى سيسي بشخصيتة القومية وحركته الاقليمية. وللحق فان له شخصية كارزماتية واطروحات لاعنصرية و وحدوية.
وقد نجح ، كما نجح د. قرنق قبله ، فى توحيد كل تلك الحركات المختلفة وبأهدافها وطموحاتها المختلفة فى بوتقة أفكاره الوحدوية و التنموية لخدمة الاقليم فى ظل السودان الشمالى الموحد. ونتمنى أن يستمر فى جهوده وأن تحرص الحكومة على سلامته لأنه يمثل ثروة قومية. ونتمنى أن يحفظه الله من كيد الأعادى داخل أو حتى خارج السودان. ولاننا قد نعلم أو يجب أن نعلم بأن مشروع تقسيم وتمزيق السودان صار من أهداف الامبريالية العالمية الحديثة ويساعد مخططاتهم تلك الروابط الهشة ما بين أقاليم السودان الجغرافية المتسعة وتكويناته القبلية المختلفة. لذلك لابد للانتباه الى ذلك وتفهمه والعمل على تمتين الروابط المختلفة وجعلها مصدر قوة للوحدة بدلا من وقود للفرقة.

-3-
عموما كانت الشواهد تدل على أن معظم أبناء دارفور ينتمون الى طائفة الانصار ويداومون على قراءة راتب الامام المهدى ومن ثم ينتمون الى حزب الامة وأبلغ الأمثلة د. التيجانى سيسي نفسه. والبعض الآخر من أبناء دارفور ينتمون الى الطريقة التيجانية وهى طريقة محبة وتسامح ولا مكان للقبلية أو العنصرية فيها. حيث طاب المقام للشيخ/ يوسف الدقير والد د. جلال فى العيش فى المجلد وكذلك آل جحا وغيرهم.
عموما أن الاسلام هو القاسم المشترك بين جميع القبائل الدارفورية وكافة اهل السودان فلابد من الارتكاز على هذه النعمة حيث أنه يساوى بين الناس كأسنان المشط ولا فرق فيه إلا بالتقوي.
أما الذين يجاهرون بغير ذلك فى الكتاب الأسود وغيره فهى عبارة عن دعوات ذات أهداف سياسية مضللة وطموحات شخصية وبغرض الوصول للسلطة والحكم فلم تكن فى الأساس كلمات حق والذى اريد بها باطل. ونستطيع أن نجزم بأن المجتمع السودانى قاطبة لا توجد فيه تفرقة عنصرية أو قبلية وذلك من واقع معايشتنا لمثل هذه الممارسات فى الولايات المتحدة الأمريكية حيث ما زال هنالك بعض من الأماكن فى ولاية تكساس محرمة على ما هو غير أبيض البشرة، وهنالك بعض من عصابات البيض تقوم بقتل الأشخاص لا لذنب قد جنوه سوى لون بشرتهم ،،، ونفس الحال فى بريطانيا. والمثل الأعظم هو ما مارسه العنصريين البيض فى جنوب أفريقيا. ومن لم تسمح له ظروفه بالمعايشة فى تلك الثقافات فعليه الرجوع الى الكثير من الكتب أو حتى الافلام لمعرفة فظاعة التفرقة العنصرية التى مبرأ منها مجتمعاتنا المسلمة والمسالمة.

-4-
من الدروس السابقة نحو غاية الوصول الى الاستقلال الحقيقى يبدو أنها تكمن فى المزاج السودانى وتركيبة الشخصية السودانية نفسها حيث لا يعجبها العجب، وتميل الى النظرة التشاؤمية التى تضخم المساوئ وتجهل أو تسفه المحاسن. أى إنها دائماً ما تميل الى وصف الكوب بنصفه الفارغ. ولكن النظرة العلميه و الأكاديمية وسط كافة المعلمين تشير الى نجاح من يحرز النصف فأعلى. فالطالب الذى يحرز 50% وكذلك 95% أو 100% فهؤلاء جميعا أصابوا النجاح بدرجات متفاوته حسب الظروف والمعطيات المختلفة التى قد تفسر التفاوتات فى تحقيق النتائج المثلى والممكنة.
فالمزاج السودانى غالباً ما يميل الى التمرد على ما هو قائم آملاً نحو ما هو افضل مستقبلاً ، ثم يكتشف أن الذى تمرد منه كان أفضل مما هو عليه الآن. وكما يقول المثل الشعبى: تاباه مملح (أى وجبه خبز دسمة بالمُلاح) تفتش عليه قروض (أى دون أى مُلاح).
سعى الوطنيون الأوائل بجد وهمة لتحقيق الاستقلال من المستعمر البرطانيى/المصرى. وبعد مدة من الاستقلال تجد البعض يتحسر على زمن الانجليز بلفظ “يا حليل زمن الانجليز”،،، وهكذا الحال بالنسبة للعهد الديمقراطى،،، وحكم الفريق عبود الذى كان يهتف له بعد تنحيه من السلطة “ضيعناك وضعنا معاك” ،،، ثم المقارنات ما بين هذا العهد وذلك حيث ما زال البعض يتحسر على زمن نميرى. ويبدو أن ثقافة البكاء على الأطلال هى من شيمنا كما فى الثقافة العربية التى قوامها الترحال من مكان الى آخر حيث يبدع شعرائها فى تذكر الأطلال من جراء التنقل الطوعى. عموما نتمنى أن يتفهم المزاج السودانى هذه الوضعية والاملاءات الثقافية وان لا يأتى لنا زمنا نتحسر فيه على ضياع هذا النظام ونبكى ندماً على ما سوف يصير أطلالاً منه.
والنظام الحالى حقيقة وفَّر لنا الأمن والأمان ووفر العيش وبالطبع مع بعض من المعاناة أو حتى الظلم، ولكن اذا ما قارناه بامثلته من الأنظمة التى سقطت من جراء ما يسمى بالربيع العربى من حولنا نجده أفضل فى الكثير من المناحى. ولنا من الأمثلة ما لنا كما شاهدناه فى التلفاز أو سمعناه من القصص والأمثال. والنظام الحالى ساهم فى رفع المستوى المعيشى للمواطن السودانى الذى يمكن الإستدال عليه بالكثير من المؤشرات الإقتصاديه مثل إزدياد اعداد السيارات او المنازل او غيرهم.فأهل النظام الحالى هم أهلنا وإن ضنوا علينا فهم ايضا كرام وهذه محمدة الشخصية السودانية الطيبة التى تعفو حتى عن قاتل الرقبة اذا ما أبدى اسفه. لقد سبق وأن عفى السيد/ الرئيس عمر البشير عن المعارضة الخشنة لنجلة السيد/ الصادق المهدى د. مريم وامر باطلاق سراحها فوراً فى غضون سويعات من اعتقالها عندما علم انها مرضعة لتوأم. وسماحة خلق وكرم اهل السلطة امتد حتى لاسرة د. خليل ابراهيم المعارض الشرس لها حيث كانوا يقيمون فى عد حسين ويتمتعون بكافة حقوقهم المدنية. وكذلك كان الحال بالنسبة لاسرة دكتور الحاج آدم عندما كان مطلوبا للعدالة جراء معارضته. وليس الحال قاصراً لأهل هذا النظام انما امتد لغيرهم. حيث نجد أن الرئيس جعفر نميرى عندما علم شخصيا بأن جهاز امنه قد منع زوجة وأطفال المعارض آنذاك مهدى ابراهيم من السفر للِّحاق به فى بريطانيا أمرهم بتسهيل سفرهم فوراً ،،، حيث ذكر لهم بأن زوجته وأطفاله لا ذنب لهم. و للرئيس نميرى موقف آخر مدلل على سماحة خلقه حيث وافق على تشييع جنازة الراحل المعارض الشريف حسين الهندى ودفنه فى برى فى موكب مؤهيب. وأيضا امتدت سماحته وأمر جهاز الأمن من عدم اعتراض سبيل كل من أتى من المعارضين لحضور ذلك التشييع حيث مكنهم بعد ذلك من العودة للخارج لمواصلة معارضتهم لنظامه.

-5-
قد يظن بعض من القراء بأن ما نكتبه عن هذا النظام هو بغرض كسب ودهم أو لدينا دنيا نصيبها منهم. ولكننا نكتبها للحق وللحقيقة من أجل الوطن والمواطن. وندلل على ذلك بأننا قد نكون من أكثر المتضررين من هذا النظام حيث تم التغول على استثمارات لدينا قَدّرتها المحاكم بمبالغ ضخمة جدا آنذاك ،،، ولكن سلوانا وبل يقيننا بالله عز وجل جعلنا ننظر لكل ذلك بأنه من باب الرزق وأن الرازق هو عز وجل يسطره للانسان حيث يمنعه ويعطيه متى ما شاء وأنه هو العادل الذى لا عدل بعده. وان المؤمن لابد أن يصدح بالحق وبالحقيقة ولو يألوا على نفسه. وأن الولع والتهاتف والتلاهف نحو مكاسب الدنيا والتى من ضمنها الرزق لابد أن يستصحبه يقين بالخالق الرازق الله سبحانه وتعالى حيث المثل الشعبى (ما شق حنكا ضيعه) وكذلك الحكمة القائلة: (اذا كانت الارزاق تجرى بالحجى لهلكت من جهلهن البهائم). على أهل الحكم ان يتحروا العدل وعلى أهلنا فى السودان أن يتمسكوا ويستوصوا باليقين. وأن تكون مظلوما أفضل من أن تكون ظالما.

نستكمل في الغد بإذن الله

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..