الوساطة السودانية بين مصر وأثيوبيا حول مياه النيل (3) .. اا

الوساطة السودانية بين مصر وأثيوبيا حول مياه النيل (3) ..

بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان
[email protected]
1
أوردنا في المقال الأول من هذه السلسلة من المقالات تصريح السيد عبد الرحمن سرالختم سفير السودان بأثيوبيا لجريدة الصحافة بتاريخ الثلاثاء 10 يناير 2012 والذي كشف فيه عن وساطة ينوي السودان أن يقودها بين مصر وأثيوبيا بشأن ملف مياه النيل وبشأن الخلافات التي لا زالت ماثلةً بين دول حوض النيل حول بعض بنود اتفاقيتي 1929 و1959. أوضحنا في ذلك المقال نقاط الخلاف الأساسية حول هاتين الاتفاقيتين والتي يريد السودان التوسط من أجل حلّها، كما ناقشنا كيف صارت اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بين مصر والسودان نقطة تحولٍ حاسمٍ في تاريخ نهر النيل وتاريخ العلاقات بين البلدين أيضاً، وكيف خلقت تلك الاتفاقية حِلفاً قويّاً بين الدولتين. وشرحنا كيف تمّ تحت مظلة ذلك الحِلف تقاسم كل مياه النيل المقاسة عند أسوان بـ 84 مليار متر مكعب بين مصر والسودان.
ناقشنا في المقال الثاني صلاحيات الهيئة الفنية الدائمة المشتركة بين مصر والسودان، وتعرضّنا بشئٍ من التفصيل للسدود الثلاثة التي تم بناؤها بموجب اتفاقية مياه النيل، وهي السد العالي وخزان الروصيرص وخزان خشم القربة، وتعرضنا أيضاً للملابسات التي صاحبت البدء في بناء قناة جونقلي لزيادة إيراد النيل لمصلحة مصر والسودان، وظروف توقّف العمل في القناة إثر هجوم الحركة الشعبية عام 1984. أوضح المقال أن النزاعات حول مياه النيل برزت إلى السطح عندما قررت دول حوض النيل الأخرى، وتحديداً أثيوبيا وتنزانيا ويوغندا، بدء العمل في مشاريع لاستخدامات مياه النيل واعترضت مصر والسودان على تلك المشاريع بحجة أنها تضر بمصالحهما المائية وتتعارض مع اتفاقيات مياه النيل القائمة.
أثرنا بعد ذلك عدّة أسئلة عن وساطة السودان، منها: كيف يستطيع السودان، وهو طرفٌ رئيسيٌ في هذه الخلافات وحليفٌ أساسيٌ لمصر في نزاعاتها مع دول حوض النيل الأخرى، أن يلعب فعلاً دور الوسيط بين مصر وأثيوبيا، وما هو هذا الدور الذي يمكن أن يلعبه السودان فعلاً، وما هي النتائج التي يتوقعها؟
2
مع بداية سبعينيات القرن الماضي أصبح نهر النيل يعجُّ بالسدود في مصر والسودان. كان خزان أسوان الذي اكتمل العمل فيه عام 1904 أول سدٍّ يقام على نهر النيل. تبعه خزان سنار عام 1925 والذي كان الأول على النيل الأزرق. وقامت مصر ببناء خزان جبل أولياء في السودان كأول سدٍ على النيل الأبيض عام 1937. وقد أصبح خزان خشم القربة الأول على نهر عطبرة عام 1964، وخزان الروصيرص الثاني على النيل الأزرق عام 1966، والسد العالي أكبر السدود على نهر النيل، بل وفي العالم، عام 1971. سبقت هذه السدود القناطر الخيرية الأربع (إسنا، نجع حمادي، أسيوط، والدلتا) في مصر والتي ابتدأ بناؤها في القرن التاسع عشر.
وقد واصلت الدولتان بناء المشاريع على نهر النيل. وأكملت مصر النفق الأول لقناة السلام التي أوصلت بها مياه نهر النيل إلى صحراء سيناء، والتي تمر تحت قناة السويس، عام 1979، وتمّ التخطيط لريّ حوالي 620,000 فدان في شمال سيناء بحوالي خمسة مليار متر مكعّب من المياه. وأكملت مصر النفق الثالث عام 1996. وهذه هي القناة التي كان الرئيس السادات قد وعد أثناء زيارته لحيفا في سبتمبر عام 1979 بتوصيل مياه نهر النيل عن طريقها إلى إسرائيل. كما بدأت مصر في بناء مشروع توشكا في الصحراء الجنوبية الغربية، غرب بحيرة ناصر، لاستصلاح حوالي 540,000 فدان، بحوالي خمسة مليار متر مكعب من مياه بحيرة ناصر سنوياً لتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع. وقد احتجت أثيوبيا رسمياً على المشروعين خصوصاً على مسألة نقل مياه نهر النيل خارج منطقة الحوض.
كذلك واصل السودان بناء السدود، وبدأ العمل في سدّ مروي عام 2004 واكتمل في مارس عام 2009. وفي عام 2008 بدأ السودان في تعلية خزان الروصيرص، كما بدأ أيضا في مايو عام 2010 بناء خزاني سيتيت وأعالي عطبرة. وقد فرضت كميات الطمي الهائلة الآتية من الهضبة الأثيوبية، والبالغة حوالي 160 مليون طن سنوياً، بناء هذين السدين ليحلا محل خزان خشم القربة. فقد تراكمت كميات ضخمة من الطمي هذه في السدود الثلاثة الأولى (سنار والروصيرص والقربة) وأفقدتها نصف إمكانياتها التخزينية والتوليدية للطاقة. وقد ساهم هذا بدوره في نقصٍ كبيرٍ في استخدامات السودان من مياه النيل والتي لم تتجاوز 12 مليار متر مكعب سنوياً (رغم أن حصة السودان بموجب اتفاقية مياه النيل لعام 1959 هي 18,5 مليار متر مكعب). وقد صار واضحاً أن احتياجات مصر المتزايدة كفيلةٌ باستخدام أي مياهٍ تعبر حدودها من السودان. عليه فقد وضعت مصر والسودان أيديهما منذ سبعينيات القرن الماضي على كل مياه النيل والبالغة 84 مليار متر مكعب عند أسوان.
لابد من الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من أن نهر النيل هو أطول نهر في العالم (6660 كيلومتر)، ومن أكبر الأحواض المائية في العالم مساحةً (حوالي ثلاثة مليون كيلومتر مربع)، إلاّ أن حجم المياه التي يحملها، وهي 84 مليار متر مكعب مقاسةً عند أسوان، ضعيفٌ للغاية مقارنةً بالأنهار الأخرى. وحجم مياه النيل تساوي 2% من نهر الأمزون، 6% من نهر الكونغو، 12% من اليانغستي، 17% من النيجر، 26% من الزمبيزي. بمعنى آخر فإن مياه نهر الأمزون تساوي خمسين مرة مياه نهر النيل، ومياه نهر الكونغو تساوي 17 مرة مياه النيل.
3
نتج عن ضعف إيراد النيل ووضع مصر والسودان أيديهما على كلّ مياهه أنه عندما نالت دول حوض النيل الاستوائية (تنزانيا ويوغندا وكينيا وبورندي ورواندا والكونغو الديمقراطية) استقلالها في بداية ستينيات القرن الماضي وقررت، ومعها أثيوبيا، المطالبة باستخدام مياه النيل لمشاريع مياه الشرب والري وتوليد الطاقة الكهربائية أن عارضتْ مصر والسودان هذه المشاريع بشدّة. وظلّتْ مصر والسودان تحتجّان وتحاججنا أن هذه المشاريع ستسبّب ضرراً لمصالحهما وحقوقهما المُكْتسبة واستعمالاتهما القائمة في مياه النيل، و أنها تمثّل خرقاً واضحاً لاتفاقيات مياه النيل، وتحديداً اتفاقية عام 1902 بين أثيوبيا وبريطانيا، واتفاقية عام 1929 بين بريطانيا ومصر. وكما ذكرنا في المقال الأول فهاتان الاتفاقيتان لا تسمحان بقيام أي مشاريع تُؤثّر على منسوب النيل في مصر أو تُؤخِّر وصول مياه النيل لمصر بدون موافقتها. وقد أوضحنا أيضاً أن أثيوبيا تدعي أن نَصّ اتفاقية عام 1902 باللغة الانجليزية والآخر باللغة الأمهرية غير متطابقين، وأن هذه الاتفاقية لم يتم التصديق عليها بواسطة أيٍ من أجهزة الحكومة الأثيوبية، وبالتالي فهي ليست ملزمة على الحكومة الأثيوبية. من الناحية الأخرى تُصرُّ مصر والسودان على أن هذه الاتفاقية استكملت كل النواحي والإجراءات القانونية وهي ملزمةٌ على أثيوبيا.
كما أوضحنا أيضاً فإن دول حوض النيل الاستوائية ترفض اتفاقية عام 1929 بدعوى أنها تمت في العهد الاستعماري وأن هذه الدول ليست طرفاً فيها. وقد قامت الدول الاستوائية تحت نظرية نايريري (الرئيس الأول لتنزانيا) بعد استقلالها مباشرةً بإعطاء هذه الاتفاقية مدة عامين للسريان على أن تنتهي صلاحيتها بعد هذين العامين إن لم يتم التوصّل لاتفاقيةٍ جديدة تحلّ مكانها خلال هذه الفترة. ولكنّ مصر التي رفضت هذا العرض تُصرُّ على أن هذه الاتفاقية ملزمةٌ للدول الاستوائية تحت نظرية توارث الاتفاقيات.
4
وهكذا نشأت الخلافات حول مياه النيل وتطوّرت تدريجياً إلى نزاعاتٍ حادةٍ بين دول حوض النيل التي تمحورت في معسكرين هما السودان ومصر تحت مظلة حلف اتفاقية نهر النيل لعام 1959 من جهة، ودول منابع النيل من الجهة الثانية. وقد هدّدت مصر في عهدي الرئيسين السادات ومبارك عدّة مراتٍ أنها ستلجأ للحرب إذا تضرّرت مصالحها في نهر النيل بأية صورةٍ من الصور. وقد ردّت أثيوبيا بالمثل في عهد الرئيس ميليس زيناوي. وتدّعي دول المنبع أن مصر استعملت عضلاتها الدبلوماسية وعلاقاتها القويّة مع الغرب في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لوقف أي تمويلٍ لمشاريع الري وتوليد الكهرباء الواقعة على النيل في هذه الدول.
وقد برزت هذه الخلافات بوضوحٍ في الثلاثة أعوام الأخيرة في اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل التي بدأ العمل فيها تحت مظلة مبادرة حوض النيل عام 1999. ورغم أن المفاوضات حول اتفاقية الإطار التعاوني استمرت لقرابة العشرة أعوام، إلاّ أن الخلافات التي برزت كانت خلافاتٍ أساسيةٍ وجوهرية وتركّزت في ثلاثة محاور:
أولاً: في حين أصرّت دول المنبع على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول لمياه النيل المُضمّن في اتفاقية الإطار التعاوني، رأت مصر والسودان ضرورة أن تتضمن الاتفاقية إشارةً صريحة وواضحة في بند الأمن المائي إلى استعمالاتهما وحقوقهما القائمة وإلى عدم الإضرار بهذه الاستعمالات والحقوق. وقد رفضت دول المنبع تضمين الاتفاقية أي نصٍ في هذا المنحى لأن مثل هذا النص يلغى، من وجهة نظرها، حقها بنصيبٍ لها في مياه النيل المحدودة، ويعني الاعتراف بالاتفاقيات السابقة والتي ظلّت دول المنبع ترفضها بإصرارٍ وانتظام.
ثانياً: تصرّ مصر والسودان على أن تتضمن اتفاقية الإطار التعاوني مبدأ الإخطار المسبق لدول حوض النيل عن المشاريع التي تنوي أيٌ من دول حوض النيل إقامتها والتي قد تؤثّر على كميات أو نوعيات مياه النيل. وتتضمّن الاتفاقية إشارة إلى تبادل المعلومات فقط. وترفض دول المنبع مبدأ الإخطار المسبق وتدّعي أن مصر والسودان لم تقوما في الماضي بإخطار أيٍ منها بمشاريعهما التي بنتها على حوض النيل. كما تخشى دول المنبع أن يُفهم الإخطار المسبق على أنه اعترافٌ من دول المنبع باتفاقيتي عام 1902 و1929، والتي ترفضها دول المنبع.
ثالثاً: تصرّ مصر والسودان على أن يتم أي تعديلٍ للاتفاقية بموافقة كل الأعضاء أو بموافقة الأغلبية على أن تتضمن هذه الأغلبية مصر والسودان، بينما ترى دول المنبع أن يتم تعديل الاتفاقية بالأغلبية سواءٌ شملت هذه الأغلبية مصر أو السودان أم لم تشمل أياً منهما.
من الواضح أن هذه خلافاتٌ جوهريةٌ وكبيرةٌ ويتساءل المرء على ماذا كانت هذه الدول تتفاوض خلال العشرة أعوامٍ الماضية.
وكما ذكرنا في المقال السابق فقد قامت خمس دول هي أثيوبيا و يوغندا وتنزانيا ورواندا وكينيا بالتوقيع على الاتفاقية في شهر مايو عام 2010، وانضمت إليهم بوروندي في شهر فبراير من عام 2011. وتحتاج الاتفاقية إلى تصديق ست دولٍ لتدخل حيز التنفيذ. وقد وافقت هذه الدول الست على تأجيل التصديق على الاتفاقية على أمل أن تتم حلحلة هذه الخلافات مع مصر والسودان.
5
من المؤكد أن هناك الكثير من المتغيّرات في حوض النيل منها بروز دول المنبع كتكّلٍ مضادٍ للحلف السوداني المصري، واندلاع الثورة المصرية وسقوط نظام مبارك المتشدّد تجاه دول النيل، وفوز الأحزاب الإسلامية الكبير في الانتخابات المصرية. ومن هذه المتغيرات أيضا بروز أثيوبيا كقوةٍ إقليمية وانتهاجها لسياسة توليد الطاقة الكهربائية من خلال بناء السدود كعمودٍ فقريٍ لخطتها الاقتصادية الطموحة، وكذلك إصرار دول المنبع الأخرى على حقوقها في نهر النيل وتمسّكها باتفاقية الإطار التعاوني التي تعتقد أنها سوف تمكّنها من نيل هذه الحقوق رغم اعتراض مصر والسودان.
سوف نتطرّق في المقال القادم لكلٍ من هذه المتغيرات بالتفصيل ونناقش دورها وتداعياتها على حوض النيل وعلى الوساطة السودانية بين مصر وأثيوبيا.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..