أخبار السودان

القارئ يلاحق الكاتب

أمير تاج السر

منذ عدة أيام أرسل لي أحدهم رسالة يقول فيها: إن كل ما يكتب الآن من أدب في معظم دول العالم، خاصة عالمنا العربي، لا يمثل أي قيمة إذا ما قورن بالأدب الروسي الكلاسيكي، وما كتبه الأمريكان قديما، وإن من يدعون أنفسهم كتابا حديثين، هم في الحقيقة مجرد قراء صغار، كتبوا كما يكتب القارئ ملاحظاته، على أي كتاب يقرأه، لكن سذاجة القراءة ما جعلتهم ينجحون. وأضاف كاتب الرسالة: إنه يعتقد نفسه قارئا مهما، وله الحق في إبداء الآراء الصريحة، المناهضة لآراء معظم من يقرأون بلا تبصر، وستصل رسالته هذه لمن يهمه الأمر بكل تأكيد.

بالطبع ليست هذه هي الرسالة الأولى التي تصل إلى بريدي، وتطعن بعمق في صنعة الكتابة التي ليست صنعتي وحدي، ولا أملك فيها أي تميز أو حظوة خاصة، ولكن عشرات الرسائل ترد لي ولغيري من الذين يحاولون برغم المعاناة، إضافة معنى لحياتهم أولا، وللآخرين ثانيا. ومنذ أن أصبح الفضاء متاحا بجنون، والكتابة بأي لهجة أو حبر أو مستوى، تصل بكل تأكيد للذين توجه إليهم، والمبدعون بشتى أنشطتهم، مستهدفون: هناك من يمجد أعمالهم، هناك من يلعنها، هناك من يقترح أفكارا وعناوين، وكتبا لتقرأ بواسطة المبدع، وهناك من ينصب نفسه ناقدا أدبيا بلا وجه حق، وقد يستغرب البعض من ذلك الذي كتبت عنه مرة، وكان قد قال بأنه يملك مخزنا للأفكار، ومستعد لبيع الفكرة الواحدة للروائي الذي يعاني من جفاف الإيحاء، بعدة مئات من الدولارات.

إنها الإنترنت، أعظم الاختراعات وأضلها أيضا، وأتهمها صراحة بأنها السبب الرئيسي في الإساءة إلى الإبداع، وصفعه باستمرار، حين نجد تلك الاستفزازات المسماة كتابة، وحين تنتهك خصوصية الكاتب، بحشر آلاف المغالطات في بريد يستخدمه من أجل الإبداع أيضا. وقطعا يوجد أشخاص يمتلكون موهبة ملاحقة الكتاب، في كل زمن منذ عرفت الكتابة، فقط الذي اختلف في هذا الزمن، أن الكاتب شاء أم أبى أصبح ملما بكل ما يقال عنه، وبكل ما يوجه إليه، بعكس الماضي حين كان البريد العادي يصل أو لا يصل، والصحف المحلية في بلد ما، يمكنها أن تنبح في حق كاتب ليل نهار، ولا يعرف الكاتب المقيم في بلد آخر، ماذا قيل وماذا يمكن أن يقال. وبالطبع لم تكن للفضاء قنوات مزعجة تبرمج الجهل والخرافة، وتبث سوء الظن والفهم أيضا، ولا موقع للتواصل الاجتماعي ليصادق من يحملون السكاكين الافتراضية، المستعدة للقتل.

أذكر تلك الحملة الكبيرة ضد كاتب نجح، في سبعينيات القرن الماضي، وكنت طالبا صغيرا، كانت الصحف في بلده تكتب باستمرار، والبرامج الحوارية تتحاور في التلفزيون، وجمع من الأدباء المحليون يتحدثون بمغص وبازدراء عن ذلك الذي نجح خارجا، وينفون عنه وطنيته. وبعد عدة سنوات التقيت الكاتب وحدثته عن تلك الحملة، فقال إنه لم يسمع بها قط.

الآن أعود لمفردات تلك الرسالة، التي يظن صاحبها بأنه امتلك قواعد الكتابة ليصنف من يكتبون بأنهم قراء صغار، كتبوا بأقلام الهواة. نعم كان الأدب الروسي الكلاسيكي، أدبا عظيما، ولن ينسى أحد أعمالا مثل «الحرب والسلام» لتولستوي، أو «الجريمة والعقاب» و»الأبله» لدوستويفسكي، و»الأم» لمكسيم غوركي، تلك الرواية العظيمة حقا. وأكيد كتب هيمنغواي، وجيمس جويس وكافكا وغيرهم آدابا عظيمة، تعلمت منها أجيال عدة، لكن ليس معنى هذا أن الآداب انتهت أو توقفت في تلك الأيام، وإن ما أتى، وما سيأتي بعد ذلك لن يكون شيئا.

لقد كتب التركي أورهان باموق، وهو أحد كتابي المفضلين، في كتابه السيري «ألوان أخرى» إن الرواية الخالدة التي ستبقى إلى الأبد، لم تكتب بعد، وهو شخصيا سيسعى لكتابة روايته الخالدة.

لقد اعتبرت كلام باموق، مجرد كلام عام للاستهلاك ليس إلا، وشبيها بقول القارئ الذي خفض من قيمة الأدب الحديث، وألغاه تماما. ونحن باستمرار، نقرأ أقوالا كثيرة مثل هذه يتم تداولها باستمرار بين الناس، باعتبارها أقوالا عظيمة وخالدة، ولم أكن يوما مؤمنا بها، هناك من يقول جملا براقة عن المرأة، عن الكتابة، عن الحياة الزوجية، وهكذا، وكلها في رأيي الشخصي، أقوالا تخص من يطلقها ولا يجب أن تعمم دساتير، يتبعها الجميع.
أعود لرسالة صاحب القانون الافتراضي الذي ألغى به إنجازات عظيمة، أنجزها العالم الإبداعي حين أنجب ماركيز ويوسا ولوكلزيو، ومحفوظ وآلافا غيرهم، لأؤكد فجيعتنا التي تساوي فرحتنا حين اكتشف أحدهم ما سمي بالشبكة العنكبوتية، وحين استطاع آخرون تطوير ذلك الاكتشاف المذهل ليستخدمه الناس بلا حدود، ولا ضوابط وفي أي بقعة من بقع الدنيا. ثم لتأتي الهواتف النقالة وتساعد في التقاط الصور وبثها، وكتابة الآراء وتضمينها للرسائل بكل سهولة، في طوفان لن يستطيع إيقافه أحد.

في الحقيقة لا أحد ولا حتى ناقد محترف ومعترف به، يستطيع أو يجرؤ على إلغاء المنجزات الإبداعية. بنفس القدر، لن يستطيع هذا الناقد نفسه أن يكتب عن الهذيان المنتشر في الفضاء الافتراضي، كلمة سلبية قد تؤلب عليه الكثيرين ممن أصبحوا كتابا نافذين من خلف الـ»كيبورد»، ولهم قراء نافذون أيضا، خلف شاشة الحاسوب.

المشكلة هي مشكلة الكاتب الحقيقي، حين لا تلاحقه حقوقه المشتتة في الدنيا لتعود إليه، بل تلاحقه الآراء السلبية حتى في أحلامه.
كاتب سوداني

أمير تاج السر
القدس العربي

تعليق واحد

  1. أن يقدح الناس في كاتب ناجح في سبعينات القرن الماضي، ويعتورونه بسكاكينهم وعصيهم وسياطهم لمدة أسبوع كامل وهو لا يدري، لا يعتبر محمدة لذاك الزمان الغابر ولا نعمة للكاتب الذي لا يعلم بما يقال عنه… إن لم يستفد المبدع من الإنترنت ويوظفه لصالحه فسوف يخسر كثيراً لأن الإنترنت أصبح النافذة الرئيسية التي يطل منها كل الناس في العالم على المبدعين…. لقد ولًد الإنترنت القاريء الكاتب، والقارئ الناقد…. هذا بالإضافة إلى أنني شخصياً استحسن معرفة المبدع مظان الناس عنه وعن ما يكتب بدلاً أن يدفن رأسه في الرمال ويظن أنه مبدع مُجود ومحبوب من كل الناس…. عند بداية ثورة الإنترنت وأنهمار الأقمار والكواكب الفضائية على أرضنا…. استضافت القناة السودانية (تلفزيونا الواحد ده) الإذاعي محمد سليمان – والذي يوجد شبه إجماع سوداني على لؤمه و ” مساخته”- وكان الحوار في شكل كاميراً خفيه. أوضح المتصلون بطريقة مباشرة كما أوضح من استطلعهم التلفزيون على الشارع بأن محمد سليمان شخصية فجة ولئيمة ومسيخة وغير محبوبة. وبالطبع كان الأمر مبرمجاً ومرتباً(Staged). كانت المفاجأة هي رد محمد سليمان على تلك الإفادات السالبة، فقد ذكر، أنه لم يكن يعرف أن وجهة نظر الجمهور السوداني عنه سالبة لهذه الدرجة… إنها لعمري كارثة حقيقية أي أن يظل مبدعاً كاتماً على أنفاس الجمهور على مدى نصف قرن من الزمان وهو لا يدري أنه كذلك، بل الأدهي والأمر أن يعتقد هذا المبدع أنه عكساً لذلك تماماً….

    الإنترنت هو ثورة الحقيقية وتعرية الزيف سواء بالصورة أو بالصوت أو بالكلمة المقروءة إذ لم يعد هناك سر ولا إخفاء لأي حقيقة… كما أن القراء استفادوا من إسمائهم الوهمية التي يتدثرون بها وراحوا يكتبون أي شيء وكل شيء في حق المبدع والسياسي والبلد وكل شيء دون أي قيود تحدهم أو قوانين تطاردهم (Speak out their minds)،أي اعترافات وبيانات لم يكن أحد قبل ذلك يظن أنه سوف يقولها إلا أمام الخالق في يوم الحشر عندما تنطق الأعضاء بما اكتسبت في دنياها……

    الإنترنت أيضاً سهًل من عملية التواصل والتفاعل مع المبدع… فأصحبت وجهة نظر القارئ تصل إلى المبدع في ثواني في أي ركن في العالم… كما سهًل الإنترنت أيضاً معرفة القارئ بالمبدعين كما أصبح من السهل على أي قارئ الوصول إلى تلك الإبداعات وتنزيلها في دقائق معدودة…

    أخيراً نأمل أن يصمد المبدعين أمام ثورة الإنترنت ويوظفوها لصالحهم بدلاً من النظر إليها ك بعبع يهدد عروشهم الإبداعية، ولهم في الصحف الورقية والتلفزيون أسوة حسنة… إذا استطاعت الصحف الورقية خصوصا الأوروبية الصمود أمام بحر الإنترنت المتلاطم ووظفته لصالحها وعاد إليها القراء مرة أخرى سواء باقتناء تلك الصحف الورقية أو الوصول إليها عبر الإنترنت………

    أنا شخصياً لو لا الإنترنت لما تمكنت من معرفة مبدعي بلادي امثال أمير تاج السر، وحمور زيادة وهشام آدم وغيرهم……… شكراً للإنترنت…. وقديماً قالت جدتي واصفة الجوال الذي وردت به رسالة من الخليج تفيد وفاة حفيدها ثم اتضح لاحقاً أن الرسالة عبارة عن (Prank) أي مزحة من صديقه حيث كان الجوال أمراً جديداً في ذلك الوقت. سألت الجدة بعد اتضاح كذب الخبر، عن من الذي أذاع هذا الخبر؟ فقيل لها أنه الجوال فردت غاضبة قائلة: ( ود الغلفة الجوال القوال البوال)……..

  2. كان الكاتب أو المبدع في الماضي يكتب ويقيم نفسه حارساً على الأخلاق والشرف والفضيلة، ويُقحِم نفسه في السياسة والاقتصاد والطب، ويعتقد أن له أياد سحرية وعصا موسى الكفيلة بعلاج كل مصائب المجتمع وآلامه. كل ذلك يحدث دون أن يجد المبدع من يقول له (لا. توقف). كان المبدع يتدثر بكهنوت العلم وسدانة الإبداع، فهو لا ينطق عن الهوى وكل كلامه درر وأحاديثه عِبر. لم يكتف المبدع بهذا الدثار الواسع من الكهانة والسدانة، فراح يكذب، ويكذب ويكذب حتى يصدق كذبه…….. فهناك من الأدباء في عالمنا العربي من زعم أنه حفظ القرآن في سن الخامسة، ومنهم من زعم أنه يجيد ثمانية لغات، ومنهم من زعم أنه قرأ كل كتب مكتبة دار الكتب……. ومنهم…….. ومنهم….. من يزعم أنه يمشي على الماء ويطير في الهواء…………………… كان عدد النُقاد قليلا وهم إلى اليوم قلة ولا يستطيعون متابعة الكم الهائل من الإنتاج الأدبي، لذا فقد خلا الجو أمام المبدعين وأنصاف المبدعين فأصبحوا شخصيات انشطارية قابلة للأنقسام، فتارة نجد الكاتب وقد تحول إلى سياسي وتارة أخرى نراه وقد تحول إلى اقتصادي وكل ذلك حسب الحال والأحوال…….. جاء الإنترنت وظهرت معه مخلوقات ضعيفة تسمى (قراء الكي بورد) استطاعوا على الأقل أن يوصلوا رسالة إلى تلك النوعية من المبدعين مفادها: حاولوا إعادة قراءة أنفسكم……… لذا فقد رأينا كثير من الكتاب يحاول الدفاع عن ما كتب قبل يوم أو يومين وذلك بسبب النقد الهائل المُوجًه من تلك المخلوقات الضعيفة المسماة (قراء الكي بورد) أو كما كان يطلق عليهم المبدعون في السابق مصطلح (القارئ العادي)……….. ليس هناك اليوم كيان اسمه قارئ عادي…………….لقد تغير كل شيء ولكن المبدع العربي يحاول أن يخدع نفسه بعدم وجود هذا التغيير تماماً كما خدع الجيل السابق من المبدعين العرب قرائهم العاديين لمدة نصف قرن أو يزيد من الزمان.

  3. إذا كان العالم قد وقف مذهولا أمام الثوره الصناعيه الكبرى فإن هذا الذهول قد زال و تحول مع الإنترنت إلى حالة من الفخر بالعقل البشري .. فقد حول هذا المنجز الطفره كل الناس إلى متفاعلين بإمكانهم كتابة حالاتهم يوميا على صفحاتهم في مواقع التواصل ومشاركتها المتواصلين معهم في حالة أشبه بالعصف الذهني دون إنتظارها تمثل في إبداع مبدع كان .. وربما كان هذا أحد هواجس بعض المبدعين الذين يرون ذلك مصادرة لحق تدثروا به زمانا وصل الأمر ببعضهم درجة إدعاء إمتلاك الحقيقه .. حتى أيقظتهم ثورة الإنترنت وأنزلتهم من أبراج بنوها من عاج .. فلم تعد المعرفه تحتاج لتسفار فهي في المتناول .. والمادة الأدبيه متوفره وبغزاره .. والنقد لم يعد مهنة يرخص لها .. ما يلي مبدعينا فالأمر تخطى النقد إلى المقارنه بما أنتجه نظرائهم حول العالم.. خاصة وأن كثير من الأعمال الخالده أبدعت في ظروف أقل ما توصف بأنها مثاليه مقارنة بأزماتنا ومآسينا .. لذلك أنت تسمع أسئله من نوعية هو وينو المبدعين ؟ فليس غريبا أن يقترح قارئ بيع أفكار لروائيين يراهم يعانون من جفاف إيحاء ..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..