تمشي في جنازته الفراشات وتنتحب الحجارة

تمشي في جنازته الفراشات وتنتحب الحجارة

عمر الدقير
[email protected]

وترْكُكَ في الدُّنْيا دَوِيّاً كأنّما
تَداوَلَ سَمْعَ المَرْءِ أنْمُلُهُ العَشرُ

الإنسان زائل، تلك هي سنة الله في خلقه، لكن تبقى ذكراه بين الناس بقدر ما قدمه وأسهم به في مسيرة الحياة والأحياء … بعض الناس يمتزج موتهم بالبقاء … أو فيه كثيرٌ من البقاء … تظل ذكراهم بعد الموت حيةً عصيةً علي النسيان، كأنهم لم يغيبوا … يستسلمون للمشيئة الأبدية وحتمية الرحيل الأخير ، لكنهم يتركون أثراً لا يمحوه مر الأيام ولا كر السنين.

لسنواتٍ طوال، ظل الأستاذ محمد وردي يتمدد في ساحة الإبداع في بلادنا كما يتمدد النيل .. كان قامة سامقة في تلك الساحة يرمي فيها بعطائه الإبداعي المترع بالأمل والألم الصاعدِ دوماً لقيم الحب والخير والجمال المعبِّر عن وجدان شعبه وتطلعاته ومعاناته المزمنة وحقه في حياةٍ حرةٍ وعيشٍ كريم، والمحتفي بنضالاته وزحفه المقدس نحو الشمس ونحو النور … غنى لبعانخي وترهاقا ولملاحم البطولة والفداء في كرري، غنى لراية الإستقلال ولأكتوبر الأخضر ولهب الثورة في أبريل … غنى لتراب بلاده ونيلها ونخيلها وعيون نسائها … كان صوتاً للحرية في مناخات القهر، دوّت أناشيده في أزمنةٍ خرساء حتى رقصت الساحات تحت أقدام المتظاهرين .. بل ما كان له أن يحتل مكان الصدارة والريادة في الموسيقا والغناء لو أنه لم يحسن الإصغاء والإستجابة إلى نداء الحرية.

غنى محمد وردي للحب دافعاً به لمعناه الأسمى ليكون للشرفاء لواذاً يحميهم من السقوط في أوقات الإنحطاط … فالحب هو فضيلة الفضائل … والقلوب الخالية من الحب هي التي تدفع أصحابها إلى السقوط والإنحطاط والخيانة وإقصاء الآخرين والإعتداء علي حقوقهم … المحبون بعيدون عن فقر الروح وخمول العقل وفراغ الفؤاد، ولذلك فهم بعيدون عن السقوط والإنحطاط والخيانة يأكلون أصابعهم ولا يبيعون مبادءهم وقضاياهم.

رحيل محمد وردي موجع بكل معنى الكلمة … رحيله موجعٌ للجمال ، فقد كان عبقرياً ينفخ من روحه في طين الموسيقا فيستحيل مخلوقاً فنياً باذخ الجمال … رحيله موجعٌ للفرح، لأنه كان نثيثاً هتوناً يغسل الأحزان … وموجعٌ للصندل، لأنه الجمر الذي يُظهر طِيبه … رحيله موجعٌ للإنسان السوداني، لأن إبداعه ظلّ على مدى عشرات السنين يصوغ وجدان الشخصية السودانية ويمثل خيطاً بهياً في نسيجها … لذلك لم يكن غريباً أن ينتشر الحزن الكثيف في كل أرض السودان ويغطي سماءه بجناحيه الكتيمين، حتى يخال المرء أن الحجارة تنتحب وأن الفراشات تسير في موكب الجنازة.

الموت هو قدر الإنسان المحتوم وشرطه الأرضي … ولئن كان رحيل محمد وردي في هذا الوقت السجين يجعل أيامنا أكثر جفافاً، فإن إرثه الإبداعي الملتزم يفتح بوابات العيون نحو الشمس المضيئة … نسأل الله أن يشمله بالرحمة والعفو والمغفرة.

نشر بجريدة الصحافة 22 فبراير 2012

تعليق واحد

  1. انت عمر الدقير رئيس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم 84/85 صاحب الافتتاحية الشهيرة (الاخوة طلبة و طالبات جامعة الخرطوم الشرفاء)زمن ساطع،نزار،ناهد جبرالله،ودالشيخ……اين انتم ايها الشرفاء معقولة يادكتور عمر تنسحب من الساحة السياسية والعمل العام لعثمان الدقير و جلال الدقير .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..