(شان عيون أطفالنا ما تضوق الهزيمة)أين ضاعت أشعار الأمس الجميلة..؟

(أقول لشعراء الأغنيات الركيكة.. توقفوا عن اشعال الحرائق في البرتقال).. بهذه المفردات من رئيس جمهورية الحب الشاعر العذب اسحق الحلنقي، تحدث الحلنقي، وأضاف عن ظاهرة شراء وبيع القصائد الغنائية بأنها (أكوام من الطماطم بسوق الخرطوم)، وعن الذوق الفني حالياً لدى المواطن السوداني قال (إنه حالة من الهبوط الاضطراري)، لينتهي قوله في التفريق بين شعراء الأمس وشعراء اليوم بأنه كـ(اللؤلؤ الطبيعي، واللؤلؤ المصنوع من الزجاج)..

نعم.. هناك فرق بين المعطيات التي صنعت شاعر الأمس، والهاتفات التي تحيط بشاعر اليوم، فقد كانت تلك الأجيال التي عاصرت فترات الحقيبة والعصر الذهبي وخواتيم تلك المرحلة، قد تفردت وسبقتنا بنعمة الذوق الفني، وارتفاع ثقافة الاستماع، ولهذا استطاع شعراء تلك الفترة أن يجاروا ذاك الجيل المثقف عبر الكلمة واللحن والمعنى، وارتقاء وجدان أطياف من ذلك الجيل، ولعل هذا التميز هو الذي قاد إلى تميز شاعر الأمس، وجعله يحيل الكلمة إلى مفردة بالغة التأثير في الوجدان العام وادب اللسان، بل كانوا أمراء الرومانسية والوطنية، وأباطرة الوصف..
(لو وشوش صوت الريح في الباب..
يسبقنا الشوق قبل العينين..
وهنا عندما سئل الأستاذ الكبير والضليع في اللغة العربية (كرف) عن هذا البيت قال (الحلنقي مثّل الفيزياء في الشعر بسرعة الصوت وسرعة الضوء)..
كان بعض من جيل الشعراء من وصلوا حينئذ إلى مرتبة رئيس وزراء، فهاهو محمد أحمد المحجوب يقول:
أكاد اسمع صوت واجفة من الرقيب تمنى طيب لقيانا
ظاهرة الأغنيات والكلمات الركيكة قديمة، وقد عاصرت الجيل الذهبي، بل وما قبله، فمنذ أن كانت أغنيات البنات أو ما يشابهها مثل (جياشة والجيش نقلوا فتاشة)، وغيرها.. لكنها كانت تنتشر في شخوص ذوي وعي (دكاكيني)، أي للخاصة عندها، أما اليوم فقد حملت بعض الألبومات عناوين (يا حلاة لذاذة الولد) وما شابه ذلك..!!
للغناء الركيك عوامل كثيرة، وهو يختلف عن الغناء الهابط، بالهابط يأتزر كل مترادفات قلة الذوق والوجدان العالي، ولكن الغناء ذي الأشعار الركيكة، نجد أن صاحبها لا يرتفع إلى سماوات التعبير الوصفي السامق، فقد يكون صادقاً في وجدانه، راقٍ في عواطفه وغير مبتذل، ولكن المفردات التي يسوقها لا تشبع الذوق الثقافي..
الآن تردت الأحوال الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لشعراء اليوم، فهم أبناء هذه المكونات المتردية، فتردت وفقها أذواقهم الشعرية، وانحطت في مستواها الذوقي الذي نعكس مباشرة على ما تتعاطاه المسامع من مواد فنية ينبغي أن تكون غذاء للروح..
كان شعراء الأمس يبحثون عن القيم الجمالية للكلمات:
أ على الجمال تغار منا
ماذا علينا إذا نظرنا
هي نظرة تُنسي الوقار
وتسعد الروح المُعنّى
يا الله.. ما أعذبه من تعبير، ولكن هناك ومع هذا الشعر الرصين، فنانين كبار أسهموا -من حيث لا يدرون- في انتشار التعابير الركيكة..
ذكر الفنان الراحل حسن عطية في لقاء اذاعي، انه تأثر في مقتبل عمره الفني بمطربة اسمها (بت العقاب)، وقد نقل عنها أهزوجته:
انت كان زعلان أنا ما بزعل
وانت كان مبسوط يا سيدي نحنا بالاكتر
ففي حين انتشر الغناء ذو النصوص الشعرية الركيكة في تاريخ الغناء الوسداني، وتحديداً في فترة الحقيبة، فقد أدت مداولات الشعراء حينئذٍ إزاء ذلك إلى الاتفاق على (ترقية الأغنية السودانية)، وهي تعتبر حينها أول محاولة لتنظيم ذوق الفن الغنائي، حيث بادر الشاعر سيد عبد العزيز بغسل هذا الغبش عبر تبني الفنان زنقار، حيث قام بأخذ ألحان الأغنيات الركيكة ووضعوا عليها الأشعار الجزلة من الشعر الغنائي الراقي..
كان شعراء الأمس يمتلكون ناصية اللغة الفصحى، والعامية المفصحة، والثقافة الاجتماعية، لكن شعراء اليوم جاءت مخارج تاريخهم الوجداني (مسطحة)، فأخرجت شعراء (مسطحين) بعضهم أنصاف موهوبين، يقولون ما يتوهمونه شعراً بينما هو كلمات مرصوصة، وأسموا بذلك في (تسطيح) الغناء.. أين ما نسمعه اليوم من:
إن تكن أنت جميل..
فأنا شاعر يستنطق الصخر العصيا
لا تقل اني بعيد في الثرى..
فخيال الشعر يرتاد الثريا..
ففي خواتيم العصر الذهبي للغناء السوداني جاء فنانون عاصروا بعضاً من ألق هذه المفردات الجزلة.. ويقال ان الراحل مصطفى سيد أحمد الذي كان يرقد مريضاً في مستشفى بروسيا، حيث كان يشاركه الغرفة مواطن مصري، هذا المصري أجهش بالبكاء حين سمع مصطفى يدندن بأغنية (عم عبد الرحيم)..
أما قصيدة (أغداً ألقاك) للهادي آدم فقد اختارتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم من بين مئات القصائد التي قدمت لها ابان زيارتها للسودان في العام 1968م عندما زارت الخرطوم، وتغنت بها بمسرح سينما (قصر النيل) بعد أن وضع لها محمد عبد الوهاب لحناً رائعاً.. غنتها ليسمعها الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج، وبسببها تم منح الهادي آدم وسام الجمهورية الذهبي وكرمته السفارة المصرية، هذه القصيدة وصفتها أم كلثوم بأنها (كنز أدبي)..
فأين نحن اليوم من مثل هذه الكنوز..؟
لكن دعونا نغني ونأمل:
بكرة نرجع تاني للكلمة الرحيمة
شان هنانا.. شان منانا..
شان عيون اطفالنا ما تضوق الهزيمة..
ولهذا لابد لنا من الرجوع للكلمة الرحيمة، العذبة، الجزلة.. (عشان) منانا.. و(هنانا الذوقي)، وكيما (عيون أطفالنا ما تضوق الهزيمة) بمثل هذا الغثاء:
بنمسكا من الكوبري.. دي البداية من بري..!!

أضف تعليقك طباعة الموضوع أرسل الموضوع
(قراءة: تعليق: 1 طباعة: إرسال: )
التعليقات

——————————————————————————–

1/ Khalid Idris – (Saudi Arabia ) – 28/3/2011
اجمل ما في المقال خاتمته ، بالنسبة للغناء والشعر زمان والان فالفارق بينهما كالثرى للثريا ، وما اصاب الهبوط الغنائي فالاعلام له دور ودور كبير جدا وذلك باطلاقه لالقاب لفنانين لم يكادوا ان يقرؤ ما كتب اليهم من شعر ناهيك عن فهمه والا لما كانوا قد تغنوا به وان كان يفهموه فتلك طامة كبرى ، كما ان هنالك بعض من الشعراء الكبار ومن بينهم مشار اليه في المقال هذا صاروا ينحون مناحي لا تليق بمقاهم وذلك بكتابتهم لاغاني ان لم تكن هابطة فهي أقرب للهبوط وتعطى لمانحين أدعوا بانهم ملحنين وهم والتلحين كالليل والنهار . واما بالنسبة للشعراء الذين يغثونا بالغناء الهابط والركيك والفنانين الذين ييعرون به فهؤلاء مشكلتهم كبيرة جدا وأسها يكمن في التعليم الذي تلقوه فالان ومعظم الخريجين من دكاترة ومهندسين قواعد لغتهم العربية ( صفر ) كما ان تعبيراتهم الاملائية دون ( الصفر ) فماذا تريدون ان نرجى منهم وتريدون ان تقارنوا بين الذين درسوا القرآن في الخلاوي وبين الذين درسوا في المدارس الحكومية المهملة والمدارس الخاصة التي لا هم لها الا جمع الاموال .

الرأي العام

تعليق واحد

  1. فلنبدأبأساسيات الإملاء والحروف العربية فخريجي اليوم لا يعرفون الفرق بين الغين والقاف ,الذال والزاي ,السين والثاء
    فكيف لنا ان ننظم شعرا لا نعرف كيف ينطق او يكتب
    فلنبدأ بالأساسيات
    واسفي اني واحد من هؤلاء

  2. وبرضوا نحن اهل الفرحة جينا لا المدامع وقفتنا ولا الحكايات الحزينة

    واحد تاني-ان تعترف بصعوبة اللغة العربية فانت افضل من غيرك (فعلى الاقل انت تحترمها)ولك التحية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..