إسهامات مطلوبة قبل اليوم الموعود «3» الوجه النقابي

إسهامات مطلوبة قبل اليوم الموعود «3» الوجه النقابي

أم سلمة الصادق المهدي

على مدى مقالين سابقين في بحر الأسبوعين الماضيين، كنا قد عرضنا حال أوضاع بلادنا المتردية، وخلصنا بحسب شواهد سردناها مكانه، إلى ما دلنا على دنو ساعة الخلاص من «الإنقاذ» الشيء الذي يحتم علينا نحن أهل السودان استباق أي تغيير في ساحتنا السياسية بجهود تبذل على مسارين: اتفاق بين الفصائل المختلفة مسلحة وسياسية، والآخر رصد أكاديمي لتجاربنا الوطنية منذ الاستقلال للاستفادة من الصالح وطرح الطالح. وفي الإطار الأخير كان تناولنا لتجربة الديمقراطية الثالثة استعانة بما تم تفصيله في كتاب الديمقراطية راجحة وعائدة بقلم الإمام الصادق المهدي رئيس وزراء ذلك العهد.
وبدأنا في الجزء الثاني من الإسهامات المطلوبة بتناول الوجه السياسي بوصفه مكوناً من مكونات الديمقراطية، وفيه تطرقنا إلى حال الأحزاب السياسية والجمعية التأسيسية وطرائق التعامل بين تلك الأحزاب، وقد تتبعنا ما طرأ على تلك الملفات كلها من تطورات وما فيها من مناقص في حينه، كما تطرقنا الى بشرياتها بمستقبل واعد قطع طريقه انقلاب يونيو 89م، وتطرقنا كذلك إلى وجوه التدهور فيها كلها بعد يونيو 89م كما هو متوقع من حكم شمولي غاصب. وأشرنا في الإطار إلى رأيناه من أهمية إدراك دور تلك الأحزاب خاصة الحزبين الكبيرين «الأمة والاتحادي» باعتبارهما مكونين راسخين في الواقع السياسي السوداني لا يمكن تجاوزهما وضرورة تطويرهما باتجاه الحداثة تدرجاً لا يحرق المراحل.
ونتناول اليوم وجهاً آخر من وجوه الحكم الديمقراطي التي كنا قد عددناها في المقال السابق:
2ــ الوجه النقابي:
النقابات من تنظيمات المجتمع المدني تقع في فضائه باعتباره قطاعاً ثالثاً يحمي مصالح منسوبيه ضد القطاع الأول «الحكومة» وضد القطاع الثاني«الخاص»، ومن أهم مقومات تلك المؤسسات الأهلية أنها تقوم على الفعل الإرادي الحر التطوعي، وأنها لا تسعى للوصول إلى السلطة، وأنها توجد في شكل منظمات ويوجد بها تنوع في الاتجاهات والتيارات المختلفة.. الخ. بحسب محمد الفاتح عبد الوهاب في مقاله بعنوان: منظمات المجتمع المدني النشأة والآليات وأدوات العمل وتحقيق الأهداف الحوار المتمدن ــ العدد: 2724 ــ 2009 /7 / 31 ــ 09: 47
وبحكم التعريف أعلاه ما كان ينبغي إيراد الوجه النقابي من ضمن مكونات الحكم لولا أن السودان نسيج وحده! فلأسباب كثيرة منها حل الأحزاب السياسية في فترات الشمولية الممتدة في عمر السودان الوطني، كان للحركة النقابية قدح معلى في النضال ضد دكتاتورية العسكر، وبسبب ما للحركة النقابية في السودان من جذور راسخة وتجارب غنية استحال على الشموليين الذين اختطفوا السلطة في السودان التخلص منها أو تهميشها «هذا التفسير خاص بشموليتي نوفمبر ومايو، أما الانقاذ فقد تعمدت تهديم كل التنظيمات المشابهة سواء في الحركة النقابية أو الطلابية». ولذلك استطاعت النقابات العمالية والمهنية لعب أدوار مشرفة وغير منكورة ضد الشمولية المايوية وتقديم إسهامات مرصودة في اندلاع انتفاضة رجب المباركة في عام 85م التي اقتلعت شمولية مايو.
وبعد تحقيق المرام التزمت السلطة الانتقالية التي تشكلت بعد الانتفاضة المباركة بإجراء الانتخابات العامة الحرة في موعدها. ولكنها تركت للحكومة المنتخبة ورثة مثقلة بتمدد نقابي أو سلطان نقابي وتسابق مطلبي حاصر الحكومة المنتخبة «أطروحة حزب الأمة للديمقراطية المستدامة ــ موقع حزب الأمة». وبحسب ذلك الكسب النقابي الصادح وتركة التمدد النقابي من الفترة الانتقالية وجدنا أنفسنا أمام:
1ــ حركة نقابية مهنية لعبت دوراً سياسياً كبيراً وصارت متحسرة على ضياع ذلك الدور منها وتريد بشتى الطرق استراداده.
2ــ حركة عمالية نقابية مدركة أن تخلفها في الانتفاضة أضعف دورها، فصارت تتظلم من الدور السياسي الذي آل لبعض النقابات المهنية التي تملك قوة على الضغط أكثر من غيرها، وهي تستعمل القوة أحياناً، لأن قواعدها تأخذ عليها الامتناع من ذلك.
فنحن إذن أمام نقابات تلعب أدواراً سياسية. ولكن هذا الدور السياسي الذي لعبته تلك النقابات أخرجها عن دائرة التعريف النمطي للنقابات بوصفها قطاعاً ثالثاً واجبه أن يقتص حقوق منسوبيه من القطاع الأول وهو الحكومة، ومن القطاع الثاني «الخاص» وحصلنا بعد انتفاضة رجب على وضع تطابق فيه القطاع الثالث مع القطاع الأول، وكان هذا أول عيب أدى الى أداء شائه في كثير من مناحيه: مثلا د. الجزولي دفع الله رئيس وزراء الحكومة الانتقالية كان قبل ذلك رئيساً لنقابة الأطباء، ومن موقعه رئيساً للوزراء لبى كثيراً من مطالب الأطباء النقابية، فتطلع المهندسون وهم نقابة انتفاضة لمعاملة مماثلة، وعندما عوملوا بالمثل انفجرت المطالب من نقابات المهنيين المختلفة مهددة بسلاح الإضراب: «القضاة في الهيئة القضائية كانوا حريصين على تميز شروط خدمتهم وإلا أضربوا، وفي ذات الوقت أخذ الحقوقيون في ديوان النائب العام يطالبون بتطبيق تلقائي لامتيازات القضاء عليهم وإلا أضربوا.. وقال الأساتذة إنهم هم الأولى بالصدارة لأنهم علموا الجميع. ولكن حتى بين الأساتذة أصر أساتذة جامعة الخرطوم على تمييزهم عن بقية الجامعات السودانية الأخرى وإلا أضربوا، كذلك حدث ذات عدم الرضاء في ترتيب وظائف القوات النظامية بين الجيش والشرطة».
الوضع الشائه الآخر هو أن التنظيمات النقابية في السودان قد تم جرها لدور سياسي، وكان أول الأحزاب السودانية اهتماماً بجر النقابات لدور سياسي هو الحزب الشيوعي السوداني الذي تدفعه عقيدته السياسية إلى التماس قاعدة عمالية لنفسه. وهذه النزعة كان لها أثران:
الأول: زرع الريبة في نفوس بعض القوى السياسية الوطنية نحو التنظيمات النقابية.
الثاني: المسارعة إلى العمل في أوساطها «مما يعيدنا إلى الوضع الشائه الأول وهو تسييس العمل النقابي».
3ــ كذلك كانت النقابات المهنية تتظلم من وجود مفارقات بين شرائحها.. مفارقات عمقتها التسويات الجزئية مع النقابات الضاغطة. والنقابات كيانات ديمقراطية وقياداتها تتنافس أمام قواعدها. والقيادة التي تنال تأييداً أكبر هي التي تأتي بمكاسب أكبر، لذلك تدخل القيادات في مزايدات وإلا فقدت ثقة القواعد.
4ــ ومع هذا التظلم كانت أيضاً النقابات تشكو من تآكل قيمة الجنيه السوداني وصعوبة المعيشة، لا سيما أن الحد الأدنى للأجور بقي على ما كان عليه «60» جنيهاً سودانياً في الشهر. والغلاء والضائقة المعيشية مدعاة للضغط على القواعد النقابية، وهذا بدوره يؤدي إلى نفاد الصبر.
5ــ كل ذلك بالإضافة إلى أن النقابات كانت قد عانت كبتاً وقهراً شديدين على أيام النظام المايوي، وها هي تنعم بالحرية، ومناخ الحرية بعد الكبت يؤدي حتماً لنوع من الاندفاع.
وأدى الوضعان الشائهان أعلاه: «مشاركة النقابات في الحكم وإفرازات ذلك، واستغلال النقابات في أغراض السياسة» إلى مطالبات لا نهائية من النقابات وتلبية جزئية لبعض النقابات التي وجدت طريقها الى الحكم، مما أدى إلى مزيد من إضرابات غير مبررة في كثير من الأحيان تطالب بالحقوق وتغفل عن الواجبات، كما أدى تسييس الحركة النقابية إلى ذات المآل وإلى توقف عجلة الاقتصاد، وفي النهاية لعبت الحركة النقابية دوراً كبيراً في تقويض الديمقراطية.
ومن أول الدروس المستفادة «كما يبين الإمام الصادق في الكتاب»: وجوب إبعاد الحركة النقابية من الغرض السياسي، والخروج نهائياً من ذهنية المواجهة للاستعمار أو الديكتاتورية أو الرأسمالية المستغلة التي تتصرف بها كثير من النقابات، كما أضيف هنا كذلك وجوب إبعاد النقابات من ممارسة السياسة بشكل مباشر «كحكام» منعاً لتكرار تجربة الحكومة الانتقالية.
ورغم تلك الإخفاقات لكن تبقى العبرة بالخواتيم، ويظل «الرَّك» على النهج ، فالنهج السليم يمضي بالحوار الى نتائج مثمرة، وهذا هو ما انتهت إليه المساجلات المحتدمة بين الحكومة والحركة النقابية، فقد تم الاتفاق على أسس العقد الاجتماعي لضبط العلاقة بين الحكومة والحركة النقابية، كما تم في مارس 1989م إقرار طرح شكل الحكم وبرنامجه بعد نقاش موسع ضم الأحزاب والنقابات، وأدى للاتفاق على البرنامج المرحلي الذي وقعت عليه كل اتحادات العاملين. وقبل تكوين الحكومة الأخيرة في الديمقراطية الثالثة تلقى السيد رئيس الوزراء تأكيدات قاطعة من النقابات نحو الحكومة الجديدة، وتعهدات بوقف الإضرابات أثناء تنفيذ البرنامج المرحلي، كما تلقى تأكيدات بأن القوات المسلحة سوف تلتزم بالشرعية الدستورية والانضباط.
وفي المقابل نجد أن النهج السقيم يورث خللاً مستحكماً، وقد صدق حدس رئيس الوزراء بقوله إن الحركة النقابية إذا قامت بحقوقها وواجباتها فإنها ستدعم التنمية والاستثمار والإنتاج والحرية والديمقراطية، وإن غفلت عن ذلك فالحركة النقابية نفسها ستكون من ضحايا نظام قمعي فاتك، وستضيع الدجاجة التي تبيض ذهبا!!، وفي الإطار نجد أن هذا هو ما انتهى إليه حال الحركة النقابية. فالإنقاذ عملت بشكل قصدي على تدجين النقابات والاتحادات حتى أجهزت عليهما بنوعين من السياسة: الأول إبعاد أي عنصر تشعر بعدم انتمائه للحركة الإسلامية وإحالته للصالح العام بغرض تمكين أفرادها، والثاني إنشاء ما يعرف بنقابة المنشأة التي حولت العامل إلى جزء من السلطة عن طريق السيطرة على النقابات بقيادات تنتمي للحركة الإسلامية، كذلك أصبحت طبقات العمال المختلفة من المدير إلى الخفير في جسم واحد يصعب من خلاله التحرك والمطالبة، «فشل الحركة الإسلامية السودانية في الحكم عبرة لمثيلاتها ــ مدونة حسن الرأي». ومن أمثلة القضاء المبرم على الحركة النقابية والضحك على الذقون، أن رئاسة اتحاد نقابات عمال السودان عهدت إلى بروفيسور إبراهيم غندور رئيس قطاع العلاقات الخارجية في حزب المؤتمر الوطني الحاكم في ذات الوقت!! وبما أن الحكومة مازالت هى المخدِّم الرئيسى بالرغم من سياسات الخصخصة والتحرير الاقتصادى، فإن الجمع بين المنصبين يجعل استقلال اتحاد نقابات عمال السودان فى خبر كان، وتتراجع مهمته في الدفاع عن مصالح قواعده بصورة كبيرة، وينتهى دوره إلى رافد من روافد الحزب الحاكم والحكومة، يبارك ويبصم على سياستها بغض النظر عن آثارها على الطبقة العاملة «المصدر السابق». وهنا ينتهي دوره بوصفه قطاعاً ثالثاً من أوجب واجباته استخلاص حقوق منسوبيه من الحكومة أو القطاع الأول، مثلما ذكرنا أعلاه.
وفي الأسبوع المقبل نتناول الوجه العسكري إن شاء الله.. وسلمتم.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..