العلاقات المدنية-العسكرية (5)

بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقات المدنية-العسكرية (5)
المؤسسة العسكرية السودانية وضرورات الإصلاح

د. أحمد حموده حامد
[email][email protected][/email]

مقدمة:
تطرقنا في الحلقات السابقة إلى ماهية العلاقات المدنية-العسكرية وطبيعة المهنية العسكرية وتناولنا التوتر المتأصل بين المدنيين والعسكريين فيما يتصل بإدارة الدولة والحكم وصناعة القرار وضرورة خضوع المؤسسة العسكرية للقرار المدني. أشرنا ايضاً إلى المآلات الخطيرة المترتبة على هيمنة المؤسسة العسكرية على جهاز الحكم ومؤسسات الدولة وانعكاسات ذلك على مستقبل البلاد وحياة الناس وأمن المجتمع واستقراره. نتناول في هذا المقال ضرورات الإصلاح في المؤسسة العسكرية السودانية بغية وضع العلاقات المدنية-العسكرية في إطارها الصحيح وتضمين ذلك في الدستور الدائم للبلاد. هذا شرط ضروري إذا ما أريد حقاً إقامة نظام حكم ديمقراطي معافى يضمن الحريات العامة ويصون كرامة الانسان ويؤمّن التداول السلمي للسلطة دونما تغول من المؤسسة العسكرية أو الأحزاب الفاشلة التي تسعى لاستغلال المؤسسة العسكرية في صراعاتها الحزبية وكسبها السياسي الضعيف.
بدايات تدخل المؤسسة العسكرية في الحكم والسياسة في السودان:
أول بدايات تدخل العسكريين في السلطة السياسية في السودان كان الخطأ القاتل في تولي البكباشى عبد الله بك خليل رئاسة الوزارة عن حزب الأمة مباشرة في بدايات الحكم الوطني عقب الاستقلال. الخطورة هنا تكمن في أن القادة المدنيين الذين يفترض أن يقودوا الدولة ومؤسساتها المدنية في مرحلة التخلق هذه embryonic تقاعسوا عن هذا الدور المفتاحي في مستقبل الدولة ? ربما بسبب عجزهم أو مناكفاتهم ? وأوكلوا المهمة للعسكريين. نسي القادة المدنيون أو تجاهلوا من عمد أو ربما لحسابات خاطئة أن العسكريين يشكلون “الخطر الداخلي” الذي يهدد مستقبل الدولة الوليدة ونظامها الديمقراطي ومؤسساتها المدنية, خاصة وان الدولة انعتقت للتو عن الدولة الاستعمارية البريطانية ذات أعرق الأعراف الديمقراطية في العالم. تسليم المدنيين رئاسة الوزارة للقادة العسكريين كان ? ولا يزال ? هو بمثابة اعتراف ضمني بفشل النخب المدنية في تحمل مسؤولية إدارة الدولة عن جدارة واستحقاق وإلغاء دورهم في عمل بناء الدولة وتوكيل ذلك الدور للقادة العسكريين. كان من السهل بناء دولة ديمقراطية حقه تنمو بسلاسة على تربة الموروت الديمقراطي البريطاني الذي خلفته الدولة الاستعمارية في نظام الحكم والمؤسسات المدنية والنظام القضائي. والأهم من ذلك ابتعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة وخضوعها للقرارات الصادرة من القيادة المدنية للدولة. لكن المدنيين ارتكبوا الخطأ الفادح بتسليم مقاليد الدولة للقادة العسكريين, خطا لا زال السودان وقياداته المدنية يدفعون تكلفته الباهظة حتى اليوم. وسوف يستغرق تصحيح هذا الخطأ ردحاً من الزمن لإعادة المؤسسة العسكرية لوضعها الطبيعي.
هناك تفسيران لهذا الخطأ الذي ارتكبه القادة المدنيون في تقديم قادة عسكريين لتولي الوزارة في بدايات الحكم الوطني. أولهما محاولة الأحزاب الطائفية الاستقواء بالمؤسسة العسكرية في صراعاتها السياسية مع الأحزاب المنافسة, والتعويل على المؤسسة العسكرية لحسم الصراع لصالحها إذا استدعى الأمر (ولا يزال هذا النهج وهذا التفكير قائماً حتى اليوم في ما نراه من التحاق العقيد عبد الرحمن الصادق المهدي ونجل السيد محمد عثمان الميرغني مستشارين للمشير عمر البشير بالقصر الرئاسي). وثانيهما ? وهذا يرتبط وثيقاً بالأول ? هو ضعف الإيمان بالديمقراطية في الأساس كعقيدة ومبدأ لحكم البلاد والتداول السلمي على ذلك الحكم, بدلاً من نهج المناكفات والمؤامرات واستقطاب المؤسسة العسكرية كطرف في الصراع الحزبي على السلطة. لا غرو أن ذلك الخطأ القاتل في تلك المرحلة من تخلّق الدولة السودانية كان ولا يزال ذو ارتدادات تكتونية تعصف بمستقبل البلاد كما تعصف بمستقبل العديد من القادة السياسيين السودانيين المدنيين حين اختاروا تسليم السلطة للقادة العسكريين (حالة قادة حزب الأمة وزعيمه الإمام الصادق المهدي) أو تحالفوا معهم (قيادات القوميين العرب والبعثيين والناصريين في تحالفهم مع نميري) أو تآمروا معهم على وأد الديمقراطية (حالة قادة الحركة الاسلامية وزعيمها الشيخ الدكتور الترابي). وحين نرى ما آل اليه حال هؤلاء القادة اليوم لا يسعنا إلا أن نتذكر المثل القائل “وعلى نفسها جنت براقش”. ولا غرابة انه ? وبعد أن تذوّق العسكريون حلاوة السلطة ? انقلبت المؤسسة العسكرية على الحكم الديمقراطي المدني بعد عامين فقط من عمر الدولة المدنية الوليدة. ويشير الكثير من المتابعين أن ذلك لم يكن انقلاباً بالمعني المفهوم, بل كان أقرب الى تسليم السلطة للعسكريين من قبل القيادة المدنية لحسم الصراع كما أسلفنا. ويدخل هنا البعد الخارجي, حيث لجأت بعض الأحزاب للاستعانة بقوى خارجية ? خاصة مصر ? للتدخل لدعم وإنجاح الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال إبراهيم عبود عام 1958م خاصة وأن مصر كان لها حساباتها الخاصة بها لجهة تمرير صفقة بناء السد العالي على الأراضي السودانية. ثم توالت من بعد ذلك الانقلابات العسكرية على الحكومات المدنية في السودان حتى نجد أن حصيلة الحكم العسكري هو أكثر من 76% من عمر الدولة السودانية الوطنية المستقلة مقارنة ب 24% للحكم المدني النيابي (45 سنة حكم عسكري (ولا يزال) مقابل 11 سنة حكم نيابي مدني).
إن حال السودان اليوم وما يكتنفه من مخاطر تتهدد بقاء الدولة ذاتها, و ما آل اليه من تفكك واحتراب داخلي واستعداء خارجي من القريب والبعيد وتدهور مريع في كل مناحي الحياة وضائقة معيشية وتدهور في الاقتصاد وغلاء طاحن كل ذلك مع انعدام الرؤية لأي مخرج من الأزمات التي يأخذ بعضها برقاب بعض, ما هي إلا نتائج منطقية لاستمرار الحكم العسكري الذي أقعد البلاد على مدى نصف قرن من الزمان. ويبقى الاصلاح الشامل أمراً ملحاً وعاجلاً بإعادة هيكلة وصياغة المؤسسة العسكرية على أسس جديدة صحيحة.

ضرورات الإصلاح:
1. أولاً: إصلاح الحياة السياسية المدنية:
لإصلاح المؤسسة العسكرية السودانية لا بد أولاً من إصلاح الحياة السياسية المدنية وتطهيرها من الممارسات الخاطئة والأفكار الانتهازية التي همها الاستحواذ على السلطة والغلبة الحزبية بأي ثمن. فلا بد أن يبتعد السياسيون وقادة الأحزاب والمؤسسات المدنية عن السعي لاستقطاب المؤسسة العسكرية والزج بها في صراعاتهم الحزبية والجهوية على حساب الممارسة الديمقراطية النزيهة والكسب السياسي الشريف. ولا مندوحة أمام القادة المدنيين على مختلف أطيافهم إلا الإيمان الصادق بالممارسة الديمقراطية كنهج قويم للتداول السلمي للسلطة ليس فقط لأجل الوطن وفضيلة النزاهة بل أيضاً لأجل مستقبلهم السياسي ذاته الذي سيكون في مهب الريح حين تتغول المؤسسة العسكرية على السلطة وتحرمهم ممارسة حرياتهم السياسية وتزج بهم في السجون. كما يجب علي قادة الأحزاب السياسية أن يسنوا سنة حسنة في دارهم وبين أنصارهم في انتهاج الممارسة الديمقراطية الحقّة ونشر ثقافة الحرية وتقبل الرأي الاخر وتداول السلطة بالتي هي أحسن. ولتسعى القيادات وقادة الرأي والمهتمين بالتربية والدولة لترسيخ تلك القيم حتى تصير قيماً راسخة في المجتمع. وحينئذ لا يجد العسكريون التربة الصالحة لتنفيذ انقلاباتهم العسكرية حين يعي الناس حقوقهم ويحلون مشاكلهم بالحسنى.
ويتطلب ذلك الالتزام أن تتعاهد القوى المدنية على ميثاق شرف للدفاع عن الدولة ومؤسساتها الديمقراطية والحريات العامة وقطع الطريق أمام الانقلابات العسكرية من العسكريين المغامرين ومن السياسيين الفاشلين الذين يلجأون للمؤسسة العسكرية حين يعجزون عن المنافسة الشريفة.
2. ثانياً: إصلاح المؤسسة العسكرية السودانية:
? أن يشغل منصب وزير الدفاع شخصية مدنية ولا يشغل هذا المنصب شخصية من أفراد القوات المسلحة سواء كان في الخدمة أو في التقاعد.
? منصب رئيس هيئة الأركان يتم شغله بالتناوب بين قادة الوحدات المختلفة: قائد سلاح الطيران, قائد سلاح البحرية, قائد المدرعات والمشاة. يتم التعيين لهذا المنصب بواسطة رئيس الدولة بعد موافقة البرلمان على تسمية المرشحين للمنصب.
? قومية المؤسسة العسكرية يتم اختيار المجندين لها وصف الضباط بحيث تكون مرآة تعكس المجتمع بكل تكويناته وطوائفه وأعراقه وجهاته.
? إلغاء ازدواجية الأدوار بالنسبة لأفراد القوات المسلحة الذين يشغلون وظائف مدنية والرجوع إلى وحداتهم العسكرية.
? تتم الترقيات إلى الرتب العليا بواسطة مجلس الترقيات للرتب العليا يجيزها رئيس الدولة وتتم الموافقة عليها بواسطة البرلمان.
? تحسين أوضاع أفراد القوات المسلحة والارتقاء بهم فنياً ومهنياً وغرس مبادئ الجندية الاحترافية واحترام المؤسسات المدنية والانصياع للقرار المدني.
? وضع كل المعلومات التي تجمعها مؤسسة الاستخبارات العسكرية في يد الحكومة المدنية وكذا المعلومات التي يجمعها جهاز الاستخبارات والأمن الوطني بحيث تخضع هاتان المؤسستان الاستخباريتان لمحاسبة الحكومة وأجهزتها الرقابية.
? عدم اشتغال المؤسسة العسكرية أو المنتسبين لها من الجنود والضباط والقادة في التجارة وتحويل كل الأنشطة الاقتصادية التي كانت تديرها المؤسسة العسكرية إلى الدواوين الاقتصادية المعنية في الاقتصاد الوطني وإخضاع كل حسابات المؤسسة العسكرية من عوائد ومشتريات إلى إشراف وزارة المالية.
? اصلاح النظام العدلي في المؤسسة العسكرية وذلك بالآتي:
? قيام الشرطة العسكرية بدورها المنوط بها في معالجة حالات الانتهاكات التي يرتكبها أفراد القوات المسلحة أثناء تأديتهم لواجباتهم.
? الانتهاكات ذات الطبيعة الجنائية يخضع مرتكبوها للقانون العام ويقدمون للعدالة. فلا حصانة لأفراد القوات المسلحة في مثل هذه الحالات. أما الجرائم ذات الطبيعة العسكرية التي يرتكبها العسكريون أثناء تأديتهم لمهامهم فتخضع هذه للمحاكم العسكرية.
? إعمال الشفافية التامة في الجهاز العدلي للقوات المسلحة بحيث يتم تمليك الرأي العام كافة الحقائق والمعلومات وتفاصيل المحاكمات والإجراءات القانونية التي أتُّبعت قي المحاكم العسكرية.
? أقامة جهاز مستقل يعهد اليه إرساء أسس عدلية رصينة وإقامة آلية للتحري في التجاوزات السابقة لأفراد القوات المسلحة مثل انتهاكات حقوق الانسان شبيه بمفوضية “الحقيقة والمصالحة”Truth & Reconciliation Commission في جنوب افريقيا التي أنشئت لمساءلة أركان نظام الفصل العنصري آنذاك.
? ترقية الشرطة:
? وحتى لا تتدخل المؤسسة العسكرية في النزاعات الداخلية التي تنشا بين فئات من المجتمع لأسباب سياسية أو اقتصادية, يجب زيادة الاعتمادات المالية المخصصة للشرطة لتقويتها بالتدريب والتأهيل والمعدات والأجهزة المتطورة حتى تكون قادرة على التصدي لمتطلبات الأمن الداخلي.
? ترقية مناهج تدريب إعداد الشرطة بحيث تلبي متطلبات أمن المجتمع بحرفية عالية ومحاسبة مرتكبي أي انتهاكات تقع على حقوق الناس من ممارسات الشرطة أو سوء استخدام الصلاحيات الممنوحة لها.
هذه بعض من طرائق الاصلاح التي نرجو أن تضمن في القوانين وفي الدستور الدائم للبلاد لضمان بناء علاقات صحيحة بين المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة المدنية. وفي خاتمة المطاف الهدف النهائي هو إصلاح حال البلد الذي يترنح على حافة الهاوية. فلا بد من أن نضع المصالح العليا للوطن نصب أعيننا ونغسل أنفسنا من الأنانية وحب الذات والاغترار بالمجد والأبهة والسلطان. الرجاء معقود على أن نتكاتف حتى لا يضيع الوطن من بين أيدينا. ولا يفوتنا أن نذكر قادة المؤسسة العسكرية ومنتسبيها أن هناك إجماعاً عاما بين المختصين والعامة أن فشل الدولة السودانية سببه هو سوء الحكم وإدارة الدولة. ولما كان نصيب الحكم العسكري للبلاد 76% من عمر الدولة السودانية المستقلة, تتحمل المؤسسة العسكرية الوزر الأكبر في هذا الفشل. وعليه يتوجب على المؤسسة العسكرية إعادة مسؤولية حكم الدولة لأصحابه المدنيين فأهل مكة أدرى بشعانها.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..