نقد: (سلام وطيد.. وطن مجيد)

نقد: (سلام وطيد.. وطن مجيد)

عبدالله آدم خاطر:

تحت رايات الصوفية وطبولها، وبسَمْتْ طائفتي الختمية والأنصار وأعلامهما، ورفرفة علمي السودان الطارف والتالد، وبشعارات القوى الاجتماعية لتيار اليسار ويافطاته سار الراحل محمد ابراهيم نقد محمولاً على الأعناق في موكب مهيب، بطرقات حي الخرطوم (2)، حي شركاء الاستقلال من المهنيين الذين اشتغلوا بقضايا الرأي العام، من أمثال ابراهيم أحمد، محمد أحمد محجوب، أحمد خير، نصر الحاج علي، إبراهيم المفتي، وغيرهم. طاف الموكب كل الطرقات المؤدية الى ترب فاروق المقابل الجغرافي لحي العمارات غرباً، أما المقابر فقد جمعت الرجال والنساء من كل الأطراف وكل التنوع السوداني سياسياً ومدنياً، وبعضهم كان يشنج بالبكاء، خاصة قدامى (الرفاق) الذين رأوا في حياة نقد بينهم طعماً خاصاً، وأسلوب حياة جديرة بالاهتمام والتطوير.
كان حملة النعش ومن كانوا بالمقابر ومن أراحوا الجثمان في آخر مراقد الدنيا، كانوا يجهرون بالصلوات والدعاء والنحيب والخطاب المؤيد لحسن خاتمة الراحل سياسياً واجتماعياً، وكانوا حقاً بمظهر المدنية وسلوك الاستنارة وقبول الفراق كأمر حتم، فيما كانت الهتافات في غيرما صخب أو مماحقة تؤكد أن ثمة ضرورة لدورة جديدة من الحياة السياسية في البلاد. كانت الرؤى واضحة والكلمات معبرة، والسمت العام حضاري، مما سهل الأمر على قوات الأمن والشرطة مراقبة الأوضاع في غيرما حماس لاختلاق مواقف معادية، هذا فضلاً عن أن ليس هناك من تطوع أمامها باستفزاز.
(2)
كنت شاهداً قريباً من مشهد إيداع الجثمان مرقده. كانت الأصوات تعلو بالدعاء وطبول الصوفية وهي تبارك رحيل نقد الإنسان المطمئن، وتحولت المناسبة من المشاركة في وداع زعيم سياسي مرموق وإنسان رفيع المواهب، الى حالة من الرغبة في تفسير المناخ الروحي الذي ساد المكان: أهي رضا الوالدين.. أم صدق النوايا في خدمة الوطن دون مقابل شخصي؟. أم هي جميعاً بتفاصيل وروايات مختلفة؟.
من بين تلك الروايات قصة حكاها لي قبل أعوام أحد مواطنيه من مدينة القطينة، كان حاضراً وشاهداً على ما جرى. كانوا خروجا من مسجد المدينة وبينهم نقد، عندما برز أحد المواطنين ووجه حديثه الى نقد ذاكراً أن له ابناً قد حصل على الشهادة السودانية ويود أن يكون ضمن قائمة المبعوثين الى الاتحاد السوفيتي للدراسة، وأضاف (منها يمكن يبقى ليكم كادر). رد نقد (حكاية الكادر دي خليها.. بس الولد خليهو يتعلم عشان ينفعك بعدين بالمصاريف). مثل هذه الحكايات يلتقي فيها معه الراحل الشريف حسين وربما غيرهما من قادتنا السياسيين، على أن بعضهم يملك قدرة العطف على الأفراد ولكنه عطف قد لا يخلو من جنحة الاستغلال السياسي.
أثناء انتظار وصول الجثمان للمقابر، كنا نتحدث ثلة من الناس حول مزايا الراحل ومساهماته وفيض شعوره بالتواضع الإنساني، دونما تخلي عن دهاء السياسي فيه، حتى عندما وصل الجثمان محطته الأخيرة، وأخذت الألسن تعلو بالدعوات المرققة للعواطف والمدرة للدموع، تسارع اليقين إلى وجداني بأن رضا والديه وخاصة أمه ربما كانت أولى مداخله لقبول الحقيقة والتواضع لها وحب الآخرين والقبول بهم. بدا لي أيضاً أن عاطفة الحب الأسري الذي عاشه الراحل ربما كانت أيضاً احد مفاتيح صبره على النضال غير المتكافئ في ميادين خصومة واضحة المعالم، وهكذا كلما التقى سعاد شقيقته والمحاضرة بجامعة الأحفاد للبنات أسألها عنه، فلا تملك الحديث عنه الا كملك خاص تعيش خصوصية علاقتها به، ولعل تلك الخصوصية في العلاقة معه هي التي جعلت المشيعين كل على حده يعتقد صادقاً أنه فقد شخصاً قريباً منه، وربما صديقاً له وان اختلفت دروب الوصول الى حقائق الحياة الماثلة.
(3)
عاش نقد في جيل يستحق التقدير، ويستحق الدراسة والاهتمام أيضاً، وتجربة جيله هي التي أعطت استقلال البلاد الزخم والنضارة، وهي تجربة أبرزت تطلعات الشعب السوداني في الاستقلال والكرامة، بيد ان مأساة جيله برغم قدراته كانت مناهجه في العمل العام، فقد كانت دائما مختلف على جدواها. إن مدارس حنتوب ووادي سيدنا وخورطقت هي التي عُجمت فيها أعواد الشباب في جيل نقد، من القادرين على العطاء ليتسلموا رايات القيادة فيما بعد. كان من بين زملائه في حنتوب عبد الله زكريا، حسن الترابي، إبراهيم منعم منصور، أحمد دريج وجعفر نميري، وموسى عوض بلال وغيرهم، لقد كان بوسع ذلك الجيل إذا ما بدأ قيادته للبلاد بمفاتيح الواقع السوداني المتنوع، ربما وصلت البلاد إلى غير ما هي عليه الآن، من عنت متعدد الأوجه، ولكن الإنسان ابن بيئته. عاش هؤلاء جميعاً في بيئة ما بعد الحرب العالمية عندما تقاسم الحلفاء المنتصرون سلطة إدارة العالم في مؤتمر يالطا في البحر الأبيض المتوسط، حيث أصبح العالم مقسوماً إلى معسكرين ما بين الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي والرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وانحاز معظم جيل نقد الى الشيوعية باعتبار أن بلادنا كانت ترزح تحت نير الاستعمار البغيض يومئذ.
بجيل نقد احتدم الصراع في السياسة السودانية على قاعدة المبادئ، ولعل الذي ميز نقد من بين زملائه الشيوعيين وغيرهم من العقائديين، انه ظل على مبادئه الى يوم وفاته دون جمود، وظل يطور ذاته الحزبية من خلال منظومات ومنابر اليسار العريض خاصة في المجالات الاقتصادية الاجتماعية والثقافية. من بين أكبر مساهمات تيار اليسار، ان جاءت منه المبادرة بالقول ان داء السودان العضال في انعدام التنمية في كل أجزائه.
بتلك الخلفية لم يكن مدهشاً أن تواصلت خطوط التحالفات السياسية للحزب الشيوعي مع قوى الريف أيا كانت قواعد الأخيرة الحزبية أو القبلية أو الطائفية. لعله من عبقرية نقد أن أدرك وأكد ألا تناقض بين الدين والتنمية، فسعى الى فتح آفاق الحوار بين حزبه والأحزاب التي اعتمدت العمل السياسي على قاعدة الدين، خاصة حزب الأمة بواجهاته المختلفة والحركة الاسلامية بشقيها الشعبي والوطني. كذلك ساهم مع آخرين لعل من أبرزهم كامل محجوب في فتح الطريق أمام قوى الريف للتعبير عن ذاتها الثقافية وتطلعاتها الاجتماعية الاقتصادية أياً كانت توجهاتها وممارساتها الدينية، وذلك بالمساندة السياسية للمبادرات، وإن ظلت قوى الريف في مراحل مختلفة في تاريخ تطورها السياسي تعبر عن عدم ترحيبها بمساهمات الشيوعيين خاصة قبل النزاعات المسلحة في كل الريف السوداني، والتي بذل نقد جهداً كبيراً للتحذير من انفجارها عندما كان زعيماً للمعارضة الديمقراطية في الجمعية التأسيسية بعد الانتفاضة.
كانت تطورات الأحداث واضحة، ولكن الفرق كان كبيراً بينه وبين منافسيه في الحركة الاسلامية، بينما تعلم نقد كثيراً من تجربة إنقلاب 1971م واتخذ لنفسه وحزبه أسلوب التنوير السياسي، اتجه زملاؤه في الحركة الإسلامية الى اعتماد أسلوب التعبئة السياسية التي قادتها الى الانقلاب العسكري، والعزلة تم التراجع، وهكذا لم يكن مدهشاً أن التقت كل الرايات السياسية على قبره، ومنابر تأبينه، واعتمدت وصيته (سلام وطيد.. وطن مجيد) والتي رفعها بعضهم على بطاقات ورقية كبيرة وهم يتجولون بين الناس في المقابر.
(4)
وجدت نفسي في مرحلة الاختيار ضمن المنتمين الى تيار الفيدرالية وتضامن قوى الريف بشعار (التنمية من الواقع الثقافي). في بعض مراحل مسيرة التضامن طلبنا الى قادة الحزب الشيوعي الا يشغلوا منابرهم الإعلامية بأخبار التضامن، إذ كان ذلك برأي التضامن أفضل أسلوب للتعاون من أجل المستقبل، لأن البديل لذلك اضطرار التضامن لبذل الجهد والوقت لتأكيد الا علاقة له بالحزب الشيوعي. لقد كان لحكمة قادة الحزب دوراً بارزاً في الاحتفاظ باستقلالية تجربة التضامن وضمان تقديمه مبادرات تصب في خدمة القضية السودانية في جذورها، خاصة في السعي الحثيث لتأهيل عاصمة الوطن لاستيعاب مزايا المواطنة واللامركزية والتنمية المتوازنة والعلاقات الخارجية خادمة للتنمية وحسن الجوار والسلام.. الخ.
في ذلك السياق وبعد الانتفاضة وشبح المجاعة أخذت تتراجع عن غرب السودان عامة ودارفور خاصة، التقيت نقد مصادفة في الفندق الكبير (سابقاً). سألني في رغبة عما اذا كان مناسباً ان يساهم الحزب الشيوعي في جلب إغاثات إنسانية لدارفور من الاتحاد السوفيتي؟ بعد ان شكرته أخبرته أن دارفور اخذت تتعافى من شبح الجوع، ولكن من أجل ألا يحدث لحزبه تعقيدات في دارفور بسبب التنافس الحزبي اقترحت عليه عدم وصول اغاثة من الإتحاد السوفيتي بمبادرة الحزب. بقبول نقد للمقترح والعمل به تعزز عندي جدية الحزب الشيوعي في التعاون على أساس تنموي، على الأقل في حالة دارفور، وهكذا عندما وقع ما كنا نحذره من نزاع مسلح بتأثير أطراف قومية ومشاركتها، وضع نقد نفسه وحزبه في خدمة العملية السلمية لدارفور في خانة المسهلين في الداخل أو الخارج بما في ذلك مشاورات الدوحة. لم يكن نقد طرفاً في النزاع في أي مرحلة من مراحل النزاع الذي هز الضمير الدولي بانتهاكات حقوق الانسان والتي ماتزال ذيولها تحت المعالجة الانسانية والادارية والقانونية بوثيقة الدوحة.
كنت دائم الحذر في حواراتي مع قادة اليسار، بيد أني ونقد التقينا متجاورين في طائرة أقلت مجموعة الى الدمازين تلبية لدعوة وجهها مالك عقار قبل أن يصبح والياً للنيل الأزرق احتفالاً بمناصرة أهل النيل الازرق لدارفور، وقد احتشد الناس وأمضينا نهارنا معاً وعدنا بذات الطائرة للخرطوم. كان ضمن حوارتنا في ذلك اليوم الخريفي (يوليو 2007) ان ذكرت له تحفظ تضامن قوى الريف من الشيوعيين لأنهم يؤمنون باللامركزية الثقافية ولكنهم مع الفكر المركزي سياسياً وتنظيمياً، أما تعقيبه فقد جاء واضحاً (شوف انحنا في الحزب الشيوعي تجاوزنا تلك المعضلة، نؤمن اليوم باللامركزية الثقافية والسياسية معاً، وإذا لينين ذاتو قام من قبرو انحنا ما حنرجع عن الوصلنا ليهو دا)، وذلك ما أخذ به الحزب الشيوعي السوفيتي في اعترافه بالفيدرالية في حالة نزاع ايرلندا كما وردت في أدبيات الشيوعية العالمية.
(5)
لقد فقدت قوى الريف بموت نقد نصيراً لقضايا اللامركزية الثقافية السياسية في سياق سقوط المركزية المتلاحق والمستمر في نظمها الفكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية، كما فقدته أسرته الصغيرة والممتدة في القطينة بالنيل الأبيض والمحس، وأيضاً فقدته جماهير دائرته في الديوم بالخرطوم، بل وفقده مواطنوه أهل السودان خاصة عارفي أفضاله الانسانية، سائلين الله تعالى أن يشمله بفيض رحمته ولطفه ويكتبه من أهل السعد… آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..