المحكمة الدستورية تثبت وجودها وجدواها

أ.د. الطيب زين العابدين

أصدر مولانا عبد الرحمن يعقوب إبراهيم عضو المحكمة الدستورية في 15 أبريل 2015 حكماً تاريخياً ضد وزارة العدل (النائب العام) في قضية قتلى مظاهرة بورتسودان التي ذهب ضحيتها أكثر من 20 مواطناً قُتلوا بدمٍ باردٍ في 29 يناير 2005.وفيما يلي بعض حيثيات الحكم التي استند عليها القاضي وقامت بنشرها كاملة جريدة (السوداني) الغراء بتاريخ 8 يوليو 2015م.

وقعت أحداث شغب في مدينة بورتسودان بتاريخ 29/1/2005 إثر خروج جمهرة من المواطنين في مظاهرة وحدث صدام راح ضحيته قتلى عدد من المواطنين. أفادت تحريات الشرطة الأولية في بورتسودان أن الجثث قُتلت رمياً بالرصاص من قبل قوات تتبع للدولة، سواء كانت شرطة أم جيش أو خلافه، واكتفت الشرطة فقط بالأمر بتشريح الجثث ودفنها، ولم تقم بفتح دعوى جنائية ولو ضد مجهول. تدخل وزير الداخلية الذي أمر بتكوين لجنة تحقيق ثم دخل بموجبها في تفاوض مع ذوي المجني عليهم بغرض تسوية الأمر مما يعني إقراراً ضمنياً بأن من قام بقتل المجني عليهم يتبع لوزارة الداخلية. وبالفعل تمت تسوية مع بعض ذوي المجني عليهم ورفض الطاعنون (الذين رفعوا الأمر للمحكمة الدستورية) مبدأ التسوية وطالبوا وكيل النيابة المختص بالسير في إجراءات الدعوى الجنائية ضد القوات النظامية. رفض وكيل النيابة ذلك الطلب في قراره الصادر في 13/12/2011م، فتقدم الطاعنون باستئناف إلى وكيل أول النيابة الذي رفض أيضاً الطلب لتقديمه خارج القيد الزمني المقرر له، ورفع الطاعنون استئنافاً ضد هذا القرار إلى وكيل النيابة الأعلى الذي بدوره رفض الطلب وأمر بحفظ الأوراق. أيد رئيس النيابة العامة بولاية البحر الأحمر ذلك القرار كما أيَّده أيضاً المدعي العام لجمهورية السودان بتاريخ 6/6/2011م، وعليه رفع عدد من المحامين الدعوى إلى المحكمة الدستورية إنابةً عن الطاعنين استناداً على انتهاك قرار المدعي العام لحقوق موكليهم الدستورية في المواد 28 و35 من الدستور.

كان رد النيابة على طلب فتح الدعوى الجنائية ضد القوات النظامية والاستئنافات المتكررة ضد رفضالطلب على مستويات ولاية البحر الأحمر ثم على مستوى المدعي العام بوزارة العدل أن حقهم في التظلم قد سقط بالتقادم، ليس ذلك فحسب بل طالبت النيابة مقدمي الطلب بتحديد أشخاص بعينهم في القوات النظامية لمباشرة الإجراءات ضدهم (شرط تعجيزي من الدرجة الأولى). يعلق مولانا عبد الرحمن يعقوب قاضي المحكمة الدستورية على الرفض المتكرر لفتح الدعوى الجنائية وعلى الطلب الغريب بتحديد المتهمين من القوات النظامية بأن جريمة القتل من الجرائم المطلقة والتي تفتح الدعوى فيها حتى لو كان القاتل والمقتول معاً مجهولين، وإن من واجب الشرطة والنيابة البحث عن الجناة والقبض عليهم وتقديمهم للعدالة. كما أن النصوص التي اعتمدت عليها النيابة في رفض فتح الدعوى الجنائية لا يمكن إعمالها في هذه الحالة، لأن الشرطة والنيابة هي التي تقاعست في بادئ الأمر عن فتح الدعوى الجنائية خلافاً لما نص عليه القانون. لكل ما تقدم فإني أرى أن القرار موضوع الدعوى قد خالف نص المادة (35) من الدستور وحجب حق الطاعنين في اللجوء إلى القضاء بإجراءات ظاهرها تطبيق القانون وهي في حقيقة الأمر مخالفة واضحة لنصوص القانون والدستور. “بناءً عليه أرى أن نلغي قرار النيابة موضوع الدعوى ونأمر بفتح دعوى جنائية باسم الطاعنين ضد من تسفر عنه التحريات وتقديم من توجه إليه التهمة إلى القضاء.”

ووافق على هذا الحكم الرشيد بقية أعضاء المحكمة الدستورية دون تحفظ: د. محمد أحمد طاهر، د. محمد إبراهيم الطاهر، أ. سنية الرشيد ميرغني، د. حاج آدم حسن الطاهر، أ. سومي زيدان عطية، د. وهبي محمد مختار (رئيس المحكمة الدستورية).

إن أهمية هذا الحكم تنبع من طبيعة سياسة الدولة الاستبدادية التي تلجأ دوماً لتحصين قيادات الدولة وعناصر الأجهزة الأمنية من المحاسبة أمام القضاء مثل بقية المواطنين، يتضح ذلك في منح الحصانة الإجرائية أو الموضوعية لعدد كبير من منسوبي الدولة قال عنهم وزير العدل السابق إن عددهم يبلغ ربع العاملين في الدولة! وبمادة سقوط الدعوى بالتقادم (مرور 5 سنوات على الحادثة) حتى لو كانت حادثة قتل ولا أدري أي فقه أجاز لهم ذلك، وبأساليب أخرى ملتوية مثل عدم فتح الدعوى الجنائية ابتداءً مثلما حصل في قتلى قضية بورتسودان، وإجراء تسوية سرية تضطر أهل المجني عليهم بقبول تعويض مالي، وعدم نشر تقارير لجان التحقيق المكلفة بالتحري في أحداث معينة، وغير ذلك من أساليب وتكتيكات التأجيل والتعجيز التي تجيدها بيروقراطية الدولة الأمنية، والتي عادة ما تجد التغطية والحماية من قيادة الدولة العليا. وحجة الدولة الاستبدادية في اتباع تلك الأساليب غير القانونية وغير الأخلاقية وغير الإسلامية، أنها تحمي النظام المستبد القائم في وجه المعارضين له والمتربصين به الدوائر، وأي تساهل في حماية عناصر الأجهزة القمعية من الإجراءات القانونية يؤدي إلى خفض روحهم المعنوية وإضعاف حماستهم في ردع المعارضين والمشاغبين الذين يريدون إسقاط النظام الحالي. فالدولة الاستبدادية تحلم أن تبقى في السلطة إلى أن يتنزل عليهم نبي الله عيسى عليه السلام من السماء فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. وقد لا يتنازلون له بسلاسة عن السلطة كما يتوجب عليهم في طاعة الأنبياء! الغريب أنهم لا يكفون عن الاستشهاد بمقولة رسول كسرى إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما رآه نائماً تحت ظل شجرة في العراء: عدلت فأمنت فنمت يا عمر!وأصدقكم القول بأني أصبحت مقتنعاً في المدة الماضية بأن النفاق الذي يمارسه محترفي التدين السياسي هو أكثر وأشد خطراً على الحياة الدينية والاجتماعية من ممارسات الجماعات الأخرى بشتى أصنافها، ولا حول ولا قوة إلا بإلله.

وقد تكرر في السنوات الماضية تقاعس الشرطة والنيابة عن إجراء تحقيق جاد في حوادث أدت إلى القتل نذكر منها: مقتل عدد من المتظاهرين في كجبار (يونيو 2007)، مقتل طلاب من دارفور بجامعة الجزيرة (ديسمبر 2012)، مقتل عدد كبير من انتفاضة الشباب في ولاية الخرطوم (سبتمبر 2013)، مقتل طالب في حرم جامعة الخرطوم (مارس 2014)، مقتل بعض المتظاهرين من الطلاب في نيالا تأييداً للوالي المقال عبد الحميد كاشا (يناير 2015)، مقتل طالب من كلية التربية بجامعة الخرطوم (مايو 2015)، مقتل بعض المتظاهرين المطالبين بتعويضات مقابل نزع أراضي أهل الجريف (يونيو 2015). والنتيجة أن مثل ذلك السلوك المتكرر من أجهزة الدولة يؤدي بالضرورة لضعضعة حكم القانون في البلد وإضعاف الثقة في الأجهزة العدلية،فالحمايةالتي تسبغها الحكومة لا تتوقف على الأجهزة الأمنية بل تتنزل إلى كثير من المسؤولين في الدولة بل وإلى أهلهم وأقاربهم ومنسوبيهم ومحاسيبهم،أي لكل “الأشراف” الأقوياء الذين عناهم الحديث الشريف: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. لذلك تحتاج البلاد بشدة في هذا المناخ المضطرب بالاحتراب والاحتقان السياسي إلى قرار المحكمة الدستورية الذي ألغى أحكام النيابة العامة وأمر بفتح دعوى جنائية ضد المتهمين في مجزرة بورتسودان، فمثل هذا القرار يفتح باب الأمل للناس أن القانون ما زال ساري المفعول وأن بعض القضاة قادرون على فرضه مهما كانت المخاطر التي تحيط بهم. العجيب في الأمر أن المسؤول المشتبه في أنه أصدر أمر المجزرة في بورتسودان اتضح فيما بعد أنه أكثر خطراً على النظام وقيادته من كل المظاهرات التي قامت ضد الحكومة وشارك في قمعها!

جريدة التغيير

تعليق واحد

  1. لاشك انه تقدم يحسب لصالح هولاء القضاة الاماجد وبموجب هذه السابقة والتي تعتبر القانون الان على كل المتتضررين من الاجراءات السابقة والامن عليهم رفع دعاويهم الى النيابة للقيام بالاجراءات القانونية على المتهمين وفتح بلاغات لدى النيابة المختصة قضائيا وعلى النيابة ان تتطلع بمسولياتها لتطبيق القانون على الجناة وحماية المجتمع من المجرمين .

    وعلى النائب العام او وزير العدل الاطلاع بدوره بتوجيه النيابة بفتح بلاغات حتي نكون خطونا نحو وطن لكل السودانيين .

  2. هؤلاء الكيزان منافقين ودجالين وكذابين وقتله مهما تلونوا واختلفوا واتفقوا وتفرقوا فكلهم وسخ وعلى كلمه واحدة الا وهي ..(( ان كل من لا ينتمي للشركه الاسلامويه السودانيه (الحركه) تدمير وابادة كل البشريه التي لا تنتمي لتنظيمهم المزعوم وان هذه الشعوب لا تمثل لهم جناح بعوضه بل هي احقر من الذباب في نظرهم .فكلام شيخهم علي عثمان طه الاخير ليس كما يتخيل المتلقي فهو حديث يصب في صالحهم كل حسب مهمته التي اوكلت له .(فقفة الملاح) التي تحدث عنها شيخهم المزعوم ليست من اوليات عملهم بل لا تهمهم عندما اتوا للحكم في غفله من الزمان .فقفة الملاح يجب على الحكومه ان توفرها للكيزان فقط لا غير وهذ مضمون حديثه لا غير اما اي تحليلات او التفافات لغير هذا فهي ذات جدوى .فالطيب زين العابدين والترابي سيدقطب وعلي عثمان ومرسي والافندي ونافع وعلي الحاج وحسين خوجلي والعتباني والبشير والصغير والكبير كلهم وسخ وساقطين واتجاهم واحد .

  3. وين الوزير الراجل لايقدر إنّو يهبط هذا الملف، وزير العدل الجديد غارق في استقطاب جمعي داخل الوزارة وتصفية حسابات لصالح مجموعة ضابط الأمن السابق ياسر سيد احمد

  4. نقول لمولانا الاستاذ الجامعي (الطيب زين العابدين ) : الناس تحترمك مع انك (اخو مسلم)ونذكرك ان السودانيين لديهم مقولة (الثقة زي قشة الكبريت) اذا احترقت احترقت معها . احترقت ثقة السودانين في القضاء السوداني منذ وقت طويل جدا ليس بسبب الامثلة التي زكرتها بل لعشرات الالاف من المظالم التي وقعت علي المواطنين وعليك ان تعلم ان حوالي الالف مواطن (ذكر او انثي) يجلد يوميا في كل انحاء السودان . المسالة ما مسالة قضاء المسالة مسالة عدل مفقود وتطبيق مفرط لقوانين ليست شرعية في الاصل .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..