أخبار السودان

حيدر إبراهيم : لا يخجل من نفسه!

محمد شعير

يصدر المفكر السوداني حيدر إبراهيم علي سيرته الذاتية الصادرة مؤخراً في القاهرة تحت عنوان «أزمنة الريح والقلق والحرية» بمقولة لأوسكار وايلد: «أنا من بين هؤلاء الذن خُلقوا للاستثناءات وليس للقواعد».. وبمقولة نيتشه: «علامات الحرية ألا يخجل الإنسان من نفسه».. وببيت الشعر الشهير للمتنبي «على قلق كأنّ الريح تحتي»… المقولات مدخل مهم لتأكيد أننا أمام سيرة ذاتية جريئة وهامة لمفكّر «يعشق الأسئلة».. ولا يركن للإجابات السهلة والجاهزة!

يكتب إبراهيم سيرته باعتبارها حيلة للتملّص من الموت: (حيلُ التملصِ من الموت كثيرة، وطرق إدّعاء الخلود تمتدّ من بناء الأهرامات وتاج محل وكل الفنون، وصولاً إلى كتابة السيّر الذاتية..)، ومِن هنا يستعرض حياته العريضة نوعاً وكَمّاً منذ النشأة والدراسة في السودان وألمانيا وعلاقاته بالمثقفين وبكثير من الشخصيات العامة ومواقفه السياسية، وكذلك عمله وترحاله في كثير الدول العربية. نحن أمام بانوراما شاملة وممتعة لفترة مليئة بالاضطرابات في منطقتنا والعالم، يقدمها المفكر السوداني. كما يترك نفسه عارياً أمام القارئ، لا يقدم لحناً بيوريتانياً وإنما التزم الصراحة فحكى عن الأسرة وهمومها ومشاكلها وعما يجمعها وما يفرّقها وعن بعض المواقف التي كادت أن تؤدي لانفساخ علاقاتها. وكان أيضاً شجاعاً وصريحاً على المستوى الشخصي ولم يغطِ نفسه بورقة توت زائفة، وهكذا كان على استعداد مثلاً أن يحكي عن أول تجربة له مع «بائعة هوى»، ويقول عنها: «لم تكن تجربة ممتعة أو «لذيذة» فقد كنت مفزوعاً». حيدر إبراهيم هو مجموعة أسئلة كما يقدّم نفسه يهرب من الأجوبة دائماً، وعندما يقع على إجابة ما، يتركها إلى سؤال آخر. هل أدمن التمرّد؟ يقول: «أشعر بأن عمري 27 سنة فقط». سأله ابنه يوماً عن رقصتَيْ السامبا والرومبا، فشرح له أصلهما وفصلهما، ثم وضع موسيقى مناسبة وراح يرقص. دُهش الابن وقال له: «أبي… عمرك ليس إلّا 27 سنة، وأنت لا تعرف ذلك». قد يكون هذا سرّ حيدر إبراهيم علي، صاحب المؤلفات المهمة في تفكيك الفكر الديني والسلطوي، ومؤسس «مركز الدراسات السودانية» بين القاهرة والرباط، وقد افتتح أخيراً فرعه الثالث في الخرطوم. يؤمن الرجل بالمصادفات. كان الابن الوحيد لأب عسكري. مهنة الوالد أتاحت له التنقّل بين قرى وأقاليم مختلفة في السودان. أمّا موقعه بوصفه ابناً وحيداً، فمَنحَه ميزة أن يكون الطفل المحبوب من جميع أفراد أسرته، من دون أن يكون الصبيّ المدلل. طفولة جعلته يكدّس محبةً كبيرةً للآخرين، وانفتاحاً غير محدود تجاههم. لكنّ الوحدة جعلته ينغمس في القراءة. في كلّ مدينة وطأها تبعاً لتنقّلات الوالد الكثيرة، كان يشترك في المكتبة. هكذا، راح يراكم قراءاته منذ سنّ صغيرة.
الأب الثاني
وعندما دخل المدرسة نشأت بينه وبين القراءة علاقة انجذاب وانبهار وثيق عبّر عنه بقوله: «أحسستُ مبكراً بوجود سحر في الحروف والكلمات… وكانت الحروف تبدو لي كمفاتيح تدخلك لعوالم مسحورة وبلا خوف منها لأنك تملك أعنّة المعرفة وتعرف ما هي». ولكن بعيداً عن التعليم النظامي سلك حيدر طريقاً آخر موازياً للتعليم النظامي، هو التثقيف الذاتي.

اعتبر سلامة موسى المفكر المصري الشهير أباه الثاني، أو «أباه الفكري»، كان له أثر حاسم في التشكيل المبكر لوعي حيدر وتحديداً كتابيه «تربية سلامة موسى» وكتاب «هؤلاء علّموني»، اللذين يتحدّث فيهما عمّن أثّروا على تكوينه الفكري. وعندما اكتشف سلامة موسى انفتح وعيه في الحال على قضايا مثل «الحرية، والاشتراكية، وحقوق المرأة، ونظرية التطور». تماماً مثلما صار سارتر لاحقاً «والده الفكري الثاني». «تعلّمت من أبي الوجوديّة أنّ الامتلاك ينتقص دائماً من حريتك، وأنّ هذه الأخيرة قيمة عالية جداً». رغم تولّيه مناصب عدة، ما زال لا يملك منزلاً. «هذا جانب صوفي في شخصيتي. المال، كما يقول الأديب البريطاني وليام سومرست موم، هو الحاسة السادسة التي تستطيع من خلالها الاستمتاع بحواسك الأخرى، لا العكس». مع ذلك، فقد استطاع أن يزور كل دول العالم. «إن مَن يراني يظنّني مليونيراً». في السودان، اختار دراسة التاريخ. «كنت معجباً بالزعيم الهندي نهرو وبكتابه «لمحات من تاريخ العالم»، ورسائله إلى ابنته أنديرا». إعجاب ترجمه بإطلاق اسم الأخيرة على ابنته. بفضل حكايات الجدات، عَشِق الأحاجي، وعدّ التاريخ «علماً وعبراً وحكمةً، تعطينا حصانة ضد الموت»، يقول. «حين تقرأ تاريخ الفراعنة والأشوريين، تشعر بأنّ لديك امتداداً في العمر، وأنّ عمرك لم يضع سدىً. لهذا، درست التاريخ وكتبت فيه. قررت أنه عوضاً عن أكون مومياء، يجب أن أترك كتباً تخلِّدني». لم يكتفِ بالتاريخ، بل شدّ الرحال إلى باريس لمزيد من العلم، لكنّه وجد نفسه في مدينة فرانكفورت. سافر برّاً، متنقّلاً من سيارة إلى أخرى، حتى حملته سيارة جندي أميركي إلى فرانكفورت. هناك تنقل بين مهن مختلفة. «اشتغلتُ عامل بناء في مطار فرانكفورت، وعندما انتهى البناء عملت حمالاً». وفي الوقت ذاته، كان يدرس حتى نال الدكتوراه من «جامعة غوته» في الفلسفة الاجتماعيّة، في موضوع «التغيير الاجتماعي والتنمية». من التاريخ دخل إلى السياسة. تعاطف لفترة مع الماركسية، إلّا أنّه لم ينتمِ إلى أي حزب سياسي لأنّه لا يحب «عقلية القطيع»، وهو يُعدّ نفسه ممارساً للسياسة من «الشباك». «جئت إلى الحقل السياسي من باب الأدب، وتحديداً بعد قراءتي رواية «الأم» لمكسيم غوركي. منذ تلك اللحظة وأنا أحلم بسودان ديموقراطي متقدّم». الحلم يبتعد، لكن «لا شيء مستحيل تحت الشمس»، يصرّ صاحب «أزمة الإسلام السياسي ـ الجبهة الإسلامية نموذجاً» (1991). «نحن المفكرين العرب نعيش في وضعية تشبه ما يصفه غرامشي بتشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة. لو اكتفينا بالفكر فقط، لقلنا إنّ الأمل غير موجود بتاتاً، لكننا لو فكرنا في الإرادة، لقلنا إنّ التغيير يحتاج إلى مجهود أكبر». يسكت بُرهة ثمّ يتذكّر أنّ «السودان الذي يجلد اليوم فتاةً لمجرد ارتدائها سروالاً، كان في ما مضى أول دولة عربية أدخلت المرأة إلى البرلمان بالتصويت لا بالتعيين». وحين نذكّره بأنّ الأصوات التجديدية داخل الفكر الإسلامي ضعيفة وغير مؤثرة، يوافقنا الرأي قائلاً: «الفكر السلفي لا يزال الأقوى. كل المجدّدين أو من أسمّيهم رافعي شعار لاهوت التحرير الإسلامي، فشلوا تماماً من حسن حنفي في مصر، إلى علي شريعتي في إيران». الأسباب كثيرة، لكنّ العامل الأساسي هو «الركود في المجتمع العربي والإسلامي الذي منع حدوث تغييرات حقيقية داخله. وفيما قام الغرب بالعديد من الثورات، لم تشهد المجتمعات العربية أي ثورة حقيقية. لذلك يسهل عليها استدعاء ممارسات ثقافية واجتماعية سلفية قديمة تطبقها على الحاضر من دون أن تشعر بالتناقض».

تأميم العقل
هكذا يشرح المفكر والباحث السوداني الوضع العربي الراهن، انطلاقاً من تجربته بشكل أو بآخر. بعدما أنهى دراسته في ألمانيا، لم يجد أي مؤسسة في السودان توافق على عمله معها. تنقل بين الجامعات في بلدان عربيّة عدة. معظم تلك المؤسسات التعليميّة لم تتحمّل أفكاره، وكثير منها لم يستطع إبراهيم على نفسه تحمّل مناهجها وسياقاتها. هكذا، لم يمضِ في ليبيا والسعوديّة إلا أسابيع قصيرة. في ليبيا، كانوا يوقظونه في الفجر مع أساتذة الجامعة «لأن العقيد يريد أن يناقشهم في الكتاب الأخضر». وفي السعودية، اكتشف مجتمعاً «لا يخلو من العنصرية والاستعلاء». «أتذكّر مجموعة من السود القادمين من الولايات المتحدة، الذين اعتنقوا الإسلام باعتباره دين المساواة. عندما جاؤوا للدراسة في السعوديّة، سرعان ما قرّروا المغادرة». يقول: «لا أعرف إن كانوا قد ارتدّوا أو لا». بعد ذلك، استقرّ به الأمر في الإمارات لسبع سنوات، ثم عمل في مصر والمغرب، حيث أسس «معهد الدراسات السودانية» مواصلاً بحثه في لاهوت التحرير والتنمية الاجتماعيّة والإسلام السياسي. في كتابه الأخير «سوسيولوجيا الفتوى: المرأة والفنون نموذجاً»، يرصد الفتاوى الخاصة بالمرأة والفن، منطلقاً من نظرة بعض مطلقي الفتاوى للمرأة باعتبارها «مدخلاً للمؤامرة الغربية لإكمال عملية انحلال المجتمعات الإسلامية». أمّا مقاربته للفنّ فتنطلق من كون «العقل السلفي يركّز على تأميم عقل الإنسان المسلم، لذلك فإنّ الروايات والكتب والإبداع الذي يرتبط بتقديم رؤية جديدة للعالم تصبح مخيفة بالنسبة إليه». حياة ثرية.. عاشها صاحبها سعيداً: «لأن مطالبي في الحياة قليلة، فالزهد فيها أكثر ما يفسد أسلحتها في أن تملكك، وكانت التعويذة القاهرة في دنياي هي الأمل، وعند كل منعرج هابط أردّد: «ما ضيق الحياة لولا فسحة» ظللت محباً للحياة دوماً، وعملت في ظروف صعبة: المنفى، والغربة، والهجرة، وعدم الضمانات. ولم أنتظر حتى تجيء الظروف الملائمة، لم أذهب لوادي عبقر، مثلاً لأكتب، وأقول إن الإلهام هو القدرة على أن يصنه الإنسان لنفسه أنسب حالات العمل»..

أحلام المفكر السوداني ومشاريعه عديدة، أهمها كتاب بعنوان «أنثروبولوجيا الشَّعْر». يحلل فيه أسباب هوس العقل العربي والإسلامي بشعر المرأة والحجاب. فقد اكتشف أن «المسألة ليست دينية، بل ترتبط بالسِّحر، من قصّة شمشون الجبار وقوته النابعة من شعره. عندما تفرد المرأة شعرها، تخترق بذلك قلب الرجل العربي. سيدرس الكتاب شَعْر المرأة في الفقه والأدب والأساطير والأحلام…». يختم ضاحكاً: «الرجل العربي يقبل أن تتعرّى المرأة شرط أن تغطي شعرَها!». ..
(كاتب مصري)

السفير

تعليق واحد

  1. هذا الرجل العظيم ينتظر الكتاب السودانيون موته ثم يكتبو المناحات في نعييه في حين يبادر كتاب من خارج الوطن الكتابه عنه وهو حي يرزق مع تمنياتي له بعمر طويل في صحه ممتازه.

  2. د. حيدر علي أبراهيم ، رجل ملئ بالأدهاش و الأقانيم التي تحتاج وقتا كبيرا للأكتشاف ، قدره أن يحارب الظلام و يدفع ضريبة المصداقية في مواقفه ، لله درك

  3. مفكر من الطراز الأول .. ثقافة رفيعة جداً ..تواضع العلماء الحقيقيين.

    زرته و أحد أقربائي في مسكنه في جامعة بنغازي في أواخر السبيعينيات..

    كان بصدد تأليف كتاب عن قبيلة الشايقية و في ذات الوقت ترجمة كتاب بعنوان
    ” أساطير من بلاد النوبة” من الألمانية إلى العربية.

    ماذا حدث لتينك المشروعين يا دكتور حيدر؟؟؟؟

  4. د, حيدر ليس الابن الوحيد في اسرته.فهو شقيق الكاتب المميز ناظم ابراهيم علي.وياسر الذى درس الزراعة فى فرنسا منذ زمن طويل.
    رجاء التصحيح لمن هو اقرب مسافة وزمنا.

  5. حيدر يا حيدر ايها المتمرد الاخرق ما الذى اتى بك الان هذا ليس اوانك .. شليق حتى وانت فى رحم الغيب استعجلت القدوم

  6. و الله لو عندنا عشرة كتاب بيكتبوا بصدقه وفكره و امانته العلمية،، لكان السودان اليوم دولة من الطراز الاول، لكن يا خسارة شوفوا الناس البطبل وتقول نحن أحسن ناس.طيب إذا أنحنا أحسن ناس بلدنا من أسواء بلاد الدنيا ليه؟ .

  7. أسع يجي الحاقد “القنوط” بتاع ميسوري و يحاول أن ينتقص من قدر الرجل بخبثه المعروف. إنتظروا و لسوف تروْن

  8. ( إلّا أنّه لم ينتمِ إلى أي حزب سياسي لأنّه لا يحب «عقلية القطيع»، وهو يُعدّ نفسه ممارساً للسياسة من «الشباك». «جئت إلى الحقل السياسي من باب الأدب )

    حقا و صدقا انكم تصـنعون فراعنتكم بانفســكم ,, كان عليه ان يكون اكثر تهذيبا في وصف الأخرين ,,,له ان لا ينتمي لآي حزب لأنه دون الانتماء و تبعاته الفكرية و الاجتماعية
    مفكر مفكر اين فكـره في تناول قضايا بلده و ماذا قدم
    نعـم إنه كاتب و لكنه ليس بمفكـر

    «نحن المفكرين العرب نعيش في وضعية تشبه )
    نحن ,,, نحن أي ذاتيه هذه

    «المسألة ليست دينية، بل ترتبط بالسِّحر، من قصّة شمشون الجبار وقوته النابعة من شعره. عندما تفرد المرأة شعرها، تخترق بذلك قلب الرجل العربي.)

    دا كلام مفكــر

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..