قصة قصيرة بعنوان (عودة أحلام الرعب)

قصة قصيرة بعنوان (عودة أحلام الرعب)

أمير صالح جبريل
[email][email protected][/email]

( 1 )
أنا من خلية فقر صغيرة تسكن شقوق الجدران الطينية .. سواء بسواء مع الصراصير والجرذان .. كنت الأصغر مع ثلاث أخوات وأخ .. نأوي جميعنا إلى غرفة في أقصى الحوش الكبير بها كل متاعنا ومنامنا .. بينما إتخذ أبي وأمي غرفة صغيرة كانت فيما مضى مخزناً .. هذا هو منزلنا الذي كان ركناً في مربع مهدوم لحوش قديم تتوارثه أسرة غنية لا يمثل لها ثقيل عبء فلا تهتم بمن يأوي إليه من جرذان وصراصير وفقراء ..

( 2 )
في صباح ذلك اليوم ونحن نلهو في الشارع لا هم لنا كأطفال ولا عبء علينا .. أخذنا نطارد كلباً غريباً عن حينا .. كنا إثنين من أطفال شارع الحي .. كنا نرميه بالحجارة ولهذا متعة خاصة عندنا .. لاحقناه وطاردناه .. ولكن عندما حبسنا ذلك الكلب في زقاق ضيق مقفول في نهايته تحول إلى حيوان مفترس .. فارتد إلينا وهجم علينا .. وقبل أن نولي الأدبار كان قد عض رفيقي وغرس أنيابه في مؤخرته .. وبين صراخ وبكاء حمله أهله إلى المستشفى .. وفي عصر ذات اليوم رأيت إنتفاخاً في بطنه جوار سرته .. أخبرني أنها حقنة السعر .. دخلت المنزل في وقت المغيب .. ولم أخبر أحداً في منزلنا بتلك الحادثة .

( 3 )
ضمانا ذلك الليل في زحام تلك الغرفة الدافئة .. تعشينا جميعاً برغيفين وأوينا كل إلى سريره .. ولأنني كنت الأصغر فقد كنت مدللاً جداً .. إطمأنت أمي إلى رقادي وغطتني بملاءة جيداً قبل أن تذهب إلى أبي في غرفتهما الصغيرة .. كانت أختي تقرأ كتاباً .. بينما غرق الباقون في نوم عميق .. أما أنا فقد كنت أحاول النوم .. وبعد فترة ليست قصيرة فرغت أختي من قراءتها ونهضت و أطفأت النور فغرقت الغرفة في الظلام .. تقلبت على فراشي أستدعي النوم وليس في رأسي أي تفكير .. إرتفعت أنفاس نومهم .. وجاءني شخير أختي آخر النائمين من أبعاد سحيقة .. تقلبت .. وغبت .. وسمعت الأنفاس تعلو والشخير يقترب .. وأحسست بوحش ضخم يتمطى تحت سريري .. أحياناً يبدو كذئب ضخم وأخرى يبدو كنمر ضخم وتارة أسد وأخرى كوحش هلامي تجمعت كل رؤوس الحيوانات المفترسة فيه .. إنه وحش ضخم .. قوس ظهره وزأر .. فاهتز السرير .. شعرت به يخرج ليأكلني .. فتملكني الرعب والخوف .. جحظت عيناي .. وتبولت على السرير .. فانتفض الوحش تحت السرير وأخرج رأسه ليلتهمني .. صرخت بأعلى صوتي .. فنهضوا جميعاً منزعجين .. وأضاءوا الغرفة والتفوا حولي .. أخواتي الثلاث وأخي .. وأشرت لهم برعب إلى مكان الوحش وانا أبكي .. ومسحت أختي على رأسي
ــ تعال ونظر بنفسك .. لا يوجد وحش ..
ثم وبختني
ــ لقد تبولت على السرير ..
وغيرت أختي وضع اللحاف ثم غيرت ملابسي .. رقدت بجوارها .. طبطبت على صدري ونمت .. ولكن على يقين بأن الوحش ما زال رابض تحت السرير ..
كان عمري آنذاك سبعة أعوام .

( 4 )
منحت الخطة الإسكانية أبي قطعة سكنية في الأطراف البعيدة لمدينتنا .. بنى أبي المنزل بنفسه يساعده أخي الكبير .. كان يوم حدث كبير حين إنتقلنا إلى منزلنا الجديد .. به حوشان وثلاث غرف وراكوبة كبيرة .. تزوجت أختي الكبرى وغادرتنا مع زوجها .. أصبح أخي ينام في الديوان لوحده كرجل كبير .. أما أنا فما زلت أنام في غرفة واحدة مع أختي الإثنتين .

( 5 )
إنتهت الجمعية الأدبية التي نقيمها مساءاً نهاية كل إسبوع في مدرستنا .. المدرسة المتوسطة القديمة .. وقف المعلم وفاجأ صديقي وطلب منه أن يقرأ آيات قرآنية نختم بها جمعيتنا الأدبية .. فتصرف صديقي ـ بعد تلعثم ـ وقرأ سورة الإخلاص .. وضحكت لذلك بصوت عالي .. فناداني المعلم وجلدني أمام الجميع بالسوط على ظهري جلداً شديداً ترك أثره على ظهري .. وألقى محاضرة طويلة عن عظمة تلك السورة حتى أنها عرفت بثلث القرآن .. وحدثنا عن عقاب الله للمستهزئين بها

( 6 )
تعشينا في الحوش .. ثم جلس الجميع ينظرون إلى السهرة في التلفزيون .. كانت السهرة (هذا المساء) يقدمها المذيع (فريد عبدالوهاب) .. كانت الصورة في التلفزيون بالأبيض والأسود .. كنت ألمحها بين الفينة والأخرى وأنا مستلقي على مصلاة من فروة خروف في ركن بعيد من الحوش .. كنت أنظر للسماء .. أرقب النجوم .. وأفكر كيف خلق الله هذا الكون .. وبين لحظة وأخرى أتحسس بيدي مكان جلد السياط على ظهري وهي تؤلمني .. لم أفق لنفسي إلا عندما أطفأوا التلفاز .. فذهب أبي وأمي إلى غرفتهما بينما دخلت انا مع اختي إلى غرفتنا .. سرعان ما أنطفأ نور الغرفة وسبحنا في الظلام .. وبعد لحظات من ذلك إرتفعت أنفاس نومهما .. ووجدتني أبحث عن النوم وفي رأسي ثمة تفكير عالق .. كيف خلق الله هذا الكون .. تقلبت في الفراش .. ونمت .. وحلمت .. ورأيت في بداية الحلم السماء سوداء والنجوم مضيئة معلقة عليها .. ثم تلمست بيدي ضباب كثيف أبيض .. رأيت خلفه وجهاً منيراً على شفتيه باقي ضحكة كبيرة .. ثم رأيتني مع أفراد أسرتي في غرفة هائلة البنيان .. نجلس ككتلة مرعوبة تتوقع حدث مخيف .. وفجأة إرتجت بنا تلك الغرفة واشتعلت فيها النار .. إهتزت ثم انهار البناء .. وأخذت أعمدة خشبية ضخمة تتساقط علينا .. ورأيت أبي في قلب النار يصيح يطالبنا بالخروج .. ثم رأيته يرفع يديه فوق رأسه يتقي بها سقوط الأعمدة الضخمة .. أحسست بها وبضخامتها تدخل في فمي .. وتزداد النار إضطراماً فتأكل الأعمدة الخشبية وأبي في قلبها يصيح .. ثم رأيت ذلك الوجه يضحك خلف الضباب .. يقهقه وهو يرقب إحتراق أبي .. والأعمدة الخشبية داخل فمي تخنقني .. تكتم أنفاسي .. وأحسست بضيق وخوف شديد .. تقلبت في فراشي .. إرتفعت أنفاسي .. وبكيت .. وجاءني صوت أختي من قلب الظلام
ــ هل أنت تبكي .. ؟
وارتفع عويلي .. فأضاءت الغرفة وجلست جواري .. وجاء أبي وأمي على صوتنا مسرعين .. أخذاني إلى أحضانهما .. وحضر أخي مندفعاً مضطرباً .. وعندما سألوني لم أحكي الحلم .. ولكنني ظللت أبكي .. قالت أختي
ــ لقد تبول على السرير ..
فأخذني أمي وأبي إلى غرفتهما .. أرقدني أبى في حضنه .. وراح يهدهدني .. يمسح بكفه على شعر رأسي .. وبين الفينة والفينة يرتفع نشيجي .. فأدار أبي مفتاح المذياع جواره .. وسمعت المذيع يعلن ختام البرامج بآيات قرآنية .. فاطمأننت لصوت التلاوة .. وعندما إرتفع صوت أذان الفجر يملأ السماء كنت قد إرتحت تماماً ونمت ..
كان عمري آنذاك أربعة عشر عاماً ..

( 7 )
تخرجت من الجامعة قبل ثلاثة أعوام .. ظللت خلالها أدور وأبحث عن وظيفة .. وقد ضاقت البلاد بالخريجين .. سافرت ونزلت مع صديقي وزميلي الجامعي في منزلهم بالخرطوم .. وهو خريج زراعي مثلي .. نخرج كل يوم في رحلة بحث مؤلمة ويائسة عن (واسطة) لوظيفة .. وقد دخلنا عدة معاينات لعدة وظائف نفشل في إجتيازها في المراحل الأخيرة لعدم وجود (الواسطة) .. ثم لا نفاجأ حين نعلم أنها معاينات شكلية وأننا لسنا سوي ممثلي كومبارس لأن الوظائف محجوزة لأقرباء الوزير (الفلاني) والمدير (العلاني) والضابط (الفرتكاني) .. وفي كثير من الأحايين نضحك في خيبة عندما نعلم أن هؤلاء المختارين للوظيفة لم يدخلوا معنا المعاينة .. كنا ننام معاً في غرفة واحدة .. وقبل النوم دائماً نحدث بعضنا عن أحداث النهار المملة .. وجدت صديقي قد تعلم شرب العرقي .. فتعلمت معه .. وحتى ننام كنا نجرع جرعات من جركانة صغيرة يحفظها صديقي في دولابه مع الأحذية ..

( 8 )
جئنا في نهار هذا اليوم متعبين .. بعد جولة غير مجدية نطارد إعلانات الوظائف .. وفي المساء سمعت في التلفاز ضجيج هتافات بعد حديث طويل للمشير .. ثم إرتفاع أصوات تكبير وتهليل لأنه تحدث بشئ عن شرع الله .. وبعد أن إنتهت السهرة ختم البرامج بتلاوة قرآنية .. لم نكمل سماعها وأوينا إلى غرفة صديقي .. جرعنا كأسين من العرقي .. قال صديقي وهو يضحك
ــ كلما يتحدث المشير عن الشريعة يزداد سعر العرقي ..
وقبل أن إنحشر في الفراش أخبرني صديقي أنه سينام مع إمراة الجيران .. ورأيته من النافذة وهو يقفز من فوق الحائط الفاصل بين المنزلين .. وإستلقيت في ظلام الغرفة وحدي .. أستجدى النوم وانا أحس بخدر السكر على وجهي .. وتخيلت صديقي في أوضاع جنسية مع زوجة جاره .. تقلبت ثم نمت .. وفي أذني صدى تكبير وتهليل وآيات قرانية تختم البرامج .. وإجابات من أشخاص لا أعرفهم بأنه لا توجد وظائف شاغرة .. ورأيت ذلك الوجه القديم يضحك خلف الضباب .. ثم رأيت أبي في قلب النار يصيح ويتقي بيديه أعمدة خشبية ضخمة تتساقط علينا .. وأحسها بضخامتها تدخل في فمي .. حين أختنقت أصدرت فحيحاً وأزيزاً وحشرجة عالية .. ثم إهتز سريري لإنتفاض وحش ضخم كان يرقد تحته .. وانحبست صرخة رعب داخلي فارتجفت .. وبكيت ثم تبولت .. وخرج الوحش ينفض رأسه من تحت السرير .. فقفزت وجريت إلى باب الغرفة .. وقفت للحظة أستوعب ما حدث .. أضأت النور .. وانحنيت أنظر تحت السرير .. لم أرى ذلك الوحش .. وشممت رائحة البول .. تحسست ملابسي فوجدتها مبتلة .. وفرحت لأن صديقي غير موجود .. وقلبت اللحاف وعلقت ملاءة السرير على حبل الغسيل .. وأبدلت ملابسي .. وعندما عاد صديقي وجدنى مستيقظاً .. أخبرته اني لم أنم منذ أن قفز .. وأن كوب ماء إندلق على السرير .. وأخبرني بأنه قضى لحظات ممتعة .. وأطفأ النور قرب طلوع الفجر وهو يذكرني
ــ غداً سنذهب إلى قريبنا إمام الجامع ليتوسط لنا عند أي واسطة ..
وضحكت قبل أن أحشر رأسي تحت الغطاء عندما أضاف
ــ علماً بأن لإمام الجامع هذا إبن خريج مثلنا ما زال يبحث عن واسطة لوظيفة ..
ولا أدري كيف ولكني نمت بعد ذلك مباشرة ..
عمري الآن ثمانية وعشرون عاماً ..

تعليق واحد

  1. ما احلاك حين تكتب وما احلانا حين نقرا استمتعت بالقصة حتى الثمالة مع اننى لم ارتشف اى نقطة من عرقيكم واصل لا فض يراعك ففى الكتابة فوائد جمه نسيناها منذ امد بعيد رجعتنا للصالون والحلاج وبن بطوطة وذكريات الزمن الجميل التى علمتنا فيها اولى خطوات الفطام نحو الرصاص

  2. تعاهدت مع نفسي ان اقتحم تعليقي بقصة قصيرة حينما لا تروق لي قصص هؤلاء وهذه هي قصتي الفصيرة التي تحكي غفوتنا عن سودان يكاد كالطيف ينزوي

    الشك القاتل
    عاد الحبيب المنتظر بعد طول غياب كان مساءً مفعما بالقبلات والتحايا من الأحباب وكانت رائحة البخور التقليدي تطفي في الجو نوعا من الراحة و كانت هي تتحرك فرحة تقسم البسمات للجميع لم تدر بأن ذلك العائد يحمل في جنباته سكينا مسمومة لتطعنها في مقتل وحينما تفرق الجميع وصارا معا في غرفة واحدة وبدون مقدمات الق عليها سؤالا لم تدرك هي فحواها من أول !!!وهلة اصد قيني القول حتى لا اضطر لدفعك لذلك ! ثم هز رأسه وصمت ثم أعاد نفس سؤاله المبهم من يكون ذلك الذي ماذا ؟ ولم يكمل ما أراده هذه المرة بل راح يتأمل في وجهها كأنه يراه لأول مرة ثم همهم قائلا لا اصدق نفسي أنت أنت !! وخرج من الغرفة تاركا تلك المسكينة معقودة اللسان تتلفت حول نفسها دون ان تعي شيئا وغادر حيث لا يدري إلي أين ولما جن الليل عاد مهموما مثقلا يجرجر قدميه وما ان دلف إلي صحن الدار حتى وقع مغشيا حمل على إثره حيث مشفى صغير لا يبعد كثيرا تم إسعافه هنالك قال الحكيم بأنه أصيب بنوبة قلبية بسيطة نتيجة إجهاد وضغوط نفسية لم يكن احد يدر ما جري بالأمس كان يظن انه خدع طوال عمره مع تلك التي رعاها والبسها ثوب العفاف بعد يومين من بقائه تحت رعاية الطبيب عاد ليسال عنها قالوا انها رحلت رحمها الله لم تعد للدنيا مكان لها بعد ان ظنت انك لا محال مفارقها فسبقتك حيث تجدك في انتظارها عند رب كريم لم يصدق فقام من غفوته مذعورا مستعيذا من وساوس الشيطان
    ابو كوج

    حينما رايتها كانت صغيرة ولما كبرت واشتد عودها وتفتحت كزهرة يانعة بديعة لم اعرفها ولم اصدق أنها ذاتها التي التقيت بها ذات يوم دون وعد مسبق في سوق الشماغ علمتني الحياة ألا أبادر بذكر الأسماء لمن اشك بأنني قد أقع في حرج النسيان لو أخطأت في مسمى من الق علية التحية لذا بادرتها بتحية المعرفة المعتادة (كيف حالك بنيتي لقد كبرت ما شاء الله واذدنت وقلتها بحسن نية ولكن ما كان في القلب عكس ما نطق به اللسان

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..