طقس الأصدقاء

طقس الأصدقاء

لمياء شمت
[email][email protected][/email]

رغم المساغب والمعوقات المزمنة التي ظلت تتجاذب المسرح،بضعف بنيته المؤسسية،وأزماته المحتدمة بوجوهها المتعددة،وما تفرضه من تعامل شاق مع ظروف المهنة واقتصادياتها،وضغوطها المُجهدة،ومتطلباتها اللحوحة،فقد ظل (الأصدقاء) فريقاً مسرحياً متماسكاً ومتجدداً ،لا يركن للإحباط ،ولا يغزو صبره اليأس وهواجس الإستحالة.وهو بشهادة المتابعين لم يتعجل يوماً لتعليق نشاطاته لتتدلى مشنوقة على مشجب الامكانات الصدىء.لتظل الفرقة كما عرفتها الأجيال المتعاقبة،كياناً حياً فاعلاً ،ومتصلاً بأوردة المجتمع،لا يزيغ عن التزاماته ورسالته الجليلة الجميلة.مراكماً في ذلك من الخبرات ما جعله قادراً على القفز الرشيق فوق حواجز العراقيل،والمعوقات و”المطبات الصناعية”.وبما مكنه على الدوام من تحريك الساكن،والظفر بعروض جماهيرية،ظلت تحرز فوزها المستحق،رغم جسامة احتمالات الخسارة.
وهكذا فقد ظلت الفرقة تحظى بالتجاوب والتقدير الجماهيري الكبير،كجماعة مثابرة بسطت لنفسها حيزاً ومتسعاً،حبب إلى النفوس وأغرى العقول بالإصغاء اليقظ لصوتها المشرب بحس الناس،والمهجوس بهمهم اليومي،والمنسجم كعهده مع الواقع الاجتماعي،ومع الراهن السياسي والاقتصادي.وفوق ذلك حرص الفرقة على حفظ استقلالها الفني،ونضارتها الإبداعية،في مقابل التنازلات الجسيمة من حولها والتحولات الجارفة،والعاصفة بالأوتاد.لتعمل تلك الجماعة المبدعة بكدح مقدر لمقاومة ضراوة عوامل التعرية،ومحاولات التغييب،فتستقر بذلك عميقاً في وعي الناس ككيان فني ملتزم ،لا يغيب للحظة يقينه بالحقيقة والحرية والكرامة.
وكما هي دلالة مسمى الفرقة بطبيعتها التكاملية المتسقة،القائمة على العمل الجماعي المنسجم تأليفاً وإخراجاً وإعداداً وتمثيلاً ،وعلى التفكير والجهد الإبداعي المشترك،يبرز الأستاذ مصطفى أحمد الخليفة كفرد فاعل في تلك المجموعة،وقد أخذ على عاتقه،بصفته ككاتب مسرحي،ترسيخ أسلوب الفرقة الإبداعي،وتوثيق بصمتها الفنية الخاصة،عبر سلسلة مؤلفات درامية،استطاع أن يسترد بها للعرض المسرحي أرضه،التي تغول عليها المد التلفزيوني والهيمنة الرقمية،والوسائط الألكترونية المتعددة،بما ظل الخليفة يكرسه في ذاكرة المسرح من نصوص تتغذي بطاقات الوعي الشعبي لتناوش المضمر والأسئلة المؤجلة،بتحديق اضافي في مشهدنا الماثل،وفي تضاريس واقعنا الخاص.ليدأب على التقاط مجموعة من القضايا،ليجعل منها بؤراً درامية متصلة بحراك المجتمع ونبضه اليومي.بأسلوب يقوم على التدبر والكشف والتحليل،دون التضحية بجرعات الإمتاع الصافي فاخر العيار والنكهة.ومع الإبقاء على حس الدهشة والترقب حاضراً طوال العرض،بمعادلة (الأصدقاء) المتوازنة،التي تستشف واقع الناس بحدس بصير،لتستوعب الهم الداخلي،وتواكب الحدث الخارجي،لتقدم بذلك إبداعاً محلي الخامة،عالمي النكهة،تُتوج به كأيقونة فنية جماهيرية،وليس (صنماً ثقافياً مكرساً) لا يعرف كيف يتصل بواقع الناس ليتفقد أحوالهم،ويتحدث بصوتهم .
وكان المسرحي يحي فضل الله قد أطلق على أستاذ مصطفى أحمد الخليفة لقب “حكيم الكوميديا”،في إشارة لتلك العروض بمساحاتها الواسعة المتنوعة،وتعدد مباهجها وومضاتها،فحتى القفشات و العبارات الهازلة تأتي كضربات متتالية واخزة، مفتوحة على التأويل،حرصاً على سخرية موزونة،بريئة من الفجاجة والسذاجة والابتذال،وعلى جرعات إضحاك هادفة،تعرف كيف تطرق حس وخيال المتلقي لتودع رسائلها في وعيه.ولعل ذلك من بين أهم العوامل التي جعلت من عروض الأصدقاء مختزنات أثيرة تحفظها ذاكرة الأجيال،وليس سلعاً قصيرة الأجل،ولا عروضاً نفعية تبسيطية،متواطئة ،لا يسهو عنها ،ولا يغتفرها جمهور واع ،طويل الأناة ،حاضر الذاكرة..
ونعود كرة أخرى لمدارات الأستاذ مصطفى أحمد الخليفة ،الذي تميز على المستوى الشخصي،بنهمه القرائي،وبانفتاحه المعرفي،وسعته الإنسانية،وحفاوته البارة التي تتغذي من إحتياطي ضخم من المحبة والإيثار.وهو ينسجم في ذلك مع أعضاء الفرقة بنضجهم الفكري،وبتجويدهم الفني،ومهنيتهم العالية،وتوقيرهم للفن.فلا غرابة أن يكون الخليفة وسط كل ذلك الحضور المنضبط أحد أهم مولدات الأفكار المتوهجة المنتجة لفرقة الأصدقاء،الرصادة للواقع والتباساته العسيرة،بغوص متأمل،يعول على مراقي الإمتاع والتنوير .لتترى تلك المؤلفات الدرامية المشحونة بالحياتي المعاش ،وبغبار الحياة اليومية ومعمعاتها.فالكاتب هنا ليس متغرباً يلقم جمهوره جرعات وعي مكبسلة،أو يلقي عليهم العظات ،ويحاصرهم بدروس في المطلقات،انما هو شاهداً على الحال،يدرك باتجاهاته الإنسانية وبملكاته الإبداعية،كيف يسخر العرض المسرحي بجاذبيته الفنية والمشهدية،وبقوته الرمزية،لينساب بيسر إلى حس الناس،وليعبر بسهولة إلى وعيهم وضمائرهم.
وبذلك مجتمعاً ، وبكثير غيره ، استطاع الأصدقاء أن يمحوا المسافة بين الصالة والخشبة،ليصبح المتلقي جزءاً فاعلاً وأساسياً من العرض المسرحي،الموسوم بالانفتاح المتبادل والتفاعل الحي،الذي يجعل من الذهاب إلى مسرح الأصدقاء ،بطقسه الحميم ،تجربة إنفعالية مؤنسة وملهمة،تنجح كل مرة في رهان أن تجعل الجمهور يحتشد هناك عند الموعد، ليرى وجهه،وليتأمل واقعه على مرآة المسرح،ثم يقف ممتلئاً معتداً في نهاية كل عرض ليصفق لذاك النضال الجمالي واثق الخطوة،بعيد النظر.

تعليق واحد

  1. تحياتي يا دكتورة لمياء
    نميل محل ما قلمك يميل.هذه المساحة لا تكفي نظراتك الناقدة للحديث عن الأصدقاء لم تكفك للحديث عن مصطفى وحده اين محمد نعيم سعد اين كل الاصدقاء وغرثهم وتاريخهم؟لابد من حلقات.لابد منها.
    دمت.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..