مواصلات الخرطوم وتنظيم حركتها باعتقال وسائلها

في الشأن العام

مواصلات الخرطوم وتنظيم حركتها باعتقال وسائلها

د.سعاد ابراهيم عيسي

من أكثر الموضوعات التي تم تناولها وتداولها بين المواطنين مشكلة المواصلات بشقيها، مدى توفر وسائلها بالقدر المطلوب لخدمة المواطنين، بجانب مدى انسياب حركتها بالمستوى المطلوب دون إهدار لوقت المواطنين. ففي شقها الأول لابد من طرح سؤال آخر عن مدى استخدام ما تيسر من وسائلها بالصورة المثلى التي تقلل من حدة قصورها، وفى شقها الثاني مدى الوقوف على كل الأسباب التي تقود إلى عرقلة حركتها، وضعف انسيابها قبل القفز فوقها والبحث عن معالجات منها ما يزيد طينها بلة؟ فقد تلاحظ أن كل من السلطات المعنية بأمر المواصلات قد اعتمدت على وصفة واحدة للمعالجة تعيد إنتاجها كلما اشتدت حدة مشاكلها، ودون ان تقودها إلى العلاج الناجع بل ولا إلى تخفيف حدة أوجاعها.
ولاية الخرطوم ترى أن المخرج الوحيد من أزمة وتأزم المواصلات بها، هو عن طريق تحريك مواقفها من مكان إلى آخر، ومن ثم تعيد وتكرر ذات المشكلة في كل انتقال جديد. أظن أن الجميع يذكر مدى الرفض الذى قوبلت به فكرة انتقال المواصلات من موقعها بأبي جنزير، وهو موقع استراتيجي يتوسط مواقع العمل والأسواق، إلى الموقف الجديد الذى تم تشييده خصيصا لها والمسمى بموقف كركر، ويبدو انه بقدر ما تنهال الاحتجاجات على السلطات رفضا لأمر ما، بقدرما تجتهد تلك السلطات في تنفيذ ما رأت دون اعتبار لرأى المواطنين. فالموقف الجديد الذى قام رغم انف الاعتراضات، بجانب عدم تحقيقه لأي هدف في اتجاه معالجة ما تم خلقه من مشاكل للمواطنين، كان ذلك بالنسبة لسهولة الحركة بين مواقع عملهم والعودة لأماكن سكنهم، أو كان ذلك بالنسبة لقضاء بعض حوائجهم التي كانت ميسرة بالأسواق بالقرب من الموقف القديم، وحتى بعد ان تمت أقامة أسواق جديدة بالموقف الجديد، فان الشكوى لا زالت مستمرة من مشقة قطع المسافات الطويلة لأجل الوصول إلى وسيلة المواصلات. هذا وبصرف النظر عن كل المشاكل الأخرى بيئية كانت أو أمنية أو غيرها، التي أنتجها الموقف الجديد، إضافة لجعله الحركة للمشاة كانت أو للمركبات في محيطه من رابع المستحيلات.
سلطات ولاية الخرطوم تجتهد الآن في معالجة هذه المشكلة التي أنتجها موقف كركر، ولكن بخلق مشكل جديد في موقع آخر، أو قل نقل جزء من مشاكل الموقف القديم لتجعلها من نصيب موقع آخر. فالموقع المختار لتحمل هذه المعالجة هو ما أطلق عليه موقف شرونى. ولقد كتبنا عن هذا الموضوع منذ ان برز إلى حيز الوجود كفكرة، واشرنا إلى الكثير من المشاكل التي سيفرزها هذا الموقف متى تم تنفيذه، بل وتقدم البعض من سكان المنطقة المبشرة بهذا البلاء القادم باعتراضاتهم على الفكرة، ولكن وكالعادة، مهما اعترض المواطن أو رفض فلا طريق ولا طريقة إلى استجابة لطلبه متى قررت السلطات فعل ما تريد، والما عاجبه يشرب من البحر.
الآن وبعد أن شرعت سلطة الولاية في اعداد الموقع حسبما رأت، أعلنت بأنه سيتم نقل بعض من وسائل المواصلات من موقف كركر إلى موقف شرونى، وقد بشرت المواطنين بان حركة المرور ستنتظم بمجرد إكمال الموقف وتشغيله، وبالطبع فان اقتسام مشكلة المواصلات بين موقف كركر وشرونى لن تقود لانتظام حركتها، ان لم تضاعف مساحتها. وقد قلنا من قبل بان سلطة الولاية وبإصرارها على تنفيذ هذا الموقف، كأنها تسعى لتوزيع مشاكل المواصلات على أكبر قدر من أحياء الولاية، من حيث تعرضها لكل الأوحال الاجتماعية والبيئية ثم الأمنية التي ينتجها الزحام بمثل تلك المواقف، وفى ذات الوقت الذى تستمر فيه مشاكل المواصلات وقصورها عن تلبية حاجة المواطن في حالها. فموقف شرونى والذي سيتم تنفيذه رغم انف سكان المنطقة، التي كانت آمنة وهادئة ومستقرة، قطعا سيجلب إلى سكان هذه المنطقة كل ما ينغص حياتهم وبكدر صفوها. وقد يصبر المواطنون على كل ذلك ان كان في محصلته النهائية سيعالج مشكلة المواصلات حقا، لكن للأسف فان المواقف التي تجتهد الولاية في خلقها واعتقال وسائل المواصلات بداخلها، والتي أصبحت من بين معالم هذه الولاية، أصبحت إضافة لمشكلة المواطن الذى يطلب خدمتها بدلا من علاجها.
لقد قلنا أكثر من مرة ان المواصلات عليها أن تذهب للمواطن حيث يقيم أو إلى اقرب نقطة تمكنه من الوصول إليها، لا أن يتكبد هو مشاق الوصول إلي مواقفها التي تحددها الولاية. فالموقف الجديد الذى سيخصص لمواصلات بحري وشرق النيل وشرق الخرطوم وجنوبها. يفرض على المواطنين الراغبين في الوصول إلى أي من هذه الجهات أن يحزموا أمتعتهم ويتجهوا إلى موقف شرونى ليجدوا ما ينقلهم إلى مقصدهم، وعند العودة إلى ذات الموقف عليهم ان يتدبروا أمرهم ليصلوا إلى ديارهم. ومن ثم ستتكرر ذات الصورة القبيحة التي رسمتها المواصلات بموقف جاكسون أو كركر أو كليهما، حيث تكتظ الطرقات المؤدية إليهما بالكتل البشرية ذهابا و إيابا كيوم الحشر. إذ قطعا ستنتقل ذات الصورة من شارع الحرية إلى شارع القصر ، وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.
وقد اقترحنا من قبل بأن تتم الاستفادة من المساحة المحددة للموقف الجديد لتصبح منتزها للجمهور يتم تشجيره وتزهيره وإعداده بكل ما يحتاجه المواطن في محيطه، وليمثل (هايد بارك) الخرطوم. لكن سلطات الولاية متى عزمت فانه لن يثنيها عن عزمها شيئا. وأود ان أراهن منذ الآن على ما سيؤول إليه حال هذا الموقع بعد حشوه بالحافلات أو غيرها، ومن بعد اجتهاد المحلية في استثمار الموقف باستئجار بعض الأكشاك لتحيط به، أو ربما يصاب بما أصاب سابقه من تشييد أسواق جديدة حوله، إضافة إلى حركة الأسواق الجوالة، وتلك الملقاة على جنبات الطريق، كانت بضائعها من المأكولات أو المشروبات أو غيرها، ومن بعد تتراكم النفايات الناتجة عن مخلفات كل تلك الأسواق، قبل ان يضاف إليها مخلفات قضاء حاجة رواد الموقف فتصاب البيئة في مقتل. وبعد كل هذا ستظل المواصلات في ذات نقطتها الأولى من حيث تكدسها بالمواقف في انتظار ان يصلها المواطن، وتكدس المواطنين بالطرقات في انتظار ان تصلهم المواصلات. فالي أين سيتم نقل المواصلات للمرة الثالثة.
أما وسائل المواصلات المستخدمة حاليا، فان حركتها تتم بلا ضابط أو رابط. فلو صرفنا النظر عن الحافلات وغيرها من وسائل النقل الخاصة، التي ترى أن لها الأولوية والأفضلية في كل طريق، فقط يكفيها إنها أخطرت كل من يسير خلفها بأنها في حالة توقف مستمر، ليعمل حسابه، فان ما أسموها بصات الوالي أصبحت من أكبر معرقلات الحركة بالولاية ومعوقاتها. هذه البصات رغم كبر حجمها وما تحتله من مساحة من الطريق، فإنها هي الأخرى مثلها مثل غيرها لها الحق أن تتوقف بالطريق حيث تشاء ومتى تشاء وكيفما تشاء، ومن ثم على كل من يسير خلفها أن يتوقف حتى تقضى مهمتها وتستأنف السير،على مهلها. فقد كنا نعتقد بان هذه البصات الجديدة ستصبح فرصة أو بداية لتصحيح كل الأخطاء التي تتم ممارستها من جانب وسائل النقل الخاصة، بحيث يتم تحديد الأماكن التي لا تتوقف إلا عندها ولأقل وقت ممكن.وبالتالي يتعلم المواطن من أي موقف يجب أن يعتلى الوسيلة التي تحقق هدفه فيقصدها، وعند أي موقف عليه ان يترجل منها فيفعل وليتعلم ان يكمل ما تبقى من مشوار راجلا.
نعود لمعالجات سلطات المرور لبطء وعرقلة الحركة. فهم أيضا اعتمدوا على سياسة المحاولة والخطأ التي تركزت في وصفة واحدة تعتمد على تغيير اتجاهات حركة السير القائمة، والتي كثيرا ما تثبت عدم جدواها فتعود إلى حالها القديم. فلم لا ينظر المسئولون أولا في العوامل التي تؤدى إلى عرقلة الحركة والسعي لمعالجتها قبل ان يتم القفز فوقها والبحث عن معالجات أخرى. فمن أكثر العوامل التي تعمل على عرقلة الحركة، هو عدم احترام الجمهور لقوانين الحركة متى وجدت، بجانب عدم تطبيقها من جانب السلطات المعنية وفى اغلب الأحيان. فالشاهد أن كل الشوارع التي تتعثر الحركة عبرها، يرجع ذلك لا لضيق الطريق ولكن لتضييقه بالسيارات المتراصة بجانبيه، حيث تعمل على اقتطاع ثلث مساحته من كل جانب. فلو تم إخلاء الطريق من مثل هذه العراقيل لانسابت الحركة بكل سهولة ويسر. ثم عدم الالتزام بما تفرضه اشارات المرور الضوئية التي يسارع البعض في تجاهل ما تشير إليه من توقف فيواصل السير، الأمر الذى يضطر أصحاب الحق في الطريق للتوقف أو التعرض لحوادث الحركة. كما ومن أكثر معرقلات الحركة طريقة سير المواطنين بالطرقات ومحاولاتهم قطع الطريق من جانب لآخر. فقد تلاحظ أن الكل يود ان يعبر الطريق من الموقع الذى يريد وبين العربات المتراصة، مما يضطرها للتوقف حتى يعبر من يريد متى تريد. وحتى في وجود طريق المشاة ببعض الطرقات فان المواطن لا يلتزم بالسير عبره حتى لا يضطره ذلك لقطع بعض الأمتار للوصول إليه.
كل هذه الممارسات الخاطئة من جانب سائقي المركبات، عامة كانت أو خاصة، أو من جانب الجمهور، تتم غالبا وفى وجود شرطة المرور التي كثيرا ما يتجاهلها، وما دامت تلك الشرطة لا تعمل على الأقل على لفت نظر المخطئ لخطئه وفى حينه بما يساعده على تجنبه مستقبلا، فان الجميع سيتمادى في الخطأ وستستمر عرقلة الحركة بلا علاج. فنحن في السودان في حاجة ماسة إلى تعلم أدب السير في الطريق واحترام حق الآخرين فيه، بحيث لا نتعدى عليه بأى مبرر كان. لذلك فان تدخل شرطة المرور في إصلاح كل خطأ يصدر من راكب أو راجل هو الذى يساعد على ضبط حركة المرور وتقليل مشاكلها لأقصى درجة ممكنة. طبعا لا نعنى بتدخل شرطة المرور لتصحيح أخطاء المواطنين فرصة لجباية جديدة، افعلوها لوجه الله.
أما قصة جعل بعض الطرقات لاتجاه واحد باعتبار أن في ذلك تسهيلا لحركة المرور وانسيابها فقد أثبتت في أكثر من مرة بأنها ليست العلاج الناجع لتلك المشكلة. فكما أسلفنا فالمطلوب أولا الاستفادة من المساحة المتاحة بكل الشوارع لاستخدامها لسير السيارات المختلفة عليها دون اقتطاع جزء منها لأغراض الوقوف عليها. انظر شارع ألمك نمر بجانبيه ومن بداية ركن المستشفى وحتى شارع الجامعة، ثم شارع الحرية وغيره، لترى حجم المساحة المقتطعة من الطريق لصالح العربات المتوقفة. المطلوب تحديد أماكن كمواقف للسيارات قبل ألتفكير في مواقف لوسائل المواصلات، وليتعلم المواطن أن يترك سيارته في مكان امن ويذهب لقضاء حوائجه ويعود إليها وهو مطمئن بأنها لن تصاب بأذى، وحتى يتخلى المواطن عن سياسة الوقوف عند حنك الجهة التي يقصد بصرف النظر عما يسببه وقوفه ذاك من عرقلة للحركة .
أما الشوارع التي تم جعلها لاتجاه واحد أخيرا فان غالبيتها لا زالت تحتفظ بالفاصل الذى كان يفصل بين اتجاهيها. هذا الفاصل جعل استخدام الشق الثاني من الطريق فيه كثير من المشقة، لذلك نجد الكثيرين يستخدمون نصف الطريق بينما يتعطل النصف الآخر. ولا أدرى ان كان هذا الأمر مقصودا بحيث لو تم الرجوع عن القرار لاحقا، ان تعود حليمة لحالتها القديمة دون إضافة تكلفة لعودة الفاصل ان تمت إزالته الآن، أو كما حدث بالنسبة لشارع القصر من قبل اعتقد ان مساحة الشوارع بالولاية ان أحسن استخدامها قد تساعد كثيرا جدا في فك اختناقات الحركة، وستريحنا وتريحهم من معالجات المحاولة والخطأ.
أخيرا نكرر القول بأن تنظيم الحركة وانسيابها وحلحلة مشاكلها، فقط في عدم اعتقالها بالمواقف وجعلها دائمة السير في حركة دائرية، الفكرة التي يؤمن بها المسئولون ويتفادون تطبيقها.

الصحافة

تعليق واحد

  1. مع الشكر والتقدير للأجتهاد، فأننى أظن ،وبعض الظن (إلا فى هذا المقام) حميد!لا يستقيم الظل والعود أعوج تمامآ!المسألة بكل بساطة الخرطوم بحاجة الى تخطيط مدنى يعيد اليها جزء من مدنيتها وبعد ذلك تتيسر الأمور المحيرة أمثال المواصلات وأماكن راحة النفوس. وبغير ذلك نكون (من يحرث فى البحر )ذات نفسه!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..