حلال الإرهاب وحرامه

فهمي هويدي

اعتذرت عن عدم حضور مؤتمر لمكافحة الإرهاب فى الخرطوم لسببين، أحدهما خاص ذكرته للمستشار الصحفى بالسفارة السودانية الذى نقل إلى الدعوة، والآخر عام للقارئ حق فيه. أما الخاص فهو أن المؤتمر يفترض أن يعقد بالخرطوم يوم الخميس المقبل (١٨/ ٨). وكان الوقت أقصر من أن أعد نفسى للمشاركة فيه. السبب العام والأهم الذى لم أذكره للدبلوماسى السودانى هو أننى لم أعد قادرا على إخفاء استيائى و«قرفى» من الأنظمة التى تمارس الإرهاب ثم لا تكف عن الدعوة إلى مكافحته. كأنما الإرهاب المعترف به فقط هو ما تمارسه الجماعات، أما قمع الأنظمة وإرهابها فهو من وجهة نظرها مشروع ومباح، ذلك رغم أن الأول استثناء فى العمل السياسى والثانى قاعدة فى سلوك الحكومات غير الديمقراطية.

شاءت المقادير أن أتلقى دعوة السفارة السودانية يوم الأربعاء الماضى ١٠/٨، وفى اليوم ذاته وقعت على تقريرين من الخرطوم حول القمع الذى تمارسه السلطة بحق الصحفيين. الأول بخصوص واقعة إلقاء القبض على صحفية تعمل بصحيفة «الجريدة» اسمها حواء رحمة. كانت تؤدى عملها فى تغطية إزالة السلطات لمساكن المدنيين فى حى التكامل بالعاصمة الخرطوم. فما كان من الشرطة إلا أن ألقت القبض عليها ونقلتها إلى «نقطة ارتكاز» الشرطة بالحى، حيث تعرضت للإهانة والضرب والتحقيق. وصرفت بعدما تعهدت بعدم العودة إلى ارتكاب «الجريمة» مرة ثانية. التقرير الثانى عن واقعة أخرى حدثت فى نفس اليوم إذ تمت مصادرة صحيفة «اليوم التالى»، لأن بعض محتويات العدد لم ترق للأجهزة الأمنية. وكانت الأجهزة ذاتها قد صادرت صحيفة «الجريدة» فى يوم سابق بعد طباعة ١٠ آلاف نسخة، وهو ما أدى إلى خسارة قدرت بنحو ٣٠ مليون جنيه سودانى، إضافة إلى ١٣ مليونا حصيلة الإعلانات التى نشرتها فى العدد.

هذا السلوك ليس استثنائيا، لأن مصادرات الصحف اليومية (عددها نحو ٤٠ صحيفة) أصبحت من طقوس وتقاليد الواقع السودانى فى ظل حكم الرئيس البشير الذى يسير الأمور فى البلاد منذ ٢٧ عاما. بسبب من ذلك فما عاد يمر يوم دون أن تداهم الأجهزة الأمنية مقر صحيفة أو أكثر لمصادرتها والتحقيق مع مسئوليها. وفى إحدى المرات تقررت مصادرة ١٢ صحيفة فى يوم واحد. وما يثير الدهشة أن هذه الإجراءات التعسفية تتخذ بحق الصحف لمجرد تصدِّيها لصور القصور أو الفساد من جانب الأجهزة البيروقراطية. حتى إن إحدى الصحفيات تعرضت للاعتداء وصودرت صحيفتها (اليوم التالى) لأنها نشرت تحقيقا عن تلوث مياه النيل الأبيض.
لا غرابة والأمر كذلك أن تصدر منظمة مراسلون بلا حدود تقريرا هذا العام (٢٠١٦) ذكرت فيه أن السودان أصبح واحدا من أسوأ دول العالم فى الحفاظ على الحريات الصحفية. بذات القدر فليس مستغربا أن يحتل السودان فى مؤشر حرية الصحافة والمطبوعات الترتيب ١٧٤ بين ١٨٠ دولة.

لا أنكر أن قمع الصحفيين وإرهابهم فى السودان يتم بدرجة «ألطف» مما نعرفه فى أقطار أخرى شقيقة، لأن إهانة الصحفى وصرفه بعد ذلك ليعود إلى بيته أو مصادرة الصحيفة وإنهاكها ماديا يظل أهون مما يحدث فى دول نعرفها يتم فيها اغتيال الصحفيين وتلفيق التهم لهم أو سجنهم فى الحبس الانفرادى لآجال طويلة. إلا أننا لا ينبغى أن نقارن بما هو أسوأ وأتعس. فضلا عن أن القمع المخفف لا يسقط عنه التهمة. ناهيك عن أنه وثيق الصلة بدرجة اللطف النسبى فى الشخصية السودانية التى لا تعرف اللدد فى الخصومة. ثم لا ننسى أن تحفظنا الأساسى هو على مبدأ القمع والإرهاب وليس على درجته.

ليست تلك المرة الأولى التى اعتذرت فيها عن عدم المشاركة فى مؤتمر عن الإرهاب تنظمه أو تستضيفه دولة تمارس الإرهاب. فقبل سنوات قليلة اتصل بى رئيس إحدى الجامعات العربية ليدعونى إلى مؤتمر دولى ستشارك فيه كل الدول الإسلامية إضافة إلى عدد من الباحثين الغربيين، ولأن سمعة بلاده فى القمع معروفة للكافة، فإننى سألته مازحا هل سيناقش المؤتمر إرهاب الحكومات أم إرهاب الجماعات فقط؟ فوجئ الرجل بسؤالى فقال كلاما لم أفهمه ثم قطع الخط. وبسبب السؤال فإنه لم يجد مبررا لإرسال الدعوة، حيث فهم أن السؤال بمثابة اعتذار ضمنى. وإدانة غير مباشرة لموقف حكومته.

أرجو ألا أكون بحاجة إلى تسجيل موقف من الإرهاب، لكننى أتمنى ألا يتعامل المناهضون له معه بطريقة انتقائية، فيتنافسون على إدانة إرهاب الجماعات ويلتزمون الصمت إزاء إرهاب الأنظمة والحكومات. ليس فقط من باب الالتزام بالموقف القيمى والأخلاقى، ولكن أيضا لأسباب عملية بحتة. ذلك أن التجربة أثبتت أن الأنظمة الاستبدادية هى الوعاء الحقيقى الذى خرجت منه أفكار العنف والإرهاب.
من المفارقات التى كشفت عنها تجاربنا فى السنوات الأخيرة أن أعلى الدول صوتا فى مكافحة الإرهاب والتنديد به. هى أكثرها ممارسة للإرهاب والقمع. الأمر الذى يدعونا إلى الحذر ليس فقط فى استقبال ما يصدر عن تلك الدول من نداءات أو خطابات وإنما يدعونا أيضا إلى الانتباه إلى حجم الانتهاكات التى تمارسها وهى تحدث الضجيج الذى تطلقه لتخفى به الوجه القبيح فى سياساتها الداخلية ومن يريد أن يستزيد فى ذلك فعليه أن يراجع بيانات منظمتى «العفو الدولية» و«هيومان رايتس ووتش» إذ فيها من الوقائع ما نتحرج من ذكره إيثارا للسلامة.

الشروق

تعليق واحد

  1. (ولأن سمعة بلاده فى القمع معروفة للكافة، فإننى سألته مازحا هل سيناقش المؤتمر إرهاب الحكومات أم إرهاب الجماعات فقط؟)

    ** ليتك سألت هذا السؤال للمستشار الصحفى بالسفارة السودانية الذى نقل إلىك الدعوة.. نحن لدينا ارهاب الحكومات وارهاب الجماعات.. لان الحكومة هي الجماعة..وان الجماعة هي ذات الحكومة !!!!

  2. ونديك زيادة جل الصحفين موالين للمؤتمر والصحف مملوكة لافراد منة فمابالك لو كانت محايدة 100%

    العدل اساس الحكم الا اذا كان الغرض خلاف ذلك

  3. ياه أخيرا يا فهمي يا هويدي . أنت وأمثالك من هللتم وطبلتم لهذا النظام . أولا قدم اعتذارك لشعب السودان لمساندتكم لهذا النظام البشع . ثم لكل حادثة حديث

  4. منذ سنوات استاذ فهمي قيل لكم ان هذا النظام لا علاقة له بالاسلام وهو ارهابي وكنتم ندافعون عنه باستماتة ..

    حمدا لله على السلامة

  5. لكنك يا أستاذ هويدى شاركت فى صنعهم ،ونفخت فيهم من ترهات أمانيكم وميولكم للمتأسلمين،،نذكر لك كل كتاباتك وتشجيعك لهم ،،أنت مثل القرضاوى وعبد الوهاب الأفندى وعبد البارى عطوان ،وغيركم كثر ،كلكم قد ساعدتم فى تثبيت هذا الخازوق نكاية فينا ،،،،

  6. الأســتـاذ الإعــلامـي و الـصـفـي فـهـمـي هـويـدي .. ذكــر فـي اللـقـاء مـا يـلـي : –

    لم أعد قادرا على إخفاء استيائى و«قرفى» من الأنظمة التى تمارس الإرهاب ثم لا تكف عن الدعوة إلى مكافحته. كأنما الإرهاب المعترف به فقط هو ما تمارسه الجماعات، أما قمع الأنظمة وإرهابها فهو من وجهة نظرها مشروع ومباح، ذلك رغم أن الأول استثناء فى العمل السياسى والثانى قاعدة فى سلوك الحكومات غير الديمقراطية. .. إنـتهـى .
    :
    أيـن الأتـيـة أسـمـائـهـم .. مـن هـذا الحـديـث:
    :
    الـطـبـال / عـلـي شـمـو.
    الـبـذر /عـمـر الـجـزلـي
    كـل صـحـفـي و قـنـوات تـلـفـزيـون الـمـؤتـمـر الـوطـنـي
    :
    و غـنـي عـن الـذكـر ..مـستـشـار الأمـن الـوطـنـي بـنـكـهـة الـصـحـفـي بـسـفـارة المـؤتـمـر الـوطـنـي بـالـقـاهــرة .. !!

  7. هههههههههههه
    لم يذكر لنا الصحفى من اين يتكلم او يكتب من القاهرة ولا من خارج مصر
    اليسمعك يفتكر انو مصر ماشاء الله تنعم بالحرية والديمقراطية
    الحرية فى السودان عبارة عن نزه مقارنة بما يحدث من انتهاكات لحقوق الانسان فى مصر
    هو مصر فيها حقوق اصلا
    وهذا لا يعنى ان السودان تمام ولكن لانقبل ان يتحدث علينا فاقد الشى لانو فاقد الشى لا يعطي
    وكلنا فى الهوا سوا

  8. دي مراجعات وطلب العفو من الشعب السوداني ولا ايه , برضو الذاكرة لا تنسى الدعم للانقاذ في البدايات ولكن ان تاتي متاخرا خيرا من الا تاتي

  9. الاستاذ فهمي هويدي حينما يكون الاخوان في السلطة فالحكومة ارهابية وحينما يكونون معارضة يصنعون الجماعات الارهابية وحينما يتم سحقهم وسحلهم يصبحو عاقلين وحقانين وناقدين لذاتهم

  10. اتمنى ان يكون موقفك هذا من كل مشروعات المتاسلمين حول العالم بما فيهم تركيا لانها مشروعات سياسيه تنهل من ذات البالوعه وتنتج ذات العفن بدرجات متفاوته فى القرف حتى لا تاتى متاخر دااااايما داااااايما يا هويدى .متعودين يا المتاسلمين ان تكونو اخر من يفهم

  11. الإرهاب صار سمة لهذا العصر على مستوى الدول والجماعات والافراد والمؤسسات والشركات .. فعلى سبيل المثال موقع الراكوبه هنا يمارس الإرهاب فهو اذا كان الموقع يوافق هواه واتجاه ومصالحه ينشر المواضيع والمقالات وتعليقات القراء أما اذا كان خلاف ذلك فهو يتجاهله بكل اريحيه فيا سادتي ايضا للإرهاب صلة بالمصالح .. فعلى الراكوبة ايضا وقف الارهاب الصحفي قبل كل شيء وكثير من المعلقيين هنا ارهابيين لتنكرهم خلف اسماء وهمية فلا تنهو عن خلق وتأتوا بأسوأ وأوسخ منه ايها الإرهابيوون

  12. لا تعول على ما كتبه فهمي هويدي هنا عن موقفه المبدئي
    الأخلاقي من قضايا الحريات . فبالمقارنة بما كتبه مبررا
    للتصرفات ذاتها التي ارتكبها نظام إسلاميي السودان حين
    اتخذها إسلاميو تركيا بعد الانقلاب يتبين لنا أن موقفا ما
    بدأ يتبلور لديه تجاه إسلاميي النظام في السودان لأسباب
    تنظيمية اسلامية أو لاصطفافات النظام مع الخليج أو ما يخص
    سياسات لا يرضاها هوبدي المصري . لقد كتب فهمي هويدي في
    السفير اللبنانية يوم 2 أغسطس 2016 عن تركيا مبررا وموجها
    توجبهات باردة تجيز ما اننكره على السودانيين. . فإلى المقال كاملا :

    قراءة أخرى للحدث التركي

    إضافة إلى المفضلة A A
    فهمى هويدى
    AM 01:47 2016-08-02
    نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-08-02 على الصفحة رقم 11 ? قضايا وآراء
    برغم أن حقائق الانقلاب الفاشل في تركيا لم تتضح تماما، إلا أن ما جرى خلال الأسبوعين الماضيين يستدعي ملاحظات عدة جديرة بالتسجيل.

    (1)

    حين أشاع بعض الإعلاميين أن «أمينة» أصبحت الوحيدة التي لم يتم اعتقالها في تركيا، فقد كان ذلك من أصداء الأرقام الكبيرة التي باتت تُذاع كل يوم عن أعداد الموقوفين والمعتقلين بعد المحاولة الانقلابية التي جرت يوم 15 تموز الماضي. وكان اختيار اسم السيدة التي أفلتت من الاعتقال له دلالته. ذلك أن أمينة هي زوجة الرئيس رجب طيب أردوغان.

    في أعقاب فشل المحاولة قيل إنه تم اعتقال ستة آلاف شخص. ثم ارتفع الرقم بعد ثلاثة أيام إلى تسعة، ووصل في نهاية الأسبوع الأول إلى اثني عشر ألفاً. وفى بداية الأسبوع الحالي أعلن وزير الداخلية أن عدد الموقوفين وصل إلى ثمانية عشر ألف شخص. وتحدثت وكالات الأنباء عن تسريح 1684 عسكريا بينهم 149 جنرالا وأميرالا، وعن صدور قرارات بإغلاق 45 صحيفة و16 شبكة تليفزيونية و3 وكالات أنباء و23 إذاعة و15 مجلة و29 دارا للنشر، وشملت القرارات توقيف 89 إعلاميا اتهموا بالانتماء إلى جماعة فتح الله غولن التي قيل إنها وراء المحاولة الانقلابية. ومن أخبار يوم الجمعة الماضي 29/7 أن 8113 شخصا وضعوا تحت الحبس الاحتياطي في حين أطلق سراح ثلاثة آلاف آخرين.

    الصورة التي ترسمها الأرقام تبرر الشائعة التي أُطلقت موحية بأن الشعب التركي أصبح رهن الاعتقال، وهو ما عبرت عنه صراحة بعض التعليقات التي تناولتها مواقع التواصل الاجتماعي. وحين حاولت تحرى الأمر من الدوائر المعنية في أنقرة تلقيت الإيضاحات التالية:

    ـ إن حملة تطهير مؤسسات الدولة من عناصر المحاولة الانقلابية لم تنته. والتوسع في الاشتباه في أجواء المفاجأة الصادمة مفهوم. وطبقا لما أعلنه الرئيس أردوغان يوم السبت 31/7 ونقلته جريدة «الأهرام» يوم الأحد، فإن عدد الموقوفين خلال الأسبوعين الماضيين زاد قليلاً عن ثمانية عشر ألفا وستمئة شخص، وهؤلاء مثارة حولهم شبهات ضعيفة ولكنهم محددو الإقامة في أقسام الشرطة احتياطيا. أما المعتقلون الذين نُسبت إليهم اتهامات قوية وأودعوا السجون فعددهم عشرة آلاف ومئة وسبعة وثلاثون شخصا والتحقيقات الجارية ستحدد مصير الجميع.

    ـ إن بعض الأرقام التي أعلنت أعطت انطباعات مغلوطة، فالقول بأنه تم إغلاق 45 صحيفة صحيح وغير دقيق. فالصحيح أن القرارات صدرت بالفعل، لكنها لم تذكر أن في تركيا 1860 صحيفة قومية ومحلية. وأغلب الصحف التي تم تعطيلها كانت إقليمية ومحلية بمعنى أنها لم تكن توزع على مستوى الجمهورية، والصحف الكبيرة التي جرى تعطيلها عددها سبع فقط. ولم تغلق لأنها معارضة، ولكن لأنها كانت ذات صلة بجماعة فتح الله غولن التي استثمرت الكثير في المجال الإعلامي. وفي رأي السلطات المختصة أن تلك الصحف كانت وراء تسريبات مغلوطة مهدت لمحاولة الانقلاب. والحاصل في قطاع الصحافة له نظيره في مجال النشر والبث التليفزيوني.

    ـ إن توسيع نطاق التحقيقات صار من تقاليد المراحل التي تعقب المحاولات الانقلابية، وكنت قد أشرت في مقالتي عن دروس التجربة التركية (الذي نشر في 19/7) أنه في أعقاب انقلاب العام 1980 تم اعتقال 650 ألف شخص، وصدرت أحكام بالإعدام على 517 آخرين وتم تنفيذ الحكم بحق خمسين منهم، كما فصل 30 ألفا من وظائفهم. وتم ترحيل 30 ألفا آخرين خارج البلاد وإسقاط الجنسية عن 14 ألفا، أما انقلاب العام 1960 الذي أفضى إلى إعدام الرئيس عدنان مندريس واثنين من الوزراء، فقد أقال 235 جنرالا من الجيش وفصل ثلاثة آلاف ضابط من وظائفهم، كما تم في ظله فصل 500 قاض و1400 أستاذ جامعي.

    (2)

    هذه الملاحظة الأولى تعني أن إجراءات مرحلة التطهير لها ملابساتها الخاصة والاستثنائية وهذه لا تصلح معيارا للحكم على أوضاع ما بعد محاولة الانقلاب. وغاية ما يمكن أن توصف به أنها تصنف ضمن جهود التثبت من إفشال المحاولة وإزالة آثارها. وقد عبرت عن ذلك المعنى في مقام سابق، الأسبوع الماضي، في ما نشر تحت عنوان اختزال الفكرة في كلمات ثلاث هي: راقبوا ولا تحاكموا.

    وإذ نفهم مشاعر الذين سارعوا إلى الترحيب بفشل الانقلاب، وكنت واحدا منهم، إلا أنى أزعم أن الذين باركوا كل الإجراءات اللاحقة على ذلك أوقعهم تسرعهم في الخطأ. ذلك أن الملف لايزال مفتوحا ولم يتأكد بعد ما إذا كان الذي جرى سيمهد الطريق أمام الانقلاب على الديموقراطية أم لا. لذلك قلت إن الترحيب بفشل الانقلاب واجب لأنه كان يستهدف استعادة حكم العسكر بظلاله الكئيبة وتاريخه الأسود، لكن الحذر من تداعيات فشل المحاولة أوجب كي لا تُتخذ المحاولة ذريعة لتبرير التراجع عن الديموقراطية. بالمثل فإن الذين سارعوا إلى تأييد الانقلاب ارتكبوا خطأ مضاعفا. من ناحية لأنهم راهنوا على حكم العسكر ومن ثم قبلوا بإجهاض المسيرة الديموقراطية والانتقال بتركيا من وضع تحفظوا عليه واعتبروه سيئا، إلى وضع آخر أسوأ وأتعس. ومن ناحية ثانية لأنهم قدموا حساباتهم وثاراتهم أيا كان مصدرها على مستقبل الوطن ومصير نهضته.

    تتفرع عما سبق ثلاث ملاحظات فرعية هي:

    ـ إن إجراءات السلطة في أنقرة أيّدتها الأحزاب العلمانية التركية، وفي المقدمة منها حزب «الشعب الجمهوري» و «الحزب القومي» و «حزب الشعوب الديموقراطي». وظلت في تأييدها ملتزمة بموقف الترحيب الحذر الذي يوافق على إجراءات التطهير لكنه يتمسك بالحفاظ على المسار الديموقراطي.

    ـ إن الإجراءات التي اتخذت اتسمت بالشفافية النسبية. الأمر الذي أتاح لنا أن نعرف أعداد المحتجزين والمعتقلين أو المجمدين والمفصولين من كل فئة وقطاع، كما أتاح لنا أن نتابع التطور الذي طرأ على تلك الأعداد. وهي ملاحظة تثير انتباهنا في العالم العربي، حيث تتخذ الإجراءات ذاتها وأكثر منها، لكنها تظل «أسرارا» محاطة بالكتمان ومتروكة للتخمين والتقديرات التي قد تصيب أو تخطئ.

    ـ إن التعامل الإعلامي مع الحدث خارجيا وعربيا بوجه أخص اتسم بصفتين إحداهما الشخصنة والثانية الشيطنة. فالسهام كلها استهدفت شخص الرئيس أردوغان، ومن ثم نسبت الشرور كلها إليه. وهذه الحملة لم تبدأ مع محاولة الانقلاب، لأنها استمرت طوال العامين الأخيرين على الأقل. وهو ما يذكرنا بأبلسة الرئيس صدام حسين قبل غزو العراق وقبله بدرجة ما الرئيس جمال عبدالناصر. في حين لا شيء من ذلك وقع في خصوص «الرئيس» بشار الأسد الذي قتل أو تسبب في قتل نصف مليون سوري ودمر وطنا بأكمله على شعبه.

    (3)

    الملاحظة الأخرى المهمة أنى وقعت على كتابات عمدت إلى التقليل من دور المجتمع التركي في إفشال المحاولة الانقلابية، وأخرى لجأت إلى تشويه ذلك الدور أو التبسيط الساذج له. وقيل في هذا الصدد إن الذين أيدوا أردوغان هم «ميليشيات» حزب «العدالة والتنمية». وقرأت لمن قال إن الصراع في تركيا هو إسلامي – إسلامي بعدما كان إسلاميا-علمانيا. إلى غير ذلك من التحليلات التي تنم عن فقر في المعرفة والخيال، وعن قراءة تنطلق من الكيد والخصومة السياسية، ولا علاقة لها بمعطيات الواقع. وإذ أزعم أن أغلب تلك التعليقات يتعذر أخذها على محمل الجد، إلا أن أكثر ما همني فيها ملاحظة أن كثيرين في العالم العربي أصابهم الإحباط بحيث أصبحوا عاجزين عن تصور قيام مجتمع للدفاع عن نظامه. إذ المعتاد أن تتولى المؤسسات العسكرية تلك المهمة، وإذا كنا قد عرفنا حشودا شعبية خرجت لإسقاط نظام ورأينا ذلك في حراك «الربيع العربي»، إلا أننا لم نشهد خروجا لتلك الحشود دفاعا عن نظامها. لكن ذلك حدث بجدارة في المشهد التركي. إذ إلى جانب الدور الذي قامت به عناصر القوات المسلحة والقوات الخاصة والشرطة، فإن حركة المجتمع كان لها دورها الفاعل في التصدي للانقلاب برغم اتساع نطاقه واستناده إلى عناصر للقوة لا ينبغي التقليل من شأنها (الطيران مثلا). فقد تحركت الأحزاب وكذلك وسائل الإعلام ووقفت بصلابة إلى جانب الشرعية والديموقراطية، لكن خروج الجماهير غير المنظمة وعناصر الطبقة الوسطى التي غير النظام القائم حياتها وأنعش أحلامها لم يأخذ حقه من الأضواء.

    إنه كان مفهوما موقف الطبقة السياسية التي تعرف ماذا يعنى حكم العسكر وما هو مصير الديموقراطية إذا ما قُدر للانقلاب أن ينجح، لكن الجماهير العادية التي تضاعفت دخولها ثلاث مرات خلال السنوات العشر الأخيرة حرّكها إدراكها أنها تدافع عن نفسها ومستقبلها وأن لها مصلحة حقيقية في استمرار النظام والدفاع عنه. وذلك ما يفسر خروجها إلى الشوارع طوال الليل حين ذاع خبر الانقلاب. وهو ما يفسر أيضا سعي بعضهم لعرقلة سير الدبابات، إما بالتمدد على أرض الشارع وإما بقطع الطريق بالسيارات الخاصة. ولا ينسى في هذا الصدد أن بعض أصحاب السيارات اصطفوا على مدرج إقلاع الطائرات في أنقرة، لمنع الانقلابيين من استخدامه بعدما قصفوا مقر البرلمان واستهدفوا مقر القوات الخاصة ما أدى إلى مقتل 50 عنصرا منهم.

    (4)

    لقد بدا واضحا مما تكشف حتى الآن أن الإعداد لمحاولة الانقلاب كان دقيقا ومحكما، وأن عناصره انتشرت في أوسع رقعة ممكنة من مفاصل الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية، الأمر الذي استغرق وقتا طويلا وجهدا فائقا، وهو ما يلفت الانتباه من زاويتين هما:

    ـ إن العملية أكبر بكثير من جماعة «خدمة» التي يقودها الداعية فتح الله غولن المقيم بالولايات المتحدة الأميركية. وإذا كان المرجح أن تكون الجماعة ضالعة فيها، كما أن المؤكد أن عناصرها لها انتشارها في مفاصل الدولة المدنية والعسكرية، إلا أن العملية تظل أكبر منها، حيث يفهم اشتراكها أو استخدامها في المحاولة، لكن يستبعد عقلا أن تكون وحدها المحرك الرئيسي لها كما يشير الخطاب السياسي التركي.

    ـ إن ترتيب عملية بذلك الحجم الكبير لا بد أنه استغرق وقتا طويلا نسبيا. حين لا تكتشف إلا عندما بدأ التنفيذ ونزلت الدبابات إلى الشوارع بالفعل، فإن ذلك يعني أن ثمة قصورا استخباريا عجز عن تتبع خيوطها في الوقت المناسب.

    الملاحظة الأخيرة أن المعلومات التي توافرت حتى الآن ركزت على أطراف المحاولة في الداخل، لكنها لم تتطرق إلى دور للخارج في العملية، التي لا يتصور عقل أن تتم في بلد كبير ومهم مثل تركيا من دون أن ترتب قدراً من التفاهم مع الخارج على الأقل لتأمين مصالحه. إن ثمة تهليلا تابعناه في إسرائيل لصالح الانقلاب، وترحيبا به في البداية من جانب واشنطن، ولاحظنا صدور إشارات لاحقة من جانب بعض المسؤولين الأتراك عن تشجيع أميركي للانقلابيين، إلا أن ثمة علامات استفهام حول موقف بعض الأطراف العربية مما جرى، وهو ما أثاره تقرير بثه من لندن في 29/7 موقع «ميدل إيست آي» («عين الشرق الأوسط»). إذ تحدث عن دور عربي له صلة بالمحاولة، وأشار إلى تحويل أموال خليجية إلى فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا عبر رجل أعمال فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة. إلا أن تلك مجرد معلومات لا سبيل للتثبت من صحتها، ومع ذلك فإن الفصل المتعلق بدور الخارج يمكن أن يتضح خلال الأسابيع المقبلة، الأمر الذي قد يفاجئنا بما لم يكن في الحسبان. وما علينا في هذا الصدد إلا أن ننتظر لكي نرى ما تسفر عنه التحقيقات وترشدنا إليه التسريبات.

  13. (ولأن سمعة بلاده فى القمع معروفة للكافة، فإننى سألته مازحا هل سيناقش المؤتمر إرهاب الحكومات أم إرهاب الجماعات فقط؟)

    ** ليتك سألت هذا السؤال للمستشار الصحفى بالسفارة السودانية الذى نقل إلىك الدعوة.. نحن لدينا ارهاب الحكومات وارهاب الجماعات.. لان الحكومة هي الجماعة..وان الجماعة هي ذات الحكومة !!!!

  14. ونديك زيادة جل الصحفين موالين للمؤتمر والصحف مملوكة لافراد منة فمابالك لو كانت محايدة 100%

    العدل اساس الحكم الا اذا كان الغرض خلاف ذلك

  15. ياه أخيرا يا فهمي يا هويدي . أنت وأمثالك من هللتم وطبلتم لهذا النظام . أولا قدم اعتذارك لشعب السودان لمساندتكم لهذا النظام البشع . ثم لكل حادثة حديث

  16. منذ سنوات استاذ فهمي قيل لكم ان هذا النظام لا علاقة له بالاسلام وهو ارهابي وكنتم ندافعون عنه باستماتة ..

    حمدا لله على السلامة

  17. لكنك يا أستاذ هويدى شاركت فى صنعهم ،ونفخت فيهم من ترهات أمانيكم وميولكم للمتأسلمين،،نذكر لك كل كتاباتك وتشجيعك لهم ،،أنت مثل القرضاوى وعبد الوهاب الأفندى وعبد البارى عطوان ،وغيركم كثر ،كلكم قد ساعدتم فى تثبيت هذا الخازوق نكاية فينا ،،،،

  18. الأســتـاذ الإعــلامـي و الـصـفـي فـهـمـي هـويـدي .. ذكــر فـي اللـقـاء مـا يـلـي : –

    لم أعد قادرا على إخفاء استيائى و«قرفى» من الأنظمة التى تمارس الإرهاب ثم لا تكف عن الدعوة إلى مكافحته. كأنما الإرهاب المعترف به فقط هو ما تمارسه الجماعات، أما قمع الأنظمة وإرهابها فهو من وجهة نظرها مشروع ومباح، ذلك رغم أن الأول استثناء فى العمل السياسى والثانى قاعدة فى سلوك الحكومات غير الديمقراطية. .. إنـتهـى .
    :
    أيـن الأتـيـة أسـمـائـهـم .. مـن هـذا الحـديـث:
    :
    الـطـبـال / عـلـي شـمـو.
    الـبـذر /عـمـر الـجـزلـي
    كـل صـحـفـي و قـنـوات تـلـفـزيـون الـمـؤتـمـر الـوطـنـي
    :
    و غـنـي عـن الـذكـر ..مـستـشـار الأمـن الـوطـنـي بـنـكـهـة الـصـحـفـي بـسـفـارة المـؤتـمـر الـوطـنـي بـالـقـاهــرة .. !!

  19. هههههههههههه
    لم يذكر لنا الصحفى من اين يتكلم او يكتب من القاهرة ولا من خارج مصر
    اليسمعك يفتكر انو مصر ماشاء الله تنعم بالحرية والديمقراطية
    الحرية فى السودان عبارة عن نزه مقارنة بما يحدث من انتهاكات لحقوق الانسان فى مصر
    هو مصر فيها حقوق اصلا
    وهذا لا يعنى ان السودان تمام ولكن لانقبل ان يتحدث علينا فاقد الشى لانو فاقد الشى لا يعطي
    وكلنا فى الهوا سوا

  20. دي مراجعات وطلب العفو من الشعب السوداني ولا ايه , برضو الذاكرة لا تنسى الدعم للانقاذ في البدايات ولكن ان تاتي متاخرا خيرا من الا تاتي

  21. الاستاذ فهمي هويدي حينما يكون الاخوان في السلطة فالحكومة ارهابية وحينما يكونون معارضة يصنعون الجماعات الارهابية وحينما يتم سحقهم وسحلهم يصبحو عاقلين وحقانين وناقدين لذاتهم

  22. اتمنى ان يكون موقفك هذا من كل مشروعات المتاسلمين حول العالم بما فيهم تركيا لانها مشروعات سياسيه تنهل من ذات البالوعه وتنتج ذات العفن بدرجات متفاوته فى القرف حتى لا تاتى متاخر دااااايما داااااايما يا هويدى .متعودين يا المتاسلمين ان تكونو اخر من يفهم

  23. الإرهاب صار سمة لهذا العصر على مستوى الدول والجماعات والافراد والمؤسسات والشركات .. فعلى سبيل المثال موقع الراكوبه هنا يمارس الإرهاب فهو اذا كان الموقع يوافق هواه واتجاه ومصالحه ينشر المواضيع والمقالات وتعليقات القراء أما اذا كان خلاف ذلك فهو يتجاهله بكل اريحيه فيا سادتي ايضا للإرهاب صلة بالمصالح .. فعلى الراكوبة ايضا وقف الارهاب الصحفي قبل كل شيء وكثير من المعلقيين هنا ارهابيين لتنكرهم خلف اسماء وهمية فلا تنهو عن خلق وتأتوا بأسوأ وأوسخ منه ايها الإرهابيوون

  24. لا تعول على ما كتبه فهمي هويدي هنا عن موقفه المبدئي
    الأخلاقي من قضايا الحريات . فبالمقارنة بما كتبه مبررا
    للتصرفات ذاتها التي ارتكبها نظام إسلاميي السودان حين
    اتخذها إسلاميو تركيا بعد الانقلاب يتبين لنا أن موقفا ما
    بدأ يتبلور لديه تجاه إسلاميي النظام في السودان لأسباب
    تنظيمية اسلامية أو لاصطفافات النظام مع الخليج أو ما يخص
    سياسات لا يرضاها هوبدي المصري . لقد كتب فهمي هويدي في
    السفير اللبنانية يوم 2 أغسطس 2016 عن تركيا مبررا وموجها
    توجبهات باردة تجيز ما اننكره على السودانيين. . فإلى المقال كاملا :

    قراءة أخرى للحدث التركي

    إضافة إلى المفضلة A A
    فهمى هويدى
    AM 01:47 2016-08-02
    نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-08-02 على الصفحة رقم 11 ? قضايا وآراء
    برغم أن حقائق الانقلاب الفاشل في تركيا لم تتضح تماما، إلا أن ما جرى خلال الأسبوعين الماضيين يستدعي ملاحظات عدة جديرة بالتسجيل.

    (1)

    حين أشاع بعض الإعلاميين أن «أمينة» أصبحت الوحيدة التي لم يتم اعتقالها في تركيا، فقد كان ذلك من أصداء الأرقام الكبيرة التي باتت تُذاع كل يوم عن أعداد الموقوفين والمعتقلين بعد المحاولة الانقلابية التي جرت يوم 15 تموز الماضي. وكان اختيار اسم السيدة التي أفلتت من الاعتقال له دلالته. ذلك أن أمينة هي زوجة الرئيس رجب طيب أردوغان.

    في أعقاب فشل المحاولة قيل إنه تم اعتقال ستة آلاف شخص. ثم ارتفع الرقم بعد ثلاثة أيام إلى تسعة، ووصل في نهاية الأسبوع الأول إلى اثني عشر ألفاً. وفى بداية الأسبوع الحالي أعلن وزير الداخلية أن عدد الموقوفين وصل إلى ثمانية عشر ألف شخص. وتحدثت وكالات الأنباء عن تسريح 1684 عسكريا بينهم 149 جنرالا وأميرالا، وعن صدور قرارات بإغلاق 45 صحيفة و16 شبكة تليفزيونية و3 وكالات أنباء و23 إذاعة و15 مجلة و29 دارا للنشر، وشملت القرارات توقيف 89 إعلاميا اتهموا بالانتماء إلى جماعة فتح الله غولن التي قيل إنها وراء المحاولة الانقلابية. ومن أخبار يوم الجمعة الماضي 29/7 أن 8113 شخصا وضعوا تحت الحبس الاحتياطي في حين أطلق سراح ثلاثة آلاف آخرين.

    الصورة التي ترسمها الأرقام تبرر الشائعة التي أُطلقت موحية بأن الشعب التركي أصبح رهن الاعتقال، وهو ما عبرت عنه صراحة بعض التعليقات التي تناولتها مواقع التواصل الاجتماعي. وحين حاولت تحرى الأمر من الدوائر المعنية في أنقرة تلقيت الإيضاحات التالية:

    ـ إن حملة تطهير مؤسسات الدولة من عناصر المحاولة الانقلابية لم تنته. والتوسع في الاشتباه في أجواء المفاجأة الصادمة مفهوم. وطبقا لما أعلنه الرئيس أردوغان يوم السبت 31/7 ونقلته جريدة «الأهرام» يوم الأحد، فإن عدد الموقوفين خلال الأسبوعين الماضيين زاد قليلاً عن ثمانية عشر ألفا وستمئة شخص، وهؤلاء مثارة حولهم شبهات ضعيفة ولكنهم محددو الإقامة في أقسام الشرطة احتياطيا. أما المعتقلون الذين نُسبت إليهم اتهامات قوية وأودعوا السجون فعددهم عشرة آلاف ومئة وسبعة وثلاثون شخصا والتحقيقات الجارية ستحدد مصير الجميع.

    ـ إن بعض الأرقام التي أعلنت أعطت انطباعات مغلوطة، فالقول بأنه تم إغلاق 45 صحيفة صحيح وغير دقيق. فالصحيح أن القرارات صدرت بالفعل، لكنها لم تذكر أن في تركيا 1860 صحيفة قومية ومحلية. وأغلب الصحف التي تم تعطيلها كانت إقليمية ومحلية بمعنى أنها لم تكن توزع على مستوى الجمهورية، والصحف الكبيرة التي جرى تعطيلها عددها سبع فقط. ولم تغلق لأنها معارضة، ولكن لأنها كانت ذات صلة بجماعة فتح الله غولن التي استثمرت الكثير في المجال الإعلامي. وفي رأي السلطات المختصة أن تلك الصحف كانت وراء تسريبات مغلوطة مهدت لمحاولة الانقلاب. والحاصل في قطاع الصحافة له نظيره في مجال النشر والبث التليفزيوني.

    ـ إن توسيع نطاق التحقيقات صار من تقاليد المراحل التي تعقب المحاولات الانقلابية، وكنت قد أشرت في مقالتي عن دروس التجربة التركية (الذي نشر في 19/7) أنه في أعقاب انقلاب العام 1980 تم اعتقال 650 ألف شخص، وصدرت أحكام بالإعدام على 517 آخرين وتم تنفيذ الحكم بحق خمسين منهم، كما فصل 30 ألفا من وظائفهم. وتم ترحيل 30 ألفا آخرين خارج البلاد وإسقاط الجنسية عن 14 ألفا، أما انقلاب العام 1960 الذي أفضى إلى إعدام الرئيس عدنان مندريس واثنين من الوزراء، فقد أقال 235 جنرالا من الجيش وفصل ثلاثة آلاف ضابط من وظائفهم، كما تم في ظله فصل 500 قاض و1400 أستاذ جامعي.

    (2)

    هذه الملاحظة الأولى تعني أن إجراءات مرحلة التطهير لها ملابساتها الخاصة والاستثنائية وهذه لا تصلح معيارا للحكم على أوضاع ما بعد محاولة الانقلاب. وغاية ما يمكن أن توصف به أنها تصنف ضمن جهود التثبت من إفشال المحاولة وإزالة آثارها. وقد عبرت عن ذلك المعنى في مقام سابق، الأسبوع الماضي، في ما نشر تحت عنوان اختزال الفكرة في كلمات ثلاث هي: راقبوا ولا تحاكموا.

    وإذ نفهم مشاعر الذين سارعوا إلى الترحيب بفشل الانقلاب، وكنت واحدا منهم، إلا أنى أزعم أن الذين باركوا كل الإجراءات اللاحقة على ذلك أوقعهم تسرعهم في الخطأ. ذلك أن الملف لايزال مفتوحا ولم يتأكد بعد ما إذا كان الذي جرى سيمهد الطريق أمام الانقلاب على الديموقراطية أم لا. لذلك قلت إن الترحيب بفشل الانقلاب واجب لأنه كان يستهدف استعادة حكم العسكر بظلاله الكئيبة وتاريخه الأسود، لكن الحذر من تداعيات فشل المحاولة أوجب كي لا تُتخذ المحاولة ذريعة لتبرير التراجع عن الديموقراطية. بالمثل فإن الذين سارعوا إلى تأييد الانقلاب ارتكبوا خطأ مضاعفا. من ناحية لأنهم راهنوا على حكم العسكر ومن ثم قبلوا بإجهاض المسيرة الديموقراطية والانتقال بتركيا من وضع تحفظوا عليه واعتبروه سيئا، إلى وضع آخر أسوأ وأتعس. ومن ناحية ثانية لأنهم قدموا حساباتهم وثاراتهم أيا كان مصدرها على مستقبل الوطن ومصير نهضته.

    تتفرع عما سبق ثلاث ملاحظات فرعية هي:

    ـ إن إجراءات السلطة في أنقرة أيّدتها الأحزاب العلمانية التركية، وفي المقدمة منها حزب «الشعب الجمهوري» و «الحزب القومي» و «حزب الشعوب الديموقراطي». وظلت في تأييدها ملتزمة بموقف الترحيب الحذر الذي يوافق على إجراءات التطهير لكنه يتمسك بالحفاظ على المسار الديموقراطي.

    ـ إن الإجراءات التي اتخذت اتسمت بالشفافية النسبية. الأمر الذي أتاح لنا أن نعرف أعداد المحتجزين والمعتقلين أو المجمدين والمفصولين من كل فئة وقطاع، كما أتاح لنا أن نتابع التطور الذي طرأ على تلك الأعداد. وهي ملاحظة تثير انتباهنا في العالم العربي، حيث تتخذ الإجراءات ذاتها وأكثر منها، لكنها تظل «أسرارا» محاطة بالكتمان ومتروكة للتخمين والتقديرات التي قد تصيب أو تخطئ.

    ـ إن التعامل الإعلامي مع الحدث خارجيا وعربيا بوجه أخص اتسم بصفتين إحداهما الشخصنة والثانية الشيطنة. فالسهام كلها استهدفت شخص الرئيس أردوغان، ومن ثم نسبت الشرور كلها إليه. وهذه الحملة لم تبدأ مع محاولة الانقلاب، لأنها استمرت طوال العامين الأخيرين على الأقل. وهو ما يذكرنا بأبلسة الرئيس صدام حسين قبل غزو العراق وقبله بدرجة ما الرئيس جمال عبدالناصر. في حين لا شيء من ذلك وقع في خصوص «الرئيس» بشار الأسد الذي قتل أو تسبب في قتل نصف مليون سوري ودمر وطنا بأكمله على شعبه.

    (3)

    الملاحظة الأخرى المهمة أنى وقعت على كتابات عمدت إلى التقليل من دور المجتمع التركي في إفشال المحاولة الانقلابية، وأخرى لجأت إلى تشويه ذلك الدور أو التبسيط الساذج له. وقيل في هذا الصدد إن الذين أيدوا أردوغان هم «ميليشيات» حزب «العدالة والتنمية». وقرأت لمن قال إن الصراع في تركيا هو إسلامي – إسلامي بعدما كان إسلاميا-علمانيا. إلى غير ذلك من التحليلات التي تنم عن فقر في المعرفة والخيال، وعن قراءة تنطلق من الكيد والخصومة السياسية، ولا علاقة لها بمعطيات الواقع. وإذ أزعم أن أغلب تلك التعليقات يتعذر أخذها على محمل الجد، إلا أن أكثر ما همني فيها ملاحظة أن كثيرين في العالم العربي أصابهم الإحباط بحيث أصبحوا عاجزين عن تصور قيام مجتمع للدفاع عن نظامه. إذ المعتاد أن تتولى المؤسسات العسكرية تلك المهمة، وإذا كنا قد عرفنا حشودا شعبية خرجت لإسقاط نظام ورأينا ذلك في حراك «الربيع العربي»، إلا أننا لم نشهد خروجا لتلك الحشود دفاعا عن نظامها. لكن ذلك حدث بجدارة في المشهد التركي. إذ إلى جانب الدور الذي قامت به عناصر القوات المسلحة والقوات الخاصة والشرطة، فإن حركة المجتمع كان لها دورها الفاعل في التصدي للانقلاب برغم اتساع نطاقه واستناده إلى عناصر للقوة لا ينبغي التقليل من شأنها (الطيران مثلا). فقد تحركت الأحزاب وكذلك وسائل الإعلام ووقفت بصلابة إلى جانب الشرعية والديموقراطية، لكن خروج الجماهير غير المنظمة وعناصر الطبقة الوسطى التي غير النظام القائم حياتها وأنعش أحلامها لم يأخذ حقه من الأضواء.

    إنه كان مفهوما موقف الطبقة السياسية التي تعرف ماذا يعنى حكم العسكر وما هو مصير الديموقراطية إذا ما قُدر للانقلاب أن ينجح، لكن الجماهير العادية التي تضاعفت دخولها ثلاث مرات خلال السنوات العشر الأخيرة حرّكها إدراكها أنها تدافع عن نفسها ومستقبلها وأن لها مصلحة حقيقية في استمرار النظام والدفاع عنه. وذلك ما يفسر خروجها إلى الشوارع طوال الليل حين ذاع خبر الانقلاب. وهو ما يفسر أيضا سعي بعضهم لعرقلة سير الدبابات، إما بالتمدد على أرض الشارع وإما بقطع الطريق بالسيارات الخاصة. ولا ينسى في هذا الصدد أن بعض أصحاب السيارات اصطفوا على مدرج إقلاع الطائرات في أنقرة، لمنع الانقلابيين من استخدامه بعدما قصفوا مقر البرلمان واستهدفوا مقر القوات الخاصة ما أدى إلى مقتل 50 عنصرا منهم.

    (4)

    لقد بدا واضحا مما تكشف حتى الآن أن الإعداد لمحاولة الانقلاب كان دقيقا ومحكما، وأن عناصره انتشرت في أوسع رقعة ممكنة من مفاصل الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية، الأمر الذي استغرق وقتا طويلا وجهدا فائقا، وهو ما يلفت الانتباه من زاويتين هما:

    ـ إن العملية أكبر بكثير من جماعة «خدمة» التي يقودها الداعية فتح الله غولن المقيم بالولايات المتحدة الأميركية. وإذا كان المرجح أن تكون الجماعة ضالعة فيها، كما أن المؤكد أن عناصرها لها انتشارها في مفاصل الدولة المدنية والعسكرية، إلا أن العملية تظل أكبر منها، حيث يفهم اشتراكها أو استخدامها في المحاولة، لكن يستبعد عقلا أن تكون وحدها المحرك الرئيسي لها كما يشير الخطاب السياسي التركي.

    ـ إن ترتيب عملية بذلك الحجم الكبير لا بد أنه استغرق وقتا طويلا نسبيا. حين لا تكتشف إلا عندما بدأ التنفيذ ونزلت الدبابات إلى الشوارع بالفعل، فإن ذلك يعني أن ثمة قصورا استخباريا عجز عن تتبع خيوطها في الوقت المناسب.

    الملاحظة الأخيرة أن المعلومات التي توافرت حتى الآن ركزت على أطراف المحاولة في الداخل، لكنها لم تتطرق إلى دور للخارج في العملية، التي لا يتصور عقل أن تتم في بلد كبير ومهم مثل تركيا من دون أن ترتب قدراً من التفاهم مع الخارج على الأقل لتأمين مصالحه. إن ثمة تهليلا تابعناه في إسرائيل لصالح الانقلاب، وترحيبا به في البداية من جانب واشنطن، ولاحظنا صدور إشارات لاحقة من جانب بعض المسؤولين الأتراك عن تشجيع أميركي للانقلابيين، إلا أن ثمة علامات استفهام حول موقف بعض الأطراف العربية مما جرى، وهو ما أثاره تقرير بثه من لندن في 29/7 موقع «ميدل إيست آي» («عين الشرق الأوسط»). إذ تحدث عن دور عربي له صلة بالمحاولة، وأشار إلى تحويل أموال خليجية إلى فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا عبر رجل أعمال فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة. إلا أن تلك مجرد معلومات لا سبيل للتثبت من صحتها، ومع ذلك فإن الفصل المتعلق بدور الخارج يمكن أن يتضح خلال الأسابيع المقبلة، الأمر الذي قد يفاجئنا بما لم يكن في الحسبان. وما علينا في هذا الصدد إلا أن ننتظر لكي نرى ما تسفر عنه التحقيقات وترشدنا إليه التسريبات.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..